قبل بدء الموسم، لم يكن أكثر المتفائلين من جمهور ليفربول وروما يظن أن فريقه سيكون طرفًا في نهائي دوري أبطال أوروبا. إذ لم تكن حالة الفريقين على نفس الدرجة من الجاهزية والقوة للمنافسين التقليديين علي البطولة، وبدا أن وصول ليفربول وروما لمرحلة متقدمة من الأدوار الإقصائية يعد أمرًا كافيًا في ضوء ما يمر به الناديان من تعديلات إدارية وفنية ومشروع جديد.

لكن كرة القدم منحتنا فصلًا مثيرًا من فصولها التي لا تنتهي. عندما تمكن ليفربول إلى جانب روما من الوصول إلى دور قبل النهائي بخلاف أغلب التوقعات، وبعد أن أقصي الثنائي في مسيرة كل منهما أحد هؤلاء المرشحين بقوة على التتويج بالبطولة الأوروبية الأهم.

جاءت القرعة، لتضع الريدز بمواجهة ذئاب العاصمة الإيطالية، لتتجه عندها أغلب الأنظار صوب «محمد صلاح» لاستكشاف كيف سيكون اللقاء الأول بينه وبين وفريقه السابق، خاصة وأن الجناح المصري اعتاد التألق والتسجيل أمام فرقه السابقة، كفيورنتينا وتشيلسي، والأمس جاء الدور على روما، لكن صلاح كان أكثر قسوة هذه المرة!

صلاح، الذي فاز لتوّه بلقب أفضل لاعبي البريمرليج، قاد فريقه ليضع قدمًا بنهائي كييف، بعد أن سجل في مرمى روما هدفين، وصنع ثنائية أخرى، ضمن فوز ليفربول العريض بإحدى أكثر ليالي هذا الموسم إثارة، وأغزرها تهديفًا.


الشوط الأول: 25 دقيقة في عقل دي فرانشيسكو

في ليفربول هناك قاعدة. وهي أن الفريق نادرًا ما يدخل مباراة وهو مكتمل العدد بلا إصابات، الأغرب أن الإصابات في صفوف «كلوب» لا تقتصر على خط دون الآخر، بل يتعرض أغلب لاعبيه في الموسم الواحد لإصابات متنوعة.

هذه المباراة لم تكن استثناءً، بل دخل الريدز المباراة محرومًا من جهود كل من «إيمري تشان، أدم لالانا، جويل ماتيب»، لتبدو خيارات المدرب الألماني يورجن كلوب محسومة قبل أن تبدأ المباراة. لذلك دفع الأخير بلاعبيه على رسمه التكتيكي المعهود 4/3/3 بتواجد «ديان لوفرين» كقلب دفاع مجاور لـ«فيرجل فان ديك»، وحضور ثلاثية الوسط التي قدمت أداءً رائعًا أمام مانشتسر سيتي بربع نهائي البطولة: «هيندرسون، ميلنر، تشامبرلين»، خلف ثلاثي هجوم ليفربول المرعب: «صلاح، فيرمينو، ماني».

على الجانب الآخر، دخل مدرب روما «إيزيبيو دي فرانشيسكو» اللقاء بلا إصابات أو غيابات عن قوام روما المثالي، وقد لجأ الإيطالي للعب بتشكيل يقترب من 3/4/2/1، حيث دفع بلاعب قلب دفاع إضافي هو «خوان خيسوس»، واعتمد على ثنائية «ستروتمان، دي روسي» بوسط الملعب، إلى جانب الأطراف «كولاروف، فلورينزي» التي تنطلق لتشكيل الخطورة على امتداد الخط، بينما يلعب الثنائي «جنكيز أوندير، ورادجا ناينجولان» لمساندة «إيدين دجيكو» بعمق الهجوم.

تشكيل الفريقين، روما الإيطالي (يمين) وليفربول الإنجليزي.

