دعنا نبدأ من المؤتمر الصحفي الذي سبق المباراة بـ24 ساعة، حين سأل أحد الصحفيين مدرب ليفربول «يورجن كلوب» سؤالًا تقليديًا عن استعداداته لمواجهة ثلاثي باريس سان جيرمان الهجومي، ليجيب كلوب بشكل غير تقليدي تمامًا. حيث قال إنه يعرف جيدًا خطورة «مبابي، كافاني، نيمار» لكنه لا يشعر بالرعب من مواجهتهم، والسبب في ذلك هو أن لاعبيه يعرفون كيفية التعامل مع تحركاتهم في ثلث الملعب الأخير، ولعلهم قد شاهدوا لهم 500 ألف فيديو على اليوتيوب! لابد أن هذا التصريح قد استفز مواطنه «توماس توخيل» الذي يتولى إدارة الفريق العاصمي، خصوصًا وأن خط دفاع ليفربول نجح بالفعل في تحجيم خطورة الهجوم الباريسي بمباراة الذهاب التي احتضنها ملعب الأنفيلد سبتمبر/أيلول الماضي. وهنا وعند تلك اللحظة تحولت مهمة توخيل نحو تقديم نسخة أخرى من خط هجومه، نسخة تفاجأ كلوب ودفاع ليفربول لأنها غير متاحة على اليوتيوب.

قنبلة توخيل

لا يوجد الكثير يمكن قوله حول تشكيل ليفربول. فقد بدأ كلوب المباراة بالرسم التكتيكي 4/3/3، دافعًا بثلاثي الهجوم وثلاثي وسط الملعب الذي يفضله، سوى أنه أجرى تعديلًا واحدًا يلجأ إليه أحيانًا عند مواجهة لاعب طرف هجومي سريع ومراوغ، وهذا التعديل هو الدفع بـ«جو جوميز» في مركز الظهير الأيمن على حساب «ألكسندر أرنولد» مع دخول «ديان لوفرين» إلى محوّر الدفاع. الهدف من ذلك كان تصعيب المهمة على نيمار، وهو ما لم يحدث. علي النقيض هناك الكثير من التفاصيل حول الرسم التكتيكي للفريق الفرنسي، حيث لعب توخيل بطريقة 3/5/2 معتمدًا على ثلاثي دفاعي لعرقلة هجوم الريدز، وكلف أفضل مدافعيه «بريسنيل كيمبيمبي» بالتفرغ لرقابة أفضل مهاجمي ليفربول أمام المرمى «محمد صلاح» فيما يتحمل «تياجو سيلفا» عناء توقيف «ساديو ماني»، أما «ماركينيوس» فلعب بجوارهما بمهام الضغط على «فيرمينو» ومعاونة زميله «فيراتي» في بناء الهجمة والخروج السليم بالكرة من مناطق باريس. وحول فيراتي، شارك بقية لاعبي الوسط. في الثلث الأخير، فاجأنا توماس بتعديل مركز مبابي من الطرف لقلب الهجوم، ليلعب إلى جوار نيمار الذي يصنع لباريس الفرص من الجانب الأيسر، أما كافاني فكلفه بالخروج من منطقة الجزاء لتشتيت لاعبي الخصم. هذا التعديل كان بمثابة قنبلة ستسقط على رأس كلوب بعد مضي دقائق المباراة الأولى.
أماكن تمركز لاعبي الفريقين خلال المباراة. يظهر فريق ليفربول باللون الأزرق، وباريس باللون البرتقالي.

