نحن نملك الإرادة التي لا تهتز بأي حال من الأحوال، نملك إرادة الإصرار على استمرار القتال والدفاع عن النفس بكل الوسائل.

كلمات استمر ينطق بها ويُنفذها واقعًا، خليل الوزير، قائد الثورة الفلسطينية المُلقب بـ «أول الرصاص». على مدى ثلاثة عقودٍ ونيّف بعد النكبة وتهجيره وأهله من مسقط رأسه في الرملة إلى قطاع غزة، لم ينس «أبو جهاد» كيف خرج من مدينته تحت وقع الرصاص والتهديد.

لقد أُجبروا على ترك بيوتهم والتجمع في موقف باصات المدينة، ومن هناك تمت عملية الهجرة بالصعود إلى الحافلات ومن ثمَّ الاستقرار في مدنٍ شتى، بعضها داخل الوطن المنكوب وبعضها خارجه في شتات الوطن العربي والغربي، ورغم أن سنوات عُمر الوزير لم تتجاوز وقتها الـ 13 ربيعًا، لكن مشهد الذين أجبروه على الصعود إلى الباصات وحاولوا قتله حين غافلهم ليلتقط «صرة» الخبز والجبن التي ائتمنته عليها أُمه حتى لا يجوع أشقاؤه، لا يُغادره أبدًا، ظل يُردده إلى أن استشهد في عملية اغتيال داخل بيته في تونس في 16 أبريل/نيسان 1988.

كان يصف لزوجته «انتصار الوزير» ولأبنائه «جهاد وحنان» كيف أن والدته حين رأت الجندي يُصوب فوهة بندقيته تجاهه ضمته إلى صدرها بقوة فأخطأته الرصاصة وأصابت جاره.


بداية النضال

مع استمرار نكبة التهجير وكذب رواية العودة، سيطرت على الوزير الروح الثائرة، ووجد في الكفاح المُسلح سبيلًا لتحقيق أسمى أمانيه بالتحرير والعودة، كانت وجهة نظره أن كل وسائل القتال والدفاع عن النفس مُباحة من أجل استعادة الحق، ولذلك انضم منذ أن وطِئت أقدامه غزة إلى مجموعة من الفدائيين الذين يُؤمنون بذات نظريته.

تعلّم خليل الوزير الكثير من الخبرات والمهارات التي جعلته يُؤمن بأن طريق العودة والتحرير لا يكون بالتجزئة بل للوطن ككل.

وبعد سبع سنوات من عمر التهجير القسري وتحديدًا في 25 فبراير/شباط 1955، نجح ومجموعته في الإعلان الفعلي لبداية الكفاح المُسلح بتفجير خزان مياه زوهر في بيت حانون على حدود قطاع غزة، مما شكل صفعة للأمن الإسرائيلي آنذاك، خاصة أن تلك المنطقة أمنية لا تخلو فيها ساعةً من نهار أو ليل من دورية إسرائيلية.

في هذه الفترة كان الوزير شابًا يافعًا، وقد أنهى دراسته الثانوية ببراعة، لكنه وقع في شباك الاحتلال مُعتقلًا، ولصغر سنه وتدخل البعض تم إطلاق سراحه.

هذه الحادثة جعلت أهله يُرسلونه إلى جمهورية مصر العربية طالبًا للعلم هناك، فالتحق بتخصص الفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة الإسكندرية.

لم يزرع البعد المكاني في قلب الوزير الفتور تجاه وطنه وقضيته، ولم يُثنيه عن مواصلة الكفاح المُسلح سرًا، هناك في مصر التقى بـ «عبد الفتاح عيسى حمود» و«كمال عدوان» اللذين كانا من قيادات رابطة الطلاب الفلسطينيين، وتعلّم من هذا الثنائي الكثير من الخبرات والمهارات التي جعلته يُؤمن بأن طريق العودة والتحرير لا يكون بالتجزئة بل للوطن ككل.

ولم يكتفِ الوزير بما نهله من الرجلين سابقي الذكر وبدأ يتعمق في دراسة حركات التحرر الوطني كالتجربة التحررية الجزائرية، كان يأخذ منها ما يُطوّر به أسلوبه وأطروحاته الفكرية والثورية للوصول إلى التحرير.

