اليوم استطاعت القوات الأذربيجانية تحرير 6 قرى من القرى الآذرية الواقعة تحت سيطرة القوات الأرمينية… (صوت بكاء)

كان ذلك ملخص دقائق قليلة عرضتها شاشة التلفزيون الآذري على كل منصاتها، بعد ساعات من التصعيد العسكري الذي قامت به أذربيجان على الحدود الأرمينية ضمن صراع قوقازي يحمل إرثاً سوفيتياً طويلاً وصراعات عرقية ودينية طويلة يصعب حصرها الآن في بضع قذائف متبادلة ورصاص مشترك على الحدود.. قصة تحتاج إلى الكثير من التعمق لسبر أغوارها.

إنها مدينتنا

كعادة المدن الحدودية في كثير من بلدان العالم، كانت قصة ناجورني قرة باغ واحدة من القصص التي شهدت صراعات طويلة امتدت لأكثر من قرن تقريباً تباينت فيها الانتصارات والهزائم بين طرفي النزاع أذربيجان وأرمينيا باعتبارهما المتنازع الأكبر على سيادة الإقليم.

وبعودة صغيرة إلى السنوات القادمة بإمكانك أن ترى المظاهرات الأذرية وهي تعلن بصوت مرتفع أن قرة باغ أذرية، وعلى الناحية الأخرى تعلو الأصوات الأرمينية في مظاهرات مشابهة معلنة أن قره باغ أرمينية، وأن اللعنة والعار على أذربيجان.

 بحسب متعقب الصراعات العالمي Global Conflict Tracker فإن مساحة الإقليم المتنازع عليه تبلغ 1700 ميل مربع، وأن العرقية الغالبة في الإقليم حالياً هي العرقية الأرمينية وذلك لأسباب تاريخية تتعلق بنزاعات الاتحاد السوفيتي وسياسات التهجير، أما عن حالة الصراع فهي مستمرة منذ عشرينيات القرن الماضي، وما زال عداد الضحايا الناتج عنها مستمراً منذ حينها، ولم يتوقف تقريباً إلا على فترات متباعدة.

كيف بدأ الصراع إذن؟

 في العام 1920 قرر الاتحاد السوفيتي جعل منطقة قرة باغ منطقة محايدة ذات أغلبية أرمينية، على الرغم من أن مدينة شوشا الكبرى كانت ذات أغلبية أذرية فيما كانت سبتانا كيرت العاصمة ذات أغلبية أرمينية، إلا أن السيطرة الأرمينية التي لطالما حصلت على الدعم السوفيتي كانت دائماً صاحبة كلمة قوية. استمر ذلك في العام 1992 بعد نهاية الحرب وسيطرة الجيش الأرميني على الإقليم مما دفع العرقية الأذرية إلى الرحيل عن الإقليم بشكل كبير.

يكمن جزء كبير من الأزمة في أن المواجهة الأرمينية الأذرية في ذلك الموقف لا تحمل طابعاً شخصياً وحسب، لا سيما وأن الدولتين المتنازعتين من صغار الدول في النطاق الأوراسي، فهناك أطراف أكبر لطالما كانت تتدخل فيما يشبه الحرب بالوكالة، فالأذربيجان هم من المسلمين الترك والكثير منهم ينتمي للمذهب الشيعي مع بعض السنة واليزيديين ومن رحلوا من سوريا من الأقليات المختلفة في العقود الماضية، لكن العلمانية هي الطابع الأكثر سيطرة على الحياة هناك.

وعلى الناحية الأخرى فالصراع العسكري في أرمينيا دائماً ما يحمل طابعاً دينياً، سواء عبر القيادات العسكرية أو عبر المدنيين، ومما يزيد الأزمة صعوبة وحدة هو أن الإقليم تاريخياً تابع للسيطرة الأذرية وحتى اليوم تعمل أذربيجان على الاحتفاظ بتلك السيطرة لكن المعايير الديموغرافية في نفس الوقت تميل لصالح أرمينيا بسبب رحيل الأذريين في الماضي عن الإقليم بسبب السيطرة العسكرية وتزايد التواجد الأرميني في الإقليم محل النزاع، وفي الوقت الذي تعلن فيه تركيا دائماً دعمها لأذربيجان بشكل مفتوح ومعلن، إلا أن روسيا في العقود الأخيرة تحاول اتخاذ موقف هادئ بسبب أنها تمتلك قاعدة عسكرية بالفعل في أرمينيا، بحكم أنها كانت ضمن الجمهوريات السوفيتية.

التجاهل!

كشف الدكتور الأذري بجامعة هارفارد فريد الشافعي أن حالة غريبة من التجاهل الدولي كانت دائماً تغلف الوضع المتعلق بذلك الصراع، فعلى الرغم من أن منطقة قرة باغ لطالما كانت تحت الحدود الأذرية فإن حالة متعمدة من التجاهل شابت الدخول الأرميني للإقليم لفرض حالة من الأمر الواقع كما ذكر الشافعي، وأن العديد من المذابح التي ارتكبها الأرمن في تلك السنوات، والتي شهدت بشاعة منقطعة النظير وذلك تحت إرث الانتقام من العداء الدموي الأرميني العثماني القديم.