فيراتي وهندرسون: النقيض والضد

في الموسم الماضي، كان سؤالًا بعينه يؤرق أي مدرب يواجه ليفربول، وهو كيف يمكن له تعطيل منظومة ضغط كلوب الشرسة؟ إذ تميز لاعبو الريدز بقدرة فائقة على استخلاص الكرة أثناء تحضير الخصم الهجمة، ومن ثم تحويلها لهجمة عكسية مباغتة تهدد مرماه. لكن الوضع تبدل هذا الموسم وهبط أداء وفاعلية تلك المنظومة.ولعل مباراة، أمس، كانت دليلًا بينًا على ذلك الهبوط، فعبر الشوط الأول بأكمله نجح ماركو فيراتي بمعاونة ماركينيوس في كسر أول وأهم خطوط ضغط الريدز بقدرته على التحكم بالكرة، ومن ثم الانطلاق بها لوسط ملعب الضيوف قبل التوزيع لزملائه. هذا الأمر منح أفضلية عددية لفريق توخيل في كثير من الأحيان، ووفر على نيمار جهوده للثلث الأخير من الملعب. تقول أرقام الشوط الأول إن ليفربول لم ينجح سوى باستخلاص كرة يتيمة في وسط ملعب باريس، هذا الاستخلاص كان بعيدًا عن مناطق الخطورة، ولم يكن بواسطة أحد ثلاثي الهجوم بل كان للاعب الوسط «جوردان هندرسون». كما حاول الفريق الإنجليزي عرقلة الباريسيين أربع مرات، فشلوا في ثلاثة منها، ونجحت واحدة بالقرب من وسط الملعب. هذه الأرقام تكشف كيف تمكن ماركو فيراتي من استئناس منظومة ضغط ليفربول خصوصًا عندما تكتمل الصورة بمراوغاته الناجحة التي نفذها على حدود منطقة جزاء «بوفون»، بالإضافة لخريطة تمريراته رفقة زميله البرازيلي. الخريطة التي تكشف عن انتشارهما بعرض الملعب وكأنهما حلقة وصل باريس التي تربط خطوطه ببعض.
خريطة تمريرات الثنائي: ماركو فيراتي وماركينيوس خلال الشوط الأول.

في ليفربول لا يبدو الوضع مشابهًا. وهذا لأن كلوب يصر على الدفع بهندرسون كلاعب ارتكاز holding midfielder بدلًا من مركزه الأصلي box-to-box، وذلك على حساب الوافد «فابينيو» الذي لم يتأقلم بعد في منظومة الفريق.وهندرسون لاعب مختلف عن فيراتي، بل يمكن القول إن ما يميز الإيطالي هو ما يعيب الإنجليزي، إذ لا يمتلك قائد منتخب الأسود القدرة على كشف الملعب ومهارة الخروج بالكرة تحت الضغط كما يمتلكها ماركو. ولهذا عجز الضيوف طوال الـ45 دقيقة الأولى عن بناء الهجمات من عمق الملعب، ولجئوا لإرسال الكرات الطولية على الأطراف، وهذه الكرات الطولية لم تكن اختبارًا قاسيًا على مدافعي باريس خصوصًا مع نجاح وسط ملعبهم في الفوز بالكرات الثانية/المشتتة Second balls. كل ذلك أدى لعزل ثلاثي هجوم ليفربول، لتكون حصيلة ما سدده الفريق الإنجليزي بين خشبات المرمى هي ركلة الجزاء التي سجلها جيمس ميلنر.لا أقول إن هندرسون هو سبب مشكلات العالم، فقط أقول إن توظيفه لم يكن الاختيار الأفضل.


