كتبت هذه المقالة قبل ما يزيد عن 7 سنوات، وكادت أن تجد طريقها إلى النشر في مجلة متخصصة في النقد التشكيلي بدولة الإمارات، لكن المجلة لم تتواصل معي بعدما حصلت على صور اللوحات. وقد مارست اليوم على نفسي قدرًا من الرقابة الذاتية، فأعدت صياغة بعض العبارات والفقرات حتى تجد المقالة طريقها إلى النشر بعد 7 سنوات مضت على زمن الكتابة، وزمن اللحظة الثورية.


عندما تندلع الثورة، وتتلاشى بعض مظاهر الاغتراب، ويسود الفعل الثوري في الشارع، مثلما حدث مع ثورة يناير المصرية، يميل الفن إلى المباشرة والوضوح، لا سيما في الجداريات التي انتشرت في ميادين مصر، والجداريات التي انتشرت على أسوار الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ثم تمت إزالتها بالطلاء، وعندما لم يفلح الطلاء، واستمر النشطاء في إعادة رسم الجداريات، تم إزالة الجدار نفسه بأكمله حتى تُمحى ذاكرة الثورة وذكراها.

لكن ربما تخف حدة الاحتجاج والتمرد على الواقع، لا سيما بعد أن يذوق الفنان طعم الحرية، ويجد بصيصًا من الأمل في المستقبل، ومن ثم يتجه إلى المزج بين التجريد والتصوير الحي، والمزج بين الواقع الأليم والأمل الحذِر. ولكن الثورات غالبًا ما تسيل فيها الدماء ولا تتحقق الحرية والعدالة على أرض الواقع بين عشية وضحاها، ومن ثم يجد الفنان في تجربة الألم إمكانية كبرى لكشف أقنعة السلطة ووجهها القمعي المخيف. هذا المزج بين الأمل والألم تجلى بصورة واضحة في لوحات نرمين حكيم ومصطفى يحيى في معرض فني بمركز الجزيزة للفنون بالقاهرة في 14 مارس/ آذار عام 2012، وقد أطلق مصطفى يحيى على معرضه اسم «محطات الثورة»، أما نرمين حكيم فكان معرضها بعنوان «النور الداخلي».

قدمت نرمين حكيم ما يمكن أن نطلق عليه الفن التجريدي الحي عبر تصوير سردي للثورة المصرية في سلاسل من اللوحات، بحيث تدور كل سلسلة حول فكرية محورية في أشكال تجريدية تتجاوز مجرد انعكاس واقع الثورة المصرية في المرآة. وسأتناول هنا ثلاث سلاسل سردية سميتهما «الأطياف» و«العبور» و«الشهداء».

السلسلة الأولى تتألف من 3 لوحات تبدو متماثلة، لكنها تقدم 3 حالات مختلفة للإحساس المصري بالأمل خلال الثورة. في اللوحة الأولى تنطلق أطياف قاتمة متنوعة من الجانب الأيمن للوحة (المصريون يثورن في البداية والأمل ضعيف)، ثم تخف حدة القتامة شيئًا فشيئًا حتى يأخذ اللون الأزرق في الاختفاء، وتظهر ألوان تنبض بالحياة وألوان خفيفة توحي بقرب سطوع الشمس (الأمل يلوح في الأفق).

مصر، ثورة يناير، فن تشكيلي، رسم

أما اللوحة الثانية فتجعل الأطياف تنطلق بالقرب من وسط اللوحة، وهذا يبشر بالاقتراب من نقطة الارتكاز التي سيقف عليها المصريون، وتظهر ألوان الأمل كلما انطلقت الأطياق إلى أعلى، لكن وهج الألوان المبشرة بالحرية في أعلى اللوحة يتخافت قليلًا، صحيح أن الأمل يلوح في الأفق، لكنه ليس بالقوة نفسها، فالأحداث لم تسر وفق توقعات المصريين، وما حققوه كان أقل بكثير مما كانوا يحلمون به.

مصر، ثورة يناير، رسم، فن تشكيلي

أما اللوحة الثالثة، فتسمح للأطياف التي اختفت قتامتها بأن تنطلق من منتصف اللوحة، وهذا قد يوحي بأن المصريين يقفون الآن على نقطة الارتكاز، وأن الأمور ستصل إلى حالة من الاتزان، لكننا نكتشف أن هذا الانطلاق من المنتصف ليس له أرضية، وأن كافة هذه الأطياف معلقة في الهواء، رغم أن التوهج في أعلى اللوحة يظهر في أبهى صوره، فالأمل في المستقبل كبير، لكننا لم نقف على أرضية صلبة بعد.