خليل الوزير

تأسيس نواة الإطار لـ «فتح»

في مارس/أذار 1956 اجتمع خليل الوزير وثلاثة عشر فردًا من رفاقه واتفقوا على بدء العمل الثوري المنظم عبر التواصل مع ثوار العالم، لكن بشيء من السرية والحذر الشديد، خشية أجهزة المخابرات العربية وبطشها بتفكيك الجماعات وزج أفرادها في السجون.

تابعوا عن كثب شئون اللاجئين في البلدان العربية في الأردن ولبنان وسوريا، وأبدوا اهتمامًا بالواقع المصري، خاصة في ظل العدوان الثلاثي، وعمدوا إلى إصدار نشرة سرية بعنوان «صوت الشعب» في القاهرة كان يُشرف عليها خليل الوزير بمشاركة «كمال عدوان» و«صلاح خلف» رئيس رابطة الطلبة الفلسطينيين في القاهرة، إضافة إلى «منير عجور» و«فوزي جبر».

هذه النشرة عبّرت عن حال المقاومة الشعبية في فلسطين، واستمرت في الصدور لتُعرّف بالقضايا الوطنية المختلفة، وهو ما ساعد في تطوير اللبنة الأولى للتنظيم ولضم الكثير من المؤيدين في مسبحته.

سعى الوزير لتأسيس حركة لتحرير فلسطين عبر منهج وطني ثوري، وعلى ذلك وضع ميثاق التنظيم الحركي الذي أضحى بعد ذلك يُعرف باسم «فتح».

وبعد ذلك التوسع والانتشار الحذر بدأ الوزير ومجموعته بالتحضير لـلقاء ثالث في مارس/أذار 1957، وتمخض عنه دعوة واضحة لاستمرار الاتصال والتواصل مع القوى الوطنية، ولكن وفق الإعلان عن تنظيم فلسطيني حركي يعمل على مستوى الساحة والقضية الفلسطينية، وبالفعل خلال العام 1957 تم التباحث مع جماعة الإخوان المسلمين، حتى تتبنى تنظيما خاصا إلى جانب تنظيمهم، لكنه لا يحمل اللون الإسلامي في المظهر والشعارات، وإنما يرفع شعار تحرير فلسطين عن طريق الكفاح المسلح، وأن تعمل الجماعة على دعم التنظيم الجديد خارج حدود الإخوان، لكن ذلك لم يحدث، واعتبرت ما تحدث به الوزير ورفاقه أضغاث أحلام، وأشارت في مذكرة يوليو/تموز 1957 أن الدول العربية والثورية لن تسمح بنشاط فوق أراضيها دون إخضاعه لسياساتها، وأنها عند الالتحام بالقتال ستجعل التنظيم الفلسطيني ينطلق من دول مجاورة وليس من أراضيها لتصفية حسابات عربية–عربية دون السماح له بالمعارضة، وإلا فلن يجد إلا البطش والاتهام بالتآمر مع جهات أجنبية تعمل ضد الأمة العربية.

ويبدو أن هذه الحالة لم تُرعب الوزير ورفاقه الذين كوّنوا «الإطار» التنظيمي الفلسطيني المُسلح، وبدءوا بالانتشار الإيجابي بأطروحاتهم القائمة على الوحدة الوطنية من أجل التحرر، في هذه الفترة كان الوزير في منطقة «نجران» جنوب غرب المملكة العربية السعودية، بينما رفيقه «عبد الفتاح عيسى حمود» اتخذ سبيله في المنطقة الشرقية من السعودية، و«كمال عدوان» اتجه إلى الدوحة والتحم مع «رابطة أبناء فلسطين» الذين ملكوا نفس الأطروحات، ما دعا ببعض قيادات الإخوان إلى الاقتراب من طروحات الأفكار الجديدة للإطار الذي كونه الوزير ورجالته، ومن ثم التقوا مع الشباب الفلسطيني اللاجئين في سوريا كمجموعة «صوت فلسطين» بقيادة هايل عبد الحميد وفيصل الحوراني وأنيس عبد الخطيب، وأعلنوا برنامجهم القائم على «ضرورة اعتماد الفلسطينيين على أنفسهم وأخذ زمام المبادرة في عملية الكفاح والتحرير».