ثلاثي هجومي وليس مثلثًا هجوميًا

دائمًا عندما نسمع كلمة «ثلاثي هجومي» يتبادر إلى أذهاننا شكل المثلث، بمعنى وجود طرفين إلى جانب مهاجم يتمركز داخل منطقة الجزاء. قد يكون السبب في ذلك هو الانتشار الواسع الذي حازته خطة 4/3/3 في عالم كرة القدم. ففي برشلونة كان هناك الثلاثي MSN، وفي الميرنجي وجد BBC، وقد شاهدنا الموسم الماضي الثلاثي الهجومي الباريسي بوجود كافاني كمهاجم والثنائي: مبابي،ونيمار كأجنحة.لكن ليلة أمس أجرى توخيل تعديلًا ذكّرنا أن الثلاثي الهجومي لا يعني بالضرورة مثلثًا، إنما قد يتخذ أشكالًا أخرى متعددة بهدف تحقيق استفادة فنية أعلى، لذا دعنا نفهم ما هي التعديلات التي أدخلها توماس، وما الهدف منها؟ توخيل دفع بمبابي من الطرف الأيمن لقلب الهجوم، وطلب من كافاني الخروج من منطقة الجزاء والتحول على الأطراف فيما منح نيمار حرية الحركة من الطرف الأيسر لعمق الملعب. الهدف؟ إجمالًا هو مفاجأة كلوب، أما تفصيلًا فهو أنه لم يكن يريد لأكثر عناصره نجاعة أمام المرمى: مبابي أن يخوض مواجهة صعبة كجناح مع الثنائي: فان ديك وروبيرتسون، هذا أولًا. أما ثانيًا، فهو أن مدرب دورتموند السابق أراد مبابي قريبًا من نيمار أثناء اختراق المساحة بين لوفرين وجوميز، أو ما يعرف في عالم التكتيك بالقنوات channels، لأن ذلك كان سيمنح الفريق خيارات أكثر من عدد مدافعي ليفربول في منطقة الجزاء خصوصًا مع تسلل كافاني ودي ماريا خلف فان ديك. كان هذا التعديل مغامرة من توخيل، لكن المغامرة نجحت في تسجيل هدفين من نفس اللعبة تقريبًا، وهذا بفضل الانسجام الذي يجمع لاعبيه البرازيلي والفرنسي، وانخفاض مستويات وسط ملعب ليفربول.

خريطة لمسات مبابي تكشف بوضوح تحول مركزه لمهاجم خلال المباراة.

لكن ماذا عن كافاني؟ تؤكد الأرقام أن ذلك التعديل أثر بالسلب على فاعلية المهاجم الأوروجواياني، تخيّل أنه لم يلمس الكرة طوال المباراة سوى 13 مرة فقط، منها 4 مرات بوسط ملعبه ومرة عند ضربة بداية المباراة. هذا الأمر يدفعنا للتساؤل؛ هل سيستمر هذا التغيير في الوظائف بين مبابي وكافاني؟ أم أنه أمر استجد فقط خلال مواجهة ليفربول؟ مباريات دور الـ16 ستجيب.

عن أليسون وفيرمينو والشخصية التي تنهار

ليفربول، باريس، دوري أبطال أوروبا
بصراحة لا أعرف ماذا دار بين لاعبي ليفربول بعد المباراة، لكن لو كنت أحدهم لتوجهت على الفور بالشكر للحارس «أليسون بيكر» الذي أنقذ الفريق من هزيمة ثقيلة بعد إنقاذ مرماه لـ6 فرص صعبة، اثنان منها على الأقل كان مكانها الشباك لولا تدخل حارس البرازيل الأول. سأنتهي من مصافحة بيكر، لأتواجه مباشرة لزميله فيرمينو لسؤاله: ماذا يحدث؟ من المستحيل أن يكون ذلك الشبح الذي رأيناه يطوف في الملعب دون تأثير وحصل على أقل تقييم رقمي بالفريقين هو نفسه اللاعب الذي كان بمثابة العقل المفكر لخط هجوم ليفربول الموسم الماضي.وأخيرًا سأنقل هواجسي التي لا أجد لها إجابة لكلوب نفسه، سأخبره أن هناك شيئاً أو بالأحرى أشياء ما خطأ، لا أفهم لماذا ينهار الفريق بسهولة خارج أرضه، لا أفهم لماذا أدرك متأخرًا في الربع ساعة الأخير أن عليه تعديل الخطة لـ4/2/3/1 وليس في الربع ساعة الأول، ولا أفهم طبعًا لماذا أشتري فابينيو وكيتا لو أن هؤلاء لا يزالان غير مناسبين لنمط لعبه بعد 4 شهور من بدء الموسم. ما أفهمه جيدًا أنه قدم إحدى أسوأ مبارياته، وأن الفريق بشكله الحالي لن يكون بطلًا بأي حال، وأن اليوتيوب بالطبع ليس كافيًا.