المقال مسجّل صوتيًا، يمكنك الاستماع إليه في آخر المقال.

الحياة لا تتوقف عند صورة شخصية معلقة بمسمار صدئ على الجدار، يقتطع زاويتها شريط أسود مهترئ. الحياة تنطلق وراء الجدار، وتجرى أبعد من كل النهايات. خاصةً وصاحبة الصورة قطرة ندى على خد الصباح جاءت من عيون يملؤها الحب، ولم تقطر من نظرةٍ عالقة في عينين شريدتين.

علينا أن ننظر إلى ما هو أبعد من الحزن، أبعد من الوجع أو الملل أو الإحباط. هناك وراء هذا البعد ما هو أوسع وأكثر ضياءً. هناك وراء الشمس عيون تبتسم لتبادلوها الفرح، حقيقة تتجاوز مدّ النظر، تتحرر فيها الروح من قيود العتمة، فافتحوا لها منفذًا كي يمر فيكم الضوء.فلا يموت من قلبه يَمامٌ لا يرف في جسد واحد. أو امتلك قلبًا صامدًا لا يتوقف عند حلم واحد. أو حوى في صدره قلبًا على هيئة أغنية لا تصدح في حنجرة واحدة. لا يندثر أبدًا مَن قلبُه صباحٌ لا يحجر ضياؤه على وردة واحدة من وردات السياج. فما الحياة بعدد السنين ولا بوجودك على الأرض. الحياة بالمقاومة ضد الظلم والقهر والأنانية، ضد الاحتلال والبشاعة والحرب والخراب. الحياة أن تقاوم ضد أسر الأفكار والأحلام والخيال. الحياة أن تقاوم لتحيا كما يجب أن يحيا الإنسان. وفي كلٍ تبقى السماء لا الأرض هى بحر الأحلام المستعصية.


ريم حارسة الناصرة

ما الذي ينقص الإنسان ليتجاوز بشريته ويحصل على وسم الملائكة؟الجمال؛ «ريم بنّا» جميلةٌ كما يجب على بنات «الناصرة» أن يكنّ. حملت في ملامحها معاناة أبناء الجليل، ولخصت في ابتسامتها روح أبناء فلسطين. ماذا يحتاج الإنسان غير الجمال؟

الصوت العذب! كانت عذبة الصوت إذا غنت، بديعة الأداء إذا لحّنت، مسموعةً إذا تحدثت عن شعبها، رائقةً إذا خاطبت الأطفال.

درست الغناء لست سنوات في موسكو وتخرجت عام 1991. لم تستطع برودة موسكو أن تُطفئ شعلة الوطنية بداخلها. حتى حين تزوجت الأوكراني «ليونيد أليكسيانكو» أتت به إلى الناصرة. ولما انفصلت عنه بعد 9 سنوات من الزواج ظلت في الناصرة. والآن في مارس/آذار 2018 تُدفن في الناصرة، تاركةً أطفالها الثلاثة حراسًا على أبواب الناصرة.

ألفت معظم أغانيها ولحنتها فجعلت ما تقدمه فنًا فريدًا. سَخّرت كلماتها لفلسطين، فجعلت غناءها مقاومة باسلة. حتى حين لجأت إلى موروث الكلمات والأشعار، سجلت الأغاني التراثية الفلسطينية التي كادت تندثر. فأعادتها ريم إلى الأضواء، وأخذت تلك الأغاني ريم إلى الأضواء. إذ كان أول ظهورها في التسعينيات بتلك الأغاني، ومن هناك ابتدأت ريم بنا خطف الأضواء.دائمًا واعية لما تقوم به. تجمع النصوص التراثية غير الملحنة، تضع لها لحنًا موسيقيًا عصريًا، ثم توفق كل هذا مع صوتها الرقيق. صوتها لا يحتمل زخرفات الأغاني الشرقية التراثية المعتادة، وهى تدرك ذلك حين قالت إنها تحاول الوصول إلى منطقة وسطى بين التراث والعصرية بما يتلاءم مع قدراتها الصوتية.