كان الوزير على اطلاع وتواصل تام بكل صور «الإطار» للفلسطينيين في الدوحة والسعودية والكويت، وبعد أن أنهى عمله كمدرس في السعودية وانتقل إلى الكويت في 20 سبتمبر/أيلول 1958 بدأ الاتصال بعبد الكريم ياسين، ومن ثمَّ اتفقا على الاتصال مُجددًا بعبد الفتاح عيسى حمود مهندس البترول في السعودية والتقوا في بلدة الخفجي بالمنطقة المحايدة بين السعودية والكويت، وتم الاتفاق على تطوير «الإطار» إلى تنظيم سياسي يُعبر عن إرادة الإنسان الفلسطيني بالتحرير والعودة، وتمسكوا بأن تكون حركة تسعى لتحرير فلسطين عبر منهج وطني ثوري، وبذلك تم وضع ميثاق التنظيم الحركي الذي أضحى بعد ذلك يُعرف باسم «فتح».


اللقاء بعرفات

خليل الوزير

كل ما مر لم يكن ياسر عرفات الرئيس الفلسطيني الراحل جزءا منه، إذ تم اللقاء به بعد وضع ميثاق التنظيم الحركي عام 1958، وكان وقتها مُهندسًا في المشاريع العامة الحكومية في الكويت، وتم ترشيحه للوزير وعمر عبد الكريم من قبل عيسى حمود، الذي كان على اطلاع كافٍ بتاريخ الرجل المشرف منذ نكبة عام 1948 ومشاركته بعدها في الجهاد المقدس وعمله الفدائي في قتال السويس وقتاله مع الجيش المصري ضد العدوان الثلاثي ورئاسته لرابطة الطلاب الفلسطينيين منذ عام 1952.

اجتمع الوزير بعرفات، وتوحدا على هدف استرجاع الوطن المسلوب وإعادة أهله المهَّجرين إلى بيوتهم وأراضيهم، غير أن الوسيلة فيما بعد اختلفت بينهما.

اجتمع الوزير بعرفات، وتوحدا على هدف استرجاع الوطن المسلوب وإعادة أهله المهَّجرين إلى بيوتهم وأراضيهم، غير أن الوسيلة فيما بعد اختلفت بينهما، فالوزير يؤمن بالعمل المُقاوم المُسلح والآخر يُصغي لتكهنات الساسة وحلولهم الجزئية القائمة على التفاوض أولًا، ورغم اختلاف المنهج فإن الرجلين لم يختصما وتكاملت أدوارهما من أجل العودة والتحرير.

في هذه المرحلة وبعد عقد الاجتماع التأسيسي للحركة في الكويت وإطلاق «حركة التحرير الفلسطيني» أصبح الوزير الرجل الثاني والذراع العسكرية اليمنى لياسر عرفات القائد العام للثورة الفلسطينية، لكنهم أبقوا على عملهم سرًا حتى عام 1959 بصدور مجلة «فلسطيننا نداء الحياة» التي بدأت التعريف بالحركة واستقطاب المجموعات التنظيمية الثائرة للانضمام تحت لوائها، وبالفعل تمكنت من تجميع قرابة 40 تنظيما سياسيا فلسطينيا خلال العام 1961 – وفق ما جاء في وثيقة البدايات – التي خطها الوزير بقلمه.

ولعل هذا الالتئام الفريد كان سببًا في لفت الأنظار للقضية الفلسطينية ومنح حركة «فتح» آنذاك مكانة خاصة بين حركات التحرر، وعمل على انتشارها على المستوى العربي، ما مكنها تاليًا في العام 1963 من افتتاح مكتب لها في الجزائر برئاسة الوزير وآخر في سوريا بقيادة عرفات.

خليل الوزير
المراجع
  1. "إسرائيل تنشر تفاصيل اغتيال أبو جهاد"، موقع الجزيرة نت، 1 نوفمبر 2012.
  2. "الشهيد أبو جهاد (خليل الوزير) أمير الشهداء أول الرصاص أول الحجارة"، موقع عباس زكي المفوض العام للعلاقات العربية والصين الشعبية.
  3. أبو علي شاهين، "الشهيد أبو جهاد وبعض البدايات"، 16 أبريل 2010.
  4. سمير قديح، "تفاصيل مثيرة تُنشر لأول مرة عن اغتيال خليل الوزير أبو جهاد"، موقع صحيفة دنيا الوطن، 16 أبريل 2015.
  5. "اغتيال خليل الوزير أبو جهاد"، وثائقي للجزيرة، 10 أبريل 2014.