ثورة يناير، فن تشيكلي

تخف حدة التجريد في «سلسلة العبور». اللوحة الأولى من هذه السلسلة تظهر فيها البنايات الحديثة الضخمة التي تبرز ضآلة أجساد المصريين وهم يحاولون عبور كوبرى قصر النيل، ورغم الصعاب تنطلق هذه الأجساد إلى الأمام، ولا تلتفت إلى الوراء. أما الأسدان عند مدخل الجسر فيمكن رؤيتهما عند التدقيق في اللوحة، وفيها يشاهد الأسدان الصامتان ثورة الأجساد الصغيرة أمام الصعاب الكبيرة، فمهمة العبور شاقة والعوائق جمة، لاسيما أن ألوان البنايات الموجودة على جانبي اللوحة تتسم بالقتامة، لكن هناك بصيص من الأمل يلوح في الأفق في منتصف اللوحة عبر الألوان الموحية بسطوع الشمس. لكن الأسدان لن يقفا طويلًا موقف المتفرج.

ثورة يناير، فن تشكيلي

ففي اللوحة الثانية، تتماهى الطبيعة الصامتة مع المصريين، حيث يختفي أحدهما، ويغير الآخر من جلسته ووضعته ويخرج عن صمته ويظل يزأر وهو واقف في أول الصف لاستقبال الحشود الثائرة حتى يشد من أزرها، فتعبر الطريق، وتضع نهاية لقتامة المباني التي أحاطت بها في اللوحة الأولى، وتنطلق إلى الميدان، حيث تتلاشى القتامة التى كانت تكسوا الأجساد والبنايات على حد سواء.

ثورة يناير، فن تشكيلي

أما اللوحة الثالثة، فتحتشد فيها الحشود من اليمين واليسار في انتظار العبور، الألوان على الجانب الآخر لها بريق أخاذ، البنايات لم تعد ضخمة وقاتمة، بل بسيطة ومضيئة، وتنعكس الإضاءات على مياه النيل، فينتشر الأمل في الماء واليابسة على حد سواء، وتسير الحشود نحو الأمل.

ثورة يناير، فن تشكيلي

الأمل لم يفارق أية لوحة من اللوحات حتى في «الشهداء». ففي اللوحة الأولى من هذه السلسلة، تجتمع الأجساد، وتصعد وفق دورها إلى السماء، وكلما ارتفعت الأجساد إلى أعلى، كلما خفت قتامة الألوان، وكلما زاد بريقها. ورغم أن اللوحة تصور مصير الشهداء، فلم تكتظ بالدماء، حتى أن اللون الأحمر في اللوحة ينبض بالحياة ويؤكدها أكثر مما ينفيها، فلم تحتف اللوحة بفكرة الموت ونهاية الحياة، بل قدمت صورة تجريدية بديعة ذات مضمون ثوري يفكك ثنائية الموت والحياة، بل ويجعل الموت بداية الحياة.

وهذا ما تؤكده اللوحة الثانية وتعمل على تكثيفه، إذ تزداد أعداد الأجساد، وتتوهج السماء، وتتلاشى الأجساد رويدًا رويدًا حتى تتماهى مع السماء.
ويصل الأمل إلى ذروته في اللوحة الثالثة، إذ تتزايد أعداد الشهداء، وتصبح الشهادة أصل الحياة.
ثورة يناير، فن تشكيلي

أما معرض «محطات الثورة» للفنان مصطفى يحيى فينتقي لقطات بعينها من الثورة المصرية ويستعين بجماليات القبح في تفكيك عقلانية الأنساق التي تدعيها الأنظمة الحديثة المتحضرة، لا سيما تبريريها استخدام القوة المفرطة تجاه المتظاهرين. وقد يبدو من عنوان المعرض أن اللوحات ستقوم بعملية توثيق أفقية لأحداث الثورة مثل موقعة الجمل وغيرها، لكنها لا تفعل ذلك، كما أنها تنطوي على نقد ثقافي واجتماعي يكشف انزلاق النظام نحو القمع والهمجية واحتكار السلطة والعنف. وتعكس معظم اللوحات همجية القوة عبر تصوير أجساد تتألم وتقاوم حتى تأخذ أشكالًا تجمع بين البشري والحيواني أو بالأحرى البشري وما دون البشري كما في الكائنات غريبة الخلقة، وهذا يبرز المسخ الذي أصاب المصريين على يد قوى القمع باسم الأمن وحفظ النظام.