نقلت ريم القضية الفلسطينية خارج حدود 67، وتجاوزت بها حدود عام 48. أول ظهورها في أوروبا كان شراكةً مع «كارى بريمنس» في ألبوم «تهويدات من محاور الشر». ثم تبعته بـ«رسالة موسيقية ضد الحرب إلى الرئيس الأمريكي بوش»، شاركها في الرسالة مغنّيات من النرويج والعراق وإيران وسوريا وكوريا الشمالية.ثم عادت إلى الداخل مرةً أخرى وبصورة أشد عنفًا. غنت «مرايا الروح»، هديتها لجميع معتقلي فلسطين في السجون الإسرائيلية، وللمعتقلين العرب في سجون جميع النظم. قدمت فيها رسالةً أصيلةً بلون موسيقي جديد، إذ خلطت الـ «بوب» مع أسلوب الغناء الشرقي والكلمات العربية.


الموت مثل التاريخ: كلاهما مزيف

لن نقول إنّها في وضع صحي صعب، فلا صعب يعلو على ابتسامتها. لن نُسهب في وصف معاناتها مع السرطان، فلطالما تجاهلته ونقلت لنا الجمال المحيط بها بدلًا من المعاناة. حتى السائل الذي دأب الأطباء على إزاحته من رئتها، صورته لنا رائقًا شفافًا كهدية من هدايا الطبيعة.

كذلك لن نقول ما تبجح به الآخرون؛ «صراعٌ طويلٌ مع المرض»، لو عرفوها ما قالوها.في 28 نوفمير/تشرين الثاني 2017 غضبت ريم بشدة للقول بأن المطربة شادية ماتت بعد صراع طويل مع المرض. فريم لا ترى حياتها ولا حياة شادية طويلة، تراهما الاثنتين صغيرتين، أصغرَ من أن يخوضا صراعًا «طويلًا» مع المرض. كذلك أرادت ريم أن يقال عنها ماتت بسرطان الثدي أو بجلطةٍ ما، هكذا بدون تعقيد أو مواربة. فحتى لو تصارعت مع المرض لصرعته هي. أخبرها طبيبها يومًا أنها نجت من جلطة على الرئة، فأجابت أن بإمكانها إصابة بلد كامل بالجلطة لكن لا تصاب هي بها. كما لا ترى غيابها موتًا، إنما خدر عميق. الموت عندها كالتاريخ، كلاهما مزيف.

خدر عميقٌ تنهض منه بخفة، تشد ظهرها كأنها ترقص «التانجو»، كأن القسوة التي لاقتها لانت كالعجين. فتتحرك كضوء يرمش بجنون، وتتصبر كزيتونة الدار حتى تفرد جناحيها مع الأفق وتضرب بكعبيها إيقاعًا في الأرض ثم تغني كمن قطع الشجن أوتار صوته. بعد أن تغني ستخلع عنها قميص جسدها المُنهك من المرض والدواء فتهرب من بين الورود المُسجاة على صندوقها. تاركةً وراءها الآلام والأحزان لتعود إلى بيتها تطهو وجبة عشاء طيبة. ثم تنتظر أولادها أمام مرج ابن عامر مع فنجان الميرمية.ستعيش حياة أجمل من سابقتها، لأنها ستكون قد تخففت من إحساسها بأنها عبء على الطب الذي عجز أن يداويها. وعلى الوطن الذي لم يكترث بها، وعلى درب الأحلام الذي لم تعد قدماها تستطيعان السير عليه. بعد أن تُريح جسدها بعد أن صارت عبئًا عليه، وتريح الليل من أصوات آلامها. حينها ستولد من جديد، ستتبع درب الورد لا درب الآلام. حينها ستكون الريح قد حملتها عاليًا فوق وجعها الذي صار صغيرًا لا يُرى.

من هناك ستحتفل من مكانها بتخرج توأميها «قمران» و «أور سالم»، وستحضر فرح ابنتها الأولى «بيلسان». منذ 2009 كان هذا هاجسها الأول بعد علمها بإصابتها بسرطان الثدي. كان توأماها حينها في الصف الثاني، وبيلسان في الصف العاشر. قاومت سنوات حتى حضرت تخرّج بيلسان وبَقي فرحها، وصار التوأمان في الصف العاشر وبقي حفل تخرّجهما.


