أسهَمت المعالجات الفنية الاستشراقية، التي تناولت الجوانب الروحية للشرق، إسهامًا كبيرًا في إضفاء توازُنٍ نِسبيٍ على الرؤية الاستشراقية العامة؛ ففي مقابل الأعمال الفنية التي صورت الشرق باعتباره رمزًا للجمود، والتخلف، والبداوة، والشهوانية، واللا عقلانية، والقهر، والاستبداد، ظهر في مقابلها ما يؤكد على جانب الأصالة الروحية للشرق، وعلى تغلغل المفاهيم الاعتقادية الراقية في صميم الممارَسات الدُنيوية، وانعكاس التجليات الدينية على الواقع المَعيش.

وهكذا، كان من المنطقي أن نطالع في مَتن الصورة الاستشراقية نماذج فريدة، تناولت طائفة واسعة من المظاهر التعبُّدية الإسلامية، التي استقرت في صميم الضمير الحضاري الشرقي، وتجسدت من خلال الممارسة الشعائرية والسلوك اليومي معًا، متخذةً سَمتًا فريدًا، تتعدد ملامحه الفرعية، وتتلون ظواهره تبعًا للتنوع الثقافي والعِرقي الفريد، الكامن في أصل النسيج الحضاري الشرقي.

ومن بين أهم تلك الممارسات التعبدية الإسلامية، المقترنة بظواهر احتفالية وطقوسية شديدة الخصوصية، برز صوم شهر رمضان، بما يشغله من مكانةٍ عظيمة الأهمية في صُلب الاعتقاد الإسلامي؛ بوصفه الركن الرابع من أركان الإسلام الخمس، وبما يرتبط به من منظومة احتفالية كاملة، تأصَّلت في العديد من الجوانب الحياتية للشرق الإسلامي، وتجلَّت آثارها على مدار شهرٍ كامل، على مستوياتٍ عِدّة، شملت كافة مظاهر الحياة في أقطار الشرق الإسلامي، الأمر الذي وفر مادةً بصريةً خصبة وفريدة، أتاحت لمصوري حركة الاستشراق فُرَصًا نادرة، للإطلال على زاوية جوهرية من زوايا التمايُز الاعتقادي الشرقي، وتسجيل الممارسات المختلفة الناجمة عنها والمرتبطة بها.

في إطار ذلك، تأتي أعمال المصور والنحات الفرنسي الشهير جان ليون جيروم (Jean-Léon Gérôme) (1824 – 1904)، لتطرح مجموعةً من النماذج الفريدة، التي استلهمت مظاهر العبادات الرمضانية، وما اقترن بها من مظاهر احتفالية ذات خصوصية، عالجها في عددٍ من التجارب الفنية البديعة، اختلط فيها الوعي الكامل بالمقتضيات الجمالية للصورة الفنية بما يوازيها من ضرورات التوثيق الحضاري والتحليل الثقافي.

يُعَدُّ جيروم أحد أبرز فناني الاستشراق الذين وَفَدوا على الشرق العربي والإسلامي خلال القرن التاسع عشر. وقد بدأت علاقة جيروم بالشرق من خلال رحلةٍ قام بها إلى تركيا خلال عام 1854، متجهًا منها إلى مصر، وهي رحلةٌ سجَّلَ خلالها يومياته التي طُبِعَت فيما بعد في كتاب، وتضمنت معلومات وافية عن تفاصيل الرحلة، وعمَّن شاركوه إيّاها من مصورين وصحفيين وأصدقاء. وقد التقى جيروم بالخديوي إسماعيل، وعند عودته إلى باريس أرسل له ألبومًا يتضمن صورًا فوتوغرافية لأعماله الكاملة، وهو ما كان سببًا في دعوة جيروم مع عدد من الفنانين الفرنسيين إلى حفل افتتاح قناة السويس عام 1869.

وقبل ذلك بعامٍ واحد، وتحديدًا في عام 1868، كان جيروم قد قام برحلته الثانية لمصر وآسيا الصغرى، وهي رحلة طويلة، زار خلالها معظم جوامع القاهرة الأثرية، وصوَّر الكثير من المعالم المعمارية الإسلامية.