رهان دي فرانشيسكو بوجود مدافع إضافي كان الهدف منه واضحًا للغاية، وهو رقابة هداف البطولة الإنجليزية، ومحاولة عرقلة انطلاقاته حالما يتسلم الكرة، لكن في المقابل تنازل المدرب الإيطالي عن لاعب وسط ثالث مساعد، وطلب من أوندير وناينجولان تقديم المساندة الدفاعية في حال فقدان الكرة.

أي متابع لروما بمواجهات الكالشيو سيدرك جيدًا أن فريق العاصمة يمتلك مدربًا بارعًا في تنفيذ الضغط علي خصومه. فإيزيبيو ينجح دومًا في استكشاف ثغرات الخصوم، ومن ثم يطلب من لاعبيه الانقضاض عليها فور وصول الكرة، ليخلق بذلك مواقف ضعف كثيرة تتسبب في استخلاص روما للكرة وقتل هجمات الفرق الأخرى.

خلال الـ25 دقيقة الأولى من عمر اللقاء، بدا أن روما متماسك، وقادر على حرمان ليفربول من بناء الهجمة بالشكل الذي يفضله الفريق الإنجليزي، حيث أغلق رفاق «مانولاس» زوايا التمرير على لاعبي وسط الفريق الأحمر، وضغطوا بقوة على أطراف ليفربول خصوصًا ذلك الطرف الأيمن الذي يضم كلًا من صلاح وأليكساندر أرنولد، وفازوا بالاستحواذ، بل كان لاعبو روما هم الأقرب للتهديف.

تقول الأرقام إن روما أطلق ثلاث تسديدات خلال تلك الفترة، أخطرها كانت تسديدة كولاروف التي كادت تغالط «كاريوس»، كما نجح اللاعب الصربي في إنجاز أربع انطلاقات علي الطرف الأيمن، بالإضافة إلى 67 تمريرة للرباعي: دي روسي، ستروتمان، فلورينزي، كولاروف أغلبهم كان بوسط ملعب ليفربول.

خريطة توضح لمسات وتسديدات رباعي روما.

أولوية إيزيبيو كانت امتصاص حماس ملعب الأنفيلد، وعزل ثلاثي الهجوم الأحمر عن إمدادات لاعبي الوسط خاصة بعد خروج تشامبرلين بالدقيقة 18، ومحاولة تسجيل هدف مبكر يربك حسابات نظيره كلوب، وقد نجحت رهاناته حتى الدقيقة 25، ثم انقلبت الأمور تمامًا رأسًا على عقب.


من يضيع لا يقبل أحيانًا

في المقابل، كان كلوب واثقًا أن رهان دي فرانشيسكو في وسط الملعب رهان خاسر، إذ لن يتمكن لاعبو روما من مواكبة رتم ليفربول بمرور الوقت، خصوصًا بعد أن تخلى المدرب الإيطالي عن لاعب وسط ملعب ثالث، وترك الثنائي: ستروتمان، دي روسي أصحاب الأعمار الكبيرة فريسة للانهيار الذهني والبدني أمام فريق يشتهر بالسرعة والضغط المقابل.

بالفعل بدأت هفوات روما في الظهور عند الدقيقة 28 أمام أحد نجوم اللقاء: روبيرتو فيرمينو، إذ تمكن اللاعب البرازيلي من الهبوط لوسط الملعب بهدف استلام الكرة، لينجح بمراوغة لاعبي روما ويرسل تمريرة ساحرة لزميله ساديو ماني الذي التهم المساحات الشاسعة بدفاعات روما، لكن لمسته الأخيرة أمام المرمى جاءت سيئة للغاية.

بعد مرور ثلاثين ثانية من فرصة ماني، كان فيرمينو يطلب من صلاح التمرير قبل أن يراوغ مانولاس بمهاراة كبيرة، ويمرر داخل منطقة الجزاء لماني الذي تصرف في المحاولة الثانية بشكل أسوأ من الأول.