ويضيف الشافعي في كتابته أن الدعاية الدولية تحت اسم الحلول لم تكن في أي وقت من الأوقات تسعى لحل حقيقي لتلك الأزمة أو لوقف النزيف الدموي والصراع العرقي في تلك المنطقة، وأن الأمر طوال الوقت كان خاضعاً للدعاية السياسية لصالح صاحب القوة على مختلف الفترات التاريخية، وأن أسلوب حرب الوكالة المتبع كان يخدم طوال الوقت الأجندات الدولية المختلفة ولم يسعَ في أي وقت لإنهاء حقيقي لأزمة زادت مدتها الآن عن قرن تقريباً.

تكشف التقارير كذلك أن ما بين الأعوام 1987 و1989 هُجِّر ما لا يقل عن 250 ألف شخص أذري من الإقليم فيما قتل أكثر من 1154 في الاشتباكات التي وصلت ذروتها عام 1988، وهو العام الذي يعتبره كثير من المحللين نقطة الحسم الأكبر التي غيرت الميزان في ذلك الإقليم حتى اليوم.

لماذا عادت الحرب مجدداً؟

الحقيقة أن هذه الحرب لم تتوقف من قبل حتى تعود الآن، كل ما هنالك هو أن الاشتباكات الفعلية عادت الآن وبصورة فعلية ضمن موجة الاضطرابات التي تضرب العالم بأكمله.

كان العام 2017 نقطة التقاء ظنها الجميع أنها حل من حلول الأزمة حينما تقابل رؤساء الدولتين في جنيف للاتفاق على خريطة سلام ووقف لإطلاق النار والمناوشات الحدودية المستمرة بين الدولتين حتى جاء الموعد قبل أيام.

صبيحة 30 سبتمبر/أيلول وجهت مجموعة من الرشقات الصاروخية تجاه إقليم قرة باغ سقط على إثره عدد كبير من القتلى والجرحى، وكان تصريح وزير الدفاع الأذري مفاده أننا نقوم بمناورات عسكرية داخل أراضينا ومن كان غريباً عنها عليه أن يقدم سبباً لوجوده هناك.

استمر الأمر في التصاعد بشكل مفاجئ حيث سقطت رشقات صاروخية على الحدود الإيرانية، ثم خرجت بعدها تصريحات روسية مفادها أن أذربيجان تلقت دعماً من مقاتلين أجانب من سوريا وفدوا إلى مناطق القتال للاشتراك فيه بدعم تركي، ثم أعلن وزير الخارجية الروسي بعدها نية بلاده استضافة محادثات ثنائية بين البلدين لحل الأزمة.

بدأت بعدها بساعات عمليات إطلاق النار من الجانب الأرميني وسقط فيها قتيل من الجانب الأذري و3 جرحى، وبدأت التصريحات الدولية تتجه للحديث عن صراع أشد وطأة من حرب 1994 بين البلدين.

ثم اشتعلت حرب التصريحات الداخلية والتي جاءت من الجانب الأذري بإعلانه أن أرمينيا عليها أن تخرج بالكامل من إقليم قرة باغ إن أرادت إحلال عملية السلام، وقد خرجت تلك التصريحات على لسان كل من الرئيس الأذري ووزير الدفاع، وبعدها خرجت الأخبار عن رفض الطرفين وقف إطلاق النار أو اللجوء لأي محادثات دبلوماسية، فيما يبدو أنه بداية لصراع طويل الأمد.

بدأت فيما بعض تصريحات دولية تتعلق بتصفيات الحسابات السياسية بين الدول كتصريحات تركيا الداعمة للتحرك الآذري وتصريحات رئيس فرنسا ماكرون برفضها للتدخل التركي وعملية التواصل بين رئيس أرمينيا وبين الإدارة الروسية والتي تحدثت عن توافقات التدخل العسكري القديمة بين الدولتين بحكم الارتباط السوفيتي، وما إن كانت أرمينيا في انتظار ذلك التدخل أم لا، لكن أياً من الأطراف المتنازعة في المعارك الكلامية لم يقدم طرحاً محدداً لحل الأزمة، واقتصر الأمر على تصفية الحسابات السياسية وحسب.

النقطة النهائية هي أن ذلك النوع من الصراعات خاصة مع الطابع الديموغرافي في القوقاز ومدى قسوته السياسية والعسكرية، فمن المرجح أننا نتحدث عن صراع طويل الأمد بالفعل، ولربما يدخل في مراحل متقدمة من الحرب بالوكالة التي صارت السمة المميزة للصراعات الدولية في ثوبها الحديث.