وقد اقترنت معالجات جيروم للموضوعات المستلهَمة من الشعائر الرمضانية بهذا الملمح المعماري المتأصل في أعماله؛ وهو ما يتجلى في ثلاثة من أهم أعماله التصويرية وأشهرها، التي أنتجها خلال رحلته الثانية لمصر. وفي مقدمة هذه الأعمال الثلاثة، يأتي عمله المعروف باسم «الصلاة فوق سطح مسجد بالقاهرة»، والذي نفذه عام 1865، وهو من مقتنيات متحف متروبوليتان حاليًا. وقد تناول جيروم في هذا العمل لحظةً فارقة من لحظات اليوم الرمضاني، وهي تلك اللحظة التي تغرب فيها شمسُ اليوم، مؤذِنةً بانتهاء فترة المجاهدة الروحية والجسمانية، المقترنة بكَفّ الحواس عن الشهوات، وكفّ النَفس عن خواطر السوء، ومُعلِنةً عن فترة إباحة ما يَحِلّ من غذاء الجسد ومباهج النفس، عقب الفراغ من صلاة المغرب، تلك الصلاة المحورية الفاصلة بين يوم الصيام وليلتِه.

لوحة «الصلاة فوق سطح أحد المساجد بالقاهرة 1865» – للفنان الفرنسي «جان ليون جيروم»، وتوجد بمتحف المتروبوليتان

وقد توَخّى جيروم في لوحته تلك تتَبُّع حركات الصلاة الأساسية، وهو ما بدا في تنوع الأوضاع التي اتخذتها أجساد المصلين، الذين انخرطوا في تأدية ركعتي السُنّة خلف الإمام، الذي بدا منهمكًا بِدَورِهِ في دعاءٍ حار خاشع، منتهزًا فرصة تلك اللحظة الفاصلة بين دَفَّتَي النهار والليل.

ونتيجة انتقائه سطح المسجد مسرحًا للحَدَث الذي يعالجه، فقد تمكن جيروم من تضمين حَدَثٍ محوري آخر في تكوين لوحته، وهو حدث وثيق الصلة بالحدث الأساسي، على مستوى الموضوع والبناء التصميمي معًا؛ وذلك حين ادخر لخلفية اللوحة منظرًا موازيًا، تتكون مفرداته الأساسية من مجموعة من المآذن والقباب، وأسطُح المساجد القاهرية المجاورة لسطح المسجد الرئيسي. وقد عمَد جيروم إلى توزيع عددٍ من الشخوص، فوق شُرفات المآذن وأسطح المساجد، ظهر من أوضاعهم الحركية كونهم من المؤذنين والمصلين، فضلًا عن خدم المساجد الموَكَّلين بمراقبة غروب الشمس، وبذلك صار الفِعل الجاري بخلفية اللوحة مُمَهِّدًا للحادث في مقدمتها ومُتَمِّمًا له، ووسيلةً بصرية ناجزة للإيهام بحركة الزمن داخل المشهد.

يأتي العمل الثاني، وهو عمل منفذ بعد عامٍ واحد من سابقِه، وتحديدًا عام 1866، ليُظهِر مدى انشغال جيروم بهذه اللحظة الرمضانية الفارقة نفسها؛ والتي يعالجها هذه المرّة بإيجازٍ وتركيز، مختصرًا الشخوص في شخص المؤذن، الذي يعتلي شرفة المئذنة، رافعًا عقيرته، ومُستشرفًا الفضاء، استعدادًا لرفع النداء السماوي. وقد ظهرت حصافة جيروم في هذا العمل على نحوٍ جَليّ؛ وذلك حين عمَدَ إلى تطبيق حيلة بصرية بسيطة، شديدة الرهافة، كي يحدد للمشاهد توقيت الآذان بدقة، ففضلًا عن النَسَق اللوني الأرجواني المُمَيِّز للحظة الشَفَق، والتي تميز لحظة الغروب دون غيرها من ساعات اليوم.