أنت تعرف، عزيزي القارئ، هذه القاعدة الذهبية في كرة القدم التي تقول: من يضيع أهدافًا سيقبل في الغالب أهدافًا بمرماه، ولكنك تعرف أيضًا أن لكل قاعدة استثناءات. استثناء هذه القاعدة في ليلة أمس كان اللاعب المصري محمد صلاح، الذي رفض أن يتسرب الإحباط لفريقه بعد تسديدته القوية في الدقيقة ثلاثين التي تصدى لها ببراعة الحارس أليسون.

فبعد أن استرد ليفربول وسط الملعب من روما، وبدأ لاعبو الفريق الإنجليزي في تسليم واستلام الكرة بأريحية أكبر، كان صلاح على موعد في الدقيقة 34 مع أحد أجمل أهدافه على الإطلاق، عندما أطلق تسديدة صاروخية سكنت مرمى أليسون وفتحت لفريق ليفربول الطريق للاستيلاء الكامل على المباراة.

يكفي أن تدرك أن الريدز قام بعشر تسديدات، خمس منها على المرمى، ولم يتلقَ أي تسديدة بين الدقيقة 25 وحتى نهاية الشوط الأول، كما لم تخسر كتيبة كلوب الاستحواذ سوى خمس مرات، ثلاث منها بوسط ملعب روما، في مقابل 11 مرة فقدت فيها كتيبة دي فرانشيسكو الكرة، أضِف لذلك أن رفاق صلاح تمكنوا من لمس الكرة 19 مرة داخل منطقة جزاء أليسون، مقابل صفر مرات لروما بمنطقة الجزاء المقابلة، أرقام النصف الثاني من الشوط الأول لا تحتاج إلى تعليق!

ليفربول قام بعشرة تسديدات مقابل صفر لروما في تلك الفترة.

روما سقط تمامًا أمام ليفربول من الدقيقة الـ28 تحديدًا. خسر كل معاركه في وسط الملعب، وانكشفت ثغراته الفنية والبدنية بوضوح، فكان له أن يستقبل هدفًا آخر لزميل الأمس صلاح الذي أبدع في الإفلات من رقابة خيسوس، واستقبل تمريرة رائعة من فيرمينو، ليحولها لتسديدة لم تقل روعة، ويرفض الاحتفال مرة أخرى بعد أن مزّق آمال روما.

من لا يضيع قد لا يقبل، خصوصًا إذا امتلك لاعب بقيمة وشخصية صلاح، ومهاجم بقدرات فيرمينو قراءة الملعب، ومدرب يراهن بشكل أفضل كيورجن كلوب.


الشوط الثاني: السيرك مستمر

لم يكن سيتوانى كلوب عن استغلال حالة فريقه الكاسحة التي أنهي بها الشوط الأول. بالتأكيد طالبهم المدرب الألماني بالاستمرار على النسق ذاته بهدف مضاعفة عدد الأهداف وقتل المباراة في الأنفيلد، لذلك استمرت سيطرة الريدز على وسط الملعب، السيطرة التي قوبلت من روما باستسلام وسوء انتشار خصوصًا بالحالة الدفاعية، ومزيد من الانهيار البدني.

لم تمر عشر دقائق من بداية الشوط الثاني، وكان تحقق لكلوب ما أراد، حيث نجح صلاح في مغالطة المدافع خيسوس وتحرر من رقابته، ليتسلم تمريرة طولية من أرنولد، ثم ينطلق كالسهم لعمق منطقة جزاء روما، صانعًا الهدف الثالث.

أما الهدف الرابع، فقد كان شبيهًا تمامًا بالثالث، غير أن الانهيار البدني الذي أصاب كلًا من كولاروف، دي روسي، ناينجولان، بدا أثناءه أكثر، فقد تسلم صلاح نفس التمريرة من أرنولد، ونجح مرة أخرى في تجاوز خيسوس عن طريق المراوغة، لتجد تمريرته الرائعة هذه المرة أقدام فيرمينو وليس ساديو ماني.

