إذا كنت ممن تابعوا كرة القدم في العقود الثلاثة الأخيرة، فبالطبع ستترسخ في ذهنك صورة لرجل أصلع في زي أسود كان هو صاحب القرارات الحاسمة في أغلب المواعيد الكروية الكُبرى، قرارات لا يعقبها أي اعتراضات من اللاعبين مهما بلغت نجوميتهم أو درجة عنفهم في الملعب، رجلٌ ظهر أمامه لاعبون من طينة «روي كين» و «إيريك كانتونا» كالحمل الوديع لا يبدون أي تذمُر من صافراته أو أي اعتراض على بطاقاته، إنه الحكم الإيطالي السابق ورئيس لجنة الحكام بالفيفا الحالي «بييرلويجي كولينا».

فبالرغم من أن نجوم كرة القدم من لاعبي الفرق والمنتخبات عادة ما يخطفون الأضواء من الجميع، إلا أن الأمر اختلف تمامًا في حضرة الإيطالي المخضرم الذي نجح في خطف الأضواء من الجميع دون أن يحرز هدفًا ودون قول تصريح واحد مثير للجدل حتى اعتزاله عام 2005، فما السبب؟.


الاحترام ولا شيء غيره

السر ليس في السُلطة، السر في الاحترام. الاحترام هو ماضي وحاضر ومستقبل كرة القدم.

كانت تلك هي إجابة الحكم الإيطالي الأشهر في تاريخ اللعبة «بييرلويجي كولينا» عند سؤاله عن سر قوة شخصيته في الملعب طيلة مسيرته الاحترافية، حيث يقول الأسطورة الإيطالية إن النجاح لن يأتي بتعيينك من قِبَل المسؤولين لإدارة المباراة، لكن النجاح الحقيقي أن تكون مقبولًا من اللاعبين، أن يثقوا بك و يحترموك، حينها ستخرج بأفضل نتيجة من المباراة حتى وإن أخطأت أثناء إدارتك للمباراة.

يُكمل كولينا تصريحاته لصحيفة التيليجراف ويقول إن في اللحظة التي يشعر فيها لاعب كرة القدم أن حكم المباراة عدوه هي لحظة الفشل ونقطة اللاعودة للحكم في تلك المباراة، فاللاعب يجب أن يكون على يقين أن الحكم موجود لكي يساعده على تقديم أفضل أداء، لا لتعطيله عن إبراز موهبته للجماهير.

الكلام قد يبدو مُنمقًا وغير قابل للتطبيق على أرض الواقع نظرًا لسخونة أحداث أغلب المباريات الحاسمة التي يتم إسنادها لكبار حكام اللعبة، لكن المختلف في حالة كولينا أن النصيحة قد أتت بعد الفعل وليس العكس، فلم نسمع يومًا ما عن مدرب يهاجمه أو لاعب يلوح له اعتراضًا على قراراته، كل ما سمعناه عنه هو فاصل من تصريحات المدح من اللاعبين والمدربين لدرجة جعلت لاعبين كديفيد بيكهام وزين الدين زيدان يطلبون منه أن يبادلهم القمصان بعد المباريات.


انهضوا لديكم 20 ثانية كاملة

BeFunky Collage

مهما أظهر الحكم من صرامة و شدة لضبط إيقاع المباراة إلا أنه في بعض اللحظات تنتابه بعض المشاعر الإنسانية الخالصة التي عادة ما تكون لدى المُشجعين لا الحُكام، وأحد أهم هذه اللحظات في مشوار بييرلويجي كولينا مع كرة القدم كانت الثلاث دقائق الأخيرة في نهائي دوري أبطال أوروبا عام 1999 على ملعب الكامب نو بين مانشيستريونايتد الإنجليزي وبايرن ميونيخ الألماني، حينما تقدم الفريق البافاري بهدف نظيف حتى الدقيقة 90، ثم احتسب كولينا ثلاث دقائق كوقت بدلًا من الضائع، فحدثت المفاجأة وتقدم الفريق الإنجليزي بهدفين في دقيقتين وفاز باللقب الأغلى بشكل لم يتوقعه أحد، ولا حتى كولينا نفسه!.

لم أصدق ما حدث حينها، فقد كان بايرن ميونخ هو الفريق الأفضل طوال المباراة، هم من استحقوا الفوز وكانوا قد بدأوا بالفعل في تهنئة بعضهم البعض على أرضية الملعب. بعد إحراز مانشستر لهدفين في دقيقتين كانت لحظة لا يمكن أن أنساها، كل شيء انقسم نصفين أبيض و أسود، لاعبون يحتفلون وكأنهم دخلوا الجنة وآخرون لا يتكلمون من الصدمة، جمهور يصدر أصواتًا كزئير الأسود، وجمهور آخر عاجز حتى عن الاعتراض، تعاطفت حينها مع لاعبي البايرن وقلت لهم انهضوا لديكم 20 ثانية كاملة.