رسم جيروم سِربًا من الحمائم، تطير إلى يسار المؤذن في الخلفية المفتوحة للسماء، وقد انتظم أفرادُها في خطين متصلي الطرفين، بما يكون شكل رأس سهمٍ، وهو ما يؤكد للمشاهد انتهاء اليوم، قياسًا على قُفول الحمام عائدًا لمَبيتِه من رحلة سَعيِه اليومي. ويظهر جَلِيًّا من مقارنة هذه اللوحة بسابقتِها، أن الفنان قد استعان بنفس النموذج (الموديل) في رسم شخصيتَي الإمام – في اللوحة الأولى – والمؤذن في اللوحة الثانية؛ وهو ما يظهر بوضوح في ملامح الوجه وارتداء الثياب نفسِها.

لوحة «المؤذِّن» (1865) للفنان الفرنسي «جان ليون جيروم»

وفي مقابل انشغاله باستلهام توقيت الغروب، ومعالجة ما يقترن به من رفعٍ لآذان المغرب وإقامة صَلاتِه، لم يَفُت جيروم أن يتناول بالمعالجة لحظةً فارقةً أخرى، ذات أهمية جوهرية في تعيين الحد الفاصل بين ليلة الصيام ويومه، وهي لحظة انبلاج الفَجْر، المصاحبة لرفع نداء الصلاة، صلاة الفَجْر، تلك الصلاة المُشبعة بالخصوصية الروحانية بين غيرها من الصلوات الإسلامية المفروضة. وقد ظهر ذلك في لوحةٍ نفذها جيروم بعد مرور حوالي 14 عامًا على تنفيذ لوحته السابقة؛ أي في عام 1880.

لوحة «المؤذن» (1880) للفنان الفرنسي جان ليون جيروم

اختار جيروم للوحته منظورًا فوقيًا، يُطِلُّ على مجموعةٍ من أسطُح المباني التقليدية والعمائر الإسلامية، التي كان يحفل بها السياق الحَضَري لمدينة القاهرة خلال القرن التاسع عشر، جاعلًا مِن الجوسق العلوي لإحدى المآذن القريبة مسرحًا للحدَث الأساسي للوحتِه، حيث وقف المؤذن وإلى جواره صبيٌّ، يقوم بدور المساعد في تكرار مقاطع الابتهالات الدينية، التي كان من عادة مؤذّني القاهرة ترديدها بتنغيمٍ ساحر، في الساعات السابقة للحظة انطلاق آذان الفجر.

وبذلك، فقد كان هذا الصبي وأمثاله يقومون بدور ما كان يُعرَف باسم «البطانة»؛ أي أفراد جوقة المنشدين المساعدين، الذين كانوا يمثلون أعضاء فِرَق الإنشاد الديني المصاحبة لكبار المنشدين، والذين استمر وجودهم في مجالَي الإنشاد الديني والطرب الدنيوي بمصر إلى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين.


ومن المدرسة الاستشراقية الإيطالية، يأتي المصور فاوستو زونارو (1854 – 1929) Fausto Zonaro، الذي كانت علاقته بالشرق قد بدأت حوالي عام 1891، حين قرر الانتقال من فينسيا إلى إسطنبول، عاصمة الدولة العثمانية وقتها. وبدايةً من عام 1892، استقر زونارو بإحدى ضواحي إسطنبول، واستطاع، بمرور الوقت، أن يصير محل اهتمام الدوائر الأرستقراطية في العاصمة العثمانية، واستغل براعته التقنية استغلالًا تجاريًا ناجحًا؛ تَوَّجَه بتَلَقّيهِ العديد من طلبات الأعمال الفنية لصالح أفراد عديدين من أبناء الطبقة المخملية.

ونتيجةً لذلك، رُشِح زونارو عام 1896 ليكون مصورًا رسميًا للبلاط، وهو ما اقترن باقتناء السلطان عبد الحميد الثاني لبعض أعماله. وبشَغله منصب المصور الرسمي للبلاط، اعتبر زونارو نفسه خليفةً للمصور البندقي – الفينيسي – جنتيلي بلليني، الذي سبق وأن كلفه السلطان محمد الفاتح برسم لوحةٍ شخصية له (بورتريه) قبل ذلك بحوالي ثلاثمائة عام.