بذكر روبيرتو فيرمينو فجدير بالإشارة هنا حجم الجهود الذي يقوم به اللاعب البرازيلي، دعك من أنه كان أفضل لاعبي المباراة بعد صلاح، وحصل على تقييم 10/10 على موقع whoscored، ولكن تأمل الخريطة الحرارية لمهاجم ليفربول والتي تبرز انتشاره على مدار الـ90 دقيقة في كل أرجاء الملعب، وقدرته على افتكاك الكرة من لاعبي روما، وصناعة الفرص لزملائه، والتمركز الجيد الذي أرهق دفاعات روما.

الخريطة الحرارية للبرازيلي روبيرتو فيرمينو أثناء المباراة.

فيرمينو عاد ليسجل هدفه الثاني، وهدف فريقه الخامس، من ركنية. ليثبت البرازيلي بحق أنه لاعب شامل، وأن كلوب أجاد في الرهان عليه عبر موسمين.

في المقابل، لم يحقق اللاعب الشاب «باتريك شيك» المأمول منه بعد أن دفع به إيزيبيو مطلع الشوط الأول، لذا قرر الأخير بعد الهدف الخامس نزول «ماكسيم جونالون، ودييجو بيروتي» لأرضية الملعب، والعودة لرسم 4/3/3 بهدف التسجيل والحفاظ على ما تبقى من أمل له في ملعب الأوليمبيكو.


هل ارتكب كلوب جريمة؟

ليفربول، روما، دوري أبطال أوروبا، دانييلي دي روسي.

بعد تسجيل فريقه الهدف الخامس، لجأ كلوب لإراحة لاعبه الأهم محمد صلاح للحفاظ عليه بعيدًا عن الإرهاق والإصابات، وهنا قام ببعض القرارات الفنية التي نالت انتقادات حادة بسبب نجاح روما بتسجيل هدفين.

قبل التعرض لتلك القرارات ينبغي الإشارة إلى أن ليفربول لم يمتلك أي لاعب طرف على دكته لتعويض خروج صلاح، ولا وجود لأي لاعب وسط ملعب أيضًا بعد إصابة تشامبرلين ونزول فينالدوم، وبالتالي لجأ كلوب للدفع بـداني إنجز.

ربما أخطأ كلوب في التخلي عن الاستحواذ لصالح روما، وكان من الأفضل تحوّل فيرمينو للاعب وسط ملعب صريح -كما سبق ولعب إبان فترته مع هوفنهايم – ودخول إنجز كمهاجم إلى جوار ماني، بهدف الحفاظ على الكرة، ومنع روما من التقدم بعد خروج صلاح، لكن كلوب رأى ضرورة الحفاظ على نمط 4/3/3، والتراجع قليلًا إلى الخلف.

والحق أن تعديلات كلوب الفنية، حتى لو تسببت في فقدان الاستحواذ، لم تكن سببًا رئيسيًا في الأهداف التي تلقاها مرمى كاريوس، بل جاءت نتيجة لأخطاء فردية فادحة من خط ظهره لا دخل فيها لخروج أو بقاء محمد صلاح!

الهدف الأول لروما جاء من خطأ كارثي قام به لوفرين، خطأ لا يحدث كثيرًا في دور نصف نهائي بالتاشمبيونزليج، والهدف الثاني فقد أتى من ضربة جزاء تسبب فيها جيمس ميلنر، ولو بقي صلاح على عشب الأنفيلد لما منع الكرة من الاصطدام بيد ميلنر وإن حاول مئات المرات.

صوّر البعض قرارات كلوب بنهاية المباراة بأنها جريمة فنية، وقرر البعض من الآن أن ليفربول خسر حظوظه في العبور للنهائي، وكأن كلوب لم يدر واحدة من أفضل مبارياته، ولم يسجل لاعبوه خمسة أهداف، وأهدروا فرصًا خطيرة أخرى كادت تضاعف النتيجة.