ريم: مفردة اللغة الجديدة

في مرضها نصرت فلسطين، كما نصرتها في صحتها. تلقت علاجها في مستشفى «العائلة المقدسة» بالناصرة طوال 8 سنوات. طبيبها فلسطينيٌّ قُح اسمه «سالم بلان»، دمه مشبع بالرمان. رفضت أن ترد على الطبيبة التي نقلتها إلى المستشفى في سيارة الإسعاف حين رأتها ترتدي ملابس الجيش الإسرائيلي. دائمًا ما تدعو إلى مقاطعة لغة الاحتلال، ومقاطعة وجوده، ومقاطعة مثقفيه وفنانيه.حين نعلم كل ذلك عنها فإنّا إذ نقول ريم فإننا نتجاوز بكلمتنا «ريم جميل بنّا» إلى ريم كمفردة عليهم أن يضيفوها في معاجم اللغة. فإذا قيل لك ما يعني اسم ريم، فلا تقل غزال رشيق الحركة، خفيف القوام، جميل الشكل. بل قل ريم يعني ريم بنّا. قل ريم يعني امرأة تتصف بالقوة والصمود، تعلّقت بالأمل ولم تركن لليأس لحظة. امرأة ترى أنوثتها لا تكتمل بغير إتقان لف «ورق العريش». فلا تقل لامرأة أنت قوية أو أنت طاهية ممتازة، بل قل لها أنت ريم.

لا مواربة عند ريم، فأدوية تمييع الدم التي تتلقاها باستمرار لن تميّع موقفها الثابت. فالداعون إلى السلام مع المحتل ليسوا نبلاء، بل بلاء سقط على رءوسنا. من أراد عقد لقاء صحفي معها فعليه أن يقبل صورتها التي تتلفع فيها بالكوفية الفلسطينية وإلا فلا. لا تغيُّر للمسميات عندها فالخامس والعشرون من يناير موعد ثورة مصر الوحيدة. وهو ذاته الموعد الذي تجبر قلبها على الاستمرار في النبض لكي تعيش ذكراه عامًا بعد الآخر علّه يتكرر يومًا.

كلما تراكمت عليها المصائب تتعب، لكنها لا تنكسر بل تنهض من جديد. تحبس وجعها بين أضلعها الممزقة وتمضي نحو الشمس. أجل تمضي ببطء لكنها تمضي صعودًا في كل الأحوال. لن تندثر ريم، إنما هى مرآة ترتد القسوة عند عتبة لمعانها. وإن انكسرت فيولد من نثارها مرايا جديدة.لم تغضب من القدر إذ أوقفها عنوةً عند مفترق طرق متعثرٍ وصعب. امرأة بكامل عنفوانها في مقتبل العمر لمّا تبلغ 42 عامًا. أهداها القدر السرطان فردّت أن شكرًا على أجمل هدية مرت بي في حياتي. فلم تكن ريم أبدًا مصابةً بوعكة صحية، بل كانت الوعكة هي المصابة بريم. اتخذت من مرضها دافعًا لقلب الطاولة بل إلى تحطيمها. قالت لا، واتخذت قرارات مصيرية نشلتها من حياة تسير ببطءٍ إلى الموت. حتى كانت قبل آخر أيامها بساعات في ذروة التجلي.تحملت باسمةً كراسي انتظار المرضى الحديدية المؤلمة التي كانت تتأخر عليها بالساعات في انتظار دورها في الأشعة. وصبرت على ضيق الزمان إذ لم تستطع أن تدفع ثمن مصاريف أولادها في المدرسة. شدّت الحزام طوال عام حتى جاءتها جائزة شخصية العام الثقافية عام 2016، كفتها تلك الجائزة 7 أشهر مع استمرار سياسة شد الأحزمة.


لا حاجة للصوت

إذا سكت الغناء في صوتها، فهناك مليون أغنية في شرايينها. حتى لو كانت مطالبتها بالغناء بعد شلل وترها كمطالبة مشلول بالوقوف والانطلاق نحو الشمس. لن يمنعها الوتر المشلول وسيبقى الوتر الوحيد صامدًا. سجلت به أغنيةً في ألبومها الذي أعدته ليصدر في أبريل/نيسان 2018.ألبوم عجيب، ألبوم بلا غناء. موسيقاه ستتولد من ملفاتها الطبية وصور أشعاتها وفحوصاتها. ستنسج تلك الموسيقى المتولدة بوحًا خافتًا من الصوت يقول في ثناياه مقاوِمةٌ حتى الرمق الأخير. مقاوِمة سافرت وهي لا تستطيع الخطو خارج آلة تساعدها على السير.