وظل زونارو في إسنطبول حتى عام 1909، وكان أحد الفنانين الذين أسهموا إسهامًا رئيسيًا في تطوير الفن بالأسلوب الغربي في تركيا، إلى أن عاد في العام المذكور إلى إيطاليا بعد الانقلاب الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد الثاني. ولم يُعيَّن أي مصور للبلاط العثماني من بعده. واستقر زونارو حتى وفاته في منطقة سان ريمو.

وقد اتسم إنتاج زونارو بالغزارة؛ إذ رسم مئات اللوحات، أغلبها عن الإمبراطورية العثمانية وأحداثها التاريخية، كما رسم العديد من أعمال الصور الشخصية (البورتريه)، والمناظر الطبيعية، وموضوعات الحياة اليومية، التي يظهر فيها أثر المظاهر الاحتفالية المقترنة بالمناسبات الدينية المهمة.

ومن أشهر الأعمال التي أنتجها زونارو في هذا السياق، لوحة رسمها عام 1899، حملت اسم «الاحتفال بعيد الفطر»، أو «رمضان بَيْرَم- Ramadan Bayram»، وهي لفظة تركية تلخص معنى الاحتفال بمُختَتَم هذا الشهر الكريم، وبما يعقبه من أيام عيد الفطر، على المستويين الرسمي والشعبي، في جميع الأقطار التابعة للدولة العثمانية.

لوحة «الاحتفال بعيد الفطر» أو «رمضان بيرم» (1899)، للفنان الإيطالي «فاوستو زونارو»

سجل زونارو في لوحته احتفالًا موسيقيًا راقصًا، انخرط فيه مجموعة من الرجال وهم يرتدون أزياءهم وفق الطُرُز المميزة لأنماط الثياب التركية آنذاك، والتي بدا منها انتماء معظم المحتفلين إلى طائفةٍ طبقية بعينها من طبقات المجتمع، وهي تلك الطائفة التي تضم أبناء الشريحتين الدنيا والوسطى. كما ظهر بين المشاركين بالاحتفال عددٌ من رجال الشرطة، ومجموعات من الأطفال، ونفرٌ من الأجانب الموجودين بالعاصمة العثمانية، ممَن أتوا ليشهدوا وقائع هذا الاحتفال الصاخب البهيج.

وبرغم الصخب المُفترَض في مثل هذا النمط من الاحتفالات الشعبية، وما يتضمنه المشهد من أداء حركي يعبر عن الرقصات العنيفة المألوفة في ثقافة بلاد الأناضول، فقد تمكن زونارو من الاحتفاظ للوحته بطابع الرصانة التقليدية المميزة للأعمال ذات الطابع الأكاديمي، الذي شاع بين معظم مواطنيه من مصوري إيطاليا في زمنِه؛ وقد ظهر ذلك في تقسيمه للشخوص إلى ثلاثة صفوف أفقية متوازية متتالية، يليها صفٌّ رابعٌ في أقصى خلفية المشهد، يضُم مجموعةً من المباني البادية من منظورٍ علوي، يترجم بصريًا موضِع الحدث، المتمثل في بقعة علوية تقع على طرف أحد الجبال المحيطة بالعاصمة، والمُطلة على معالمها المعمارية المميزة.

هكذا التقت في أعمال حركة الاستشراق الفني مظاهر الاحتفاء الروحي والاحتفال الدنيوي، استقبالًا لشهر رمضان المبارك وتوديعًا له، وتناغَمَت وقائع الحياة اليومية مع دَواخِل الحياة الروحية، ليلتقي الأرضي بالسماوي، في انسجامٍ فريد، نَدَرَ وجوده خارج السياق الحضاري الشرقي، وقُيِّضَ له التوثيقُ في فرائد الاستشراق الفني، التي مزجت مقتضيات الجمال الفني بضَرورات التوثيق التاريخي.


مقتطف من دراسةٍ للدكتور «ياسر منجي»: بعنوان «رمضان في إطار الصورة الاستشراقية، بين المقتضيات الجمالية والضرورة التوثيقية»، نُشِرَت في مجلة الخيال الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، في عدد يوليو/تموز 2015.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.