بييرلويجي كولينا عن مباراة البايرن والمانيونايتد في نهائي 1999.


شخصية قوية منذ الصغر

كما قال أجدادنا: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، فقد كان لبدايات بييرلويجي كولينا أكبر الأثر في تكوين شخصيته المتزنة، الصارمة بهدوء، الحاسمة بتريُّث. بدأ كولينا مشواره مع التحكيم عام 1977 وهو ابن السابعة عشر ربيعًا بعد أن التحق بأحد الكورسات الخاصة بالتحكيم الرياضي، وقد تُفاجأ عزيزي القارئ حين تعلم أنه حاز أيضًا على درجة البكالريوس في علوم الاقتصاد من جامعة بولونيا، وهو ما ساعده في إدارة أعماله بعد الاعتزال عام 2005.

بييرلويجي كولينا.

في تلك الحقبة التي سبقت منتصف التسعينات لم يكن الجمهور يهتم بهوية الحكام بشكل كبير كما هو الحال الآن؛ نظرًا لضعف إمكانيات وسائل الإعلام مقارنة بتلك الأيام التي لن تجد فيها مشجعًا حقيقيًا لكرة القدم لا يعرف هاوارد ويب أو مارك كلاتنبيرج أو جراهام بول أو بييرلويجي كولينا. تلك الحالة خلقت حالة أكبر من الضغوط على حكام كرة القدم، لكن كولينا يرى أن الحكم يجب أن يتعامل مع تلك الحالة وكأنها خرافة لا يجب أن يُخبر بها أحدًا أو يعيرها اهتمامًا، وحين سألوه في إحدى مقابلاته الصحفية مع شبكة سكاي سبورت العالمية: كيف كان يخرج من تلك الضغوط قبل المواعيد الكُبرى قال: «كنت أُفضّل دومًا تناول المكرونة الإيطالية قبل كل مباراة ولف صافرة المباراة بشريط أبيض لكي أجد شيئًا ما ألدغه حين أشعر بالضغط».


اللعبة القذرة

دائمًا ما أعتبر الحياة عبارة عن مجموعة من القرارات، ولكن حين تتعلق تلك القرارات بالآخرين فإن الأمر يزداد صعوبة. حين كنت صغيرًا كنت أُدير المباريات و أنا أرى 22 لاعبًا أكبر مني سنًا، هذا الأمر ساعدني كثيرًا بعد ذلك في اتخاذ العديد من القرارات، ليست في كرة القدم فقط ولكن في حياتي أيضًا.
بعد الاعتزال، عملت كرئيس للجنة الحكام بالدوري الإيطالي، عشت شهرًا كاملًا تحت حراسة الشرطة الإيطالية نظرًا لسخونة مباريات الدوري الإيطالي في تلك الفترة، لم أكن أتمنى أبدًا أن أعيش حدثًا كهذا.
بييرلويجي كولينا.

يرى كولينا أن العيش تحت تهديدات القتل والخطف هو أحد أخطر الأشياء التي تهدد اللعبة على مستوى العالم، وتساءل: كيف يمكن للحكم أن يؤدي جيدًا تحت تلك الظروف من لعنات الجماهير ودعوات آباء وأمهات اللاعبين على السوشيال ميديا، هذا شيء غير مفهوم على حد قول الحكم الإيطالي السابق.

في عام 2005 بلغ كولينا عامه الخامس والأربعين، وبعد مفاوضات عديدة مع اتحاد الكرة الإيطالي ولجنة الحكام بالاتحاد ذاته قرر بييرلويجي كولينا اعتزال التحكيم بعد أن كانوا قد مدّوا سن الحكام المشاركين في كأس العالم في ألمانيا من 45 عامًا حتى 46 عامًا حتى يتيحوا له المشاركة، إلا أن عقد الرعاية الذي وقّعه الحكم الإيطالي آنذاك مع شركة «OPEL» حال دون ذلك، إذ إن الشركة ذاتها كانت ترعى نادي ميلان الإيطالي في نفس الفترة وهو ما أضرّ بمبدأ تساوي الفرص بين الأندية، فخسرت كرة القدم واحدًا من أفضل حكامها عبر التاريخ إن لم يكن أفضلهم.

المراجع
  1. تصريحات كولينا عن بداياته و الضغط على الحكام.
  2. تصريحات كولينا عن نهائي دوري الأبطال عام 1999.
  3. لقاء كولينا مع شبكة سكاي سبورت.