مقاوِمة تجاهد لتنتزع يومًا إضافيًا من الحياة، لكنها مع ذلك تجري كغزالة نحو الشمس. تلاحقها صعوبات الحياة بتعقيداتها، ومن شدة تسارع الصعوبات الأخرق تتعثر ولا تلحق بريم. بينما تتوقف الغزالة عن عَدوها لتلتقط الزهرات التي داستها الصعوبات دون انتباه، فرائحة الأزهار دائمًا تفوق رائحة الدم. حتى لو صمت الوتر الآخر ستتدفق تلك الأغاني يومًا في شرايين الآخرين لتنفجر بها آلاف الحناجر. لا يختص غناؤها حنجرةً دون الأخرى. في الدنمارك سألوا عن قرابتها بعائلة مسلمة تحمل لقب بنّا، أجابت أجل هم أقربائي. وسألها آخرون عن قرابتها بعائلة مسيحية تحمل لقب بنّا، أجابت أجل هم أقربائي. ثم رفعت صوتها للجميع جميعكم أقرباء أبي وأقربائي.

كذلك قالت عنها «كاري بريمس/Kari Bremnes» مغنية النرويج وشريكة ريم في ألبوم تهويدات من محاور الشر. غنت لها بريمس أغنية خاصةً في 10 سبتمبر/أيلول 2017 عنوانها صوت ريم. وصفتها بالشجاعة، بأنها تنتقل نحو الضوء لا القاع. وأنها في حالة حرب مستمرة لن يوقفها الموت. وصوتها أخضر كالربيع العربي، مهما سمم المرض صوتها فلن يصمت.


الغياب مرادف الولادة

في 16 نوفمير/تشرين الثاني 2017 وقفت تنعي أباها «جميل ميشيل بنّا». بداخلها الإدراك أنّها تنعيه وتنعي معه نفسها. قالت له ولها إن البداية ولادة، والنهاية ولادة جديدة. وبين الولادتين عليك أن تعرف ماذا تريد تمامًا. فعندما تشعر أنّك لست هنا ولا هناك. لا تنتمي إلى ما تحب، ولا إلى ما فرضه الزمن. عندما تجدك لست فرحًا ولا كئيبًا، لست قلقًا ولا مبتسمًا. حينها تتشرب نفسك ضبابية شديدة، تتحول تلك الضبابيّة إلى مناعة ضعيفة تقتلك. فالمناعة لا تقبل حيادك ولا ضياعك.

قبل وفاة أبيها أعلنت ريم منذ أكتوبر/تشرين الأول 2017 تبرأها من جسدها. صدحت بإيمانها بأن الجسد فانٍ، وأنه لا يعنيها ما يحدث فيه. وأنها بانتظار اللحظة التي تنطلق فيها روحها إلى الفجر بدلًا من العتمة الحالية. اللحظة التي ستنتقل فيها إلى الحقول والمروج الواسعة غير المرئية القابعة خلف مرج ابن عامر.

لا نستطيع أن نكتب ما نحس. ننفق الحروف وندرس قواعد اللغة، نتعلم أن هذا يجوز وهذا لا يجوز. نتمادى في التحليل والقلب عليل. ليت الكتابة كانت أنغامًا، حينئذ ستكون النغمة التي تكتب ريم بنّا هى نغمة الجنون. نغمةٌ تبدأ من القاع خافتةً ثم تزداد وضوحًا. كلما ضاقت الدنيا اتسع صداها ليشمل مكانًا آخر.

ستكون نغمةً مصنوعةً من ضوء، ضوء يشع من بين ضلوعها حيث ينام قلبها النابض بإيقاع غزالة شاردة. يقاوم حينًا، يضيء حينًا، ينطفئ حينًا لكنّه يعود للإضاءة من جديد. قلب كمعبد لا تخفت صلاته، ترتبك ضرباته ولا تستطيع صاحبته أن تضبطه بين اختيار العشق أو الهواء، لكنها استطاعت أخيرًا أن تنسجهما معًا في لحن نابض اختار العشق على الحياة.علمنا غياب ريم أنّا في المساء، في حلكة الأشياء، نرى ضوء النجوم واضحًا. ونحن الآن في حلكة الأوجاع نرى كم كنّا أصحاء في تجاوزها. أن نتوقف عن الانبهار بأغانيها الثائرة، فإذا كان مع كل نفس من أنفاسها وجع فكيف لن تخرج أغانيها ثائرة. وأن نعلم أن الغياب والغيب والغيبوبة كلها مرادفات للولادة الجديدة. وأنّه مهما كان حالك فعليك ألا تتوقف عن الحلم.