فن تشكيلي، ثورة يناير

هذا المسخ يتجلى في لوحة الشهيد. هذا الشهيد العاري له رأس غريبة وملامح تتأرجح بين البشري والحيواني حتى أن أصابع اليد عنده ثمانية فقط، وينطبق الأمر على أصابع القدم، وهي تشبه حوافر حيوان أو كائن غريب، ويكثف مصطفى يحيى هذا المسخ بتصوير المجرمين العراة ذوي الأسنان الحيوانية الضخمة وهم ينقضون كالحيوانات بكل وحشية بالسواطير والسكاكين والعصي على هذا الشهيد العاري حتى يقطعوا جسده نصفين، لكن الوحة لا تُظهر الشهيد جثة هامدة، بل ترسم عينه في حالة من الإشراق وهو يُمسك بيده اليسرى علم مصر ويرفعه، فمزج يحيى ببراعة فائقة بين الألم والأمل.

ثورة 25 يناير، فن تشكيلي

في محاولته لإبراز تجربة الألم، اهتم مصطفى يحيى بما تكابده أجساد المصريين من انتهاكات. وقد اشتمل المعرض على لوحتين تبرز كيف تحول المصريين من الرجال والنساء – قبل الثورة وخلالها- إلى عرايا يرقدون على الأرض والأرصفة، لكن معظم اللوحات التي تفضح قمع الأجساد المصرية وانتهاكها ينقصها تكثيف القبح الذي تحدثه سلطة القمع في المجتمع؛ فاللوحات لا تكثف الطابع الحيواني لهذا العري، حتى أن العري يظهر في اللوحات وكأنه حالة استجمام واستمتاع واستراحة على شواطئ البحر.

ثورة 25 يناير، فن تشكيلي

كانت اللوحات بحاجة إلى عري يبعث على الاشمئزاز ويولد الإحساس بالألم، الألم الذي تتعرض له الشخوص في اللوحات، والألم الذي يتولد داخل المُشاهد والمتلقي عندما يرى الأجساد العارية وهي تعاني وتتعذب وتتألم بعد أن أفقدها النظام القائم إنسانيتها وألغى المسافة بينها وبين الحيوانات، بل حولها إلى كائنات غريبة هلامية وممسوخة لا ترتقي إلى مكانة الإنسان أو الحيوان.

ثورة 25 يناير، فن تشكيلي

علاوة على ذلك، أبرزت اللوحات عدم التكافؤ بين المتظاهرين والقوة العسكرية عبر تقنيات فنية تضخم عناصر معينة مثل الحذاء العسكري في مقابل ضآلة أجساد المتظاهرين، لكن المقاومة من جانب المتظاهرين تبدو قوية هي الأخرى، ويعكسها مصطفى يحيى عبر تضخيم جسد إحدى الفتيات حتى تبدو وكأنها لاعبة تمارس رياضة المصارعة أو رفع الأثقال وهي ترتدي حمالة الصدر، وفي ذلك إشارة ضمنية إلى الفتاة التي سُحلت في إحدى محطات الثورة، فتعرية الفتاة لم تقض عليها، بل زادتها قوة حتى أصبحت هي من يصارع السلطة التي لا ترحم ذكرًا ولا أنثى.

ثورة يناير، فن تشكيلي

اهتم «مصطفى يحيى» في لوحاته بالتأكيد على روح الثورة المصرية التي جمعت كافة أطياف الشعب المصري من مسلمين ومسيحيين ونساء ورجال وشيوخ وأطفال ومنقبات ومتبرجات وهن يشاركن في المظاهرات ضد النظام السابق. هذه اللوحة تجعل كل مشارك، بما في ذلك الأطفال، يمسك بلافتة مكتوب عليها أحد الشعارات التي كانت تعكس مطالب المصريين في بداية الثورة. لكن هذه اللوحة وغيرها يؤخذ عليها أن تميل إلى المباشرة دون الاستعانة بفن الإيحاء، فكان من الممكن الاستغناء عن الشعارت الموجودة باللوحة عبر تقنيات فنية غير مباشرة، كان على الفرشاة أن تعبر عما يخطه القلم دون أن تكتب الكلمات، وإلا أصبحت اللوحة عملية توثيق أفقية لا تخاطب خيال المتلقي. ولكنها اللحظة الثورية التي تميل إلى المباشرة احتجاجًا على الواقع الأليم!

إن السلطة القمعية في المرحلة الانتقالية بمصر لم تتمخض سوى عن الألم والعنف والرعب، ومازال الجسد المصري ينوء تحت وطأة القمع والإحباط وصناعة الكذب الإعلامي. ولا غرابة أن المحاكاة الفنية للثورة المصرية تعبير عن الألم الذي تكبده الجسد المصري منذ اندلاع الثورة وطيلة المرحلة الانتقالية. فكثيرة هي ضروب التشويه والقمع والبتر التي يتعرض لها الجسد المصري: سحل، واعتقال، وقتل، وتعرية. ومهمة المحاكاة الفنية هو إزاحة العنف الذي تمارسه السلطة القمعية على الأجساد والعقول المصرية، لكن –وهنا تكمن المفارقة- عبر تكثييف هذا الألم في الأعمال الفنية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.