منذ اليوم الأول لفوز حماس في الانتخابات التشريعية في يناير/ كانون الثاني عام 2006، أشعلت محافل صنع القرار في العواصم المحيطة؛ الأضواء الحمراء خشية أن يكون فوز حماس له ما بعده بإقامة ما أسمته «إمارة» إسلامية في الأراضي الفلسطينية.

وسواء بني هذا التوقع على معطيات حقيقية، أم تقديرات تخمينية، أم تخوفات أمنية فحسب، فقد كان له أثره على مجريات تطبيق حماس لبرنامجها الانتخابي المعنون بـ«التغيير والإصلاح »، ولم يقتصر على الأبعاد الدينية والاجتماعية والسلوكية فحسب، بل شمل الأبعاد الإدارية والسلطوية والاقتصادية.

لم تشأ حماس أن تعلن عن الإمارة الإسلامية فى غزة، أو تطبيق الشريعة لاعتبارات سياسية محلية وإقليمية، ورغبة منها بعدم إثارة الأطراف المعادية لها.

وكشفت الأحداث اللاحقة أن حماس لم تشأ أن تعلن عن الإمارة الإسلامية، أو تطبيق الشريعة لاعتبارات سياسية محلية وإقليمية، ورغبة منها بعدم إثارة الأطراف المعادية لها.

وفي مقابلة لـ«خالد مشعل» رئيس المكتب السياسي لحركة حماس مع تلفزيون الأقصى في الـ16 من أغسطس/ آب 2009 قال فيها: لا نسعى لإقامة إمارة إسلامية في غزة، ولن نفرض الشريعة على أحد.

وفي مقابلة أخرى مع تلفزيون بي بي سي؛ قال خالد مشعل: نحن حركة تحرير وطنية لا نهدف إلى أسلمة المجتمع ولن نفرض فكرنا على أحد .

مما جلب عليها في ذات الوقت خصومة تيارات إسلامية «متشددة»، رأت منها تهاونًا فيما أسمته تحقيق «الفريضة» الغائبة، وهو تطبيق الشريعة. الأمر الذي أثار عليها بعض قواعدها التنظيمية، التي تأثرت بالفكر السلفي القاعدي قبل ظهور تنظيم «داعش».


أسباب الخلاف بين حماس والجماعات السلفية

كانت البداية في ظهور جماعة أنصار جند الله في 2009 -ومؤسسها «عبد اللطيف موسى» الملقب بـ«أبي النور المقدسي»- التي حاولت تنفيذ هجوم على موقع إسرائيلي بواسطة شبان يمتطون خيولًا، قُتلوا قبل اقترابهم من السياج الأمني من جراء قصف جيش الاحتلال.

بعدها صعد الشيخ «عبد اللطيف موسى» على منبر مسجد ابن تيمية في غزة، وحوله جماعة من المسلحين الملثمين، ثم فاجأ المصلين بإعلانه الإمارة الإسلامية في أكناف بيت المقدس.، فضج المسجد بالتكبير والتهليل. وكان السبب واضحًا ومباشرًا وهو أن (حكومة حماس لا تطبق شرع الله، وتحتكم للقوانين الشركية).

ومن ثم شعر قادة حماس أن ثمة خطر يهدد نفوذها عسكريًا وأيديولوجيًا؛ فجماعة (موسى) تتحدث بالدين واستطاعت تجنيد شبان مقاتلين لديهم الاستعداد لدخول مواجهات مع الاحتلال.

لم يكد موسى يلقي خطبته الشهيرة حتى أرسل قادة حماس إلى مفتيهم يوسف القرضاوى ليحصلوا على فتوى منه تستحل بمقتضاها سفك دم «أبي النور» وجماعته، وسرعان ما طارت الفتوى من الدوحة لتحط في مكتب «إسماعيل هنية» أن (اقتلوا موسى ومن معه ولا تأخذكم بهم رحمة)!.

بموجب الفتوى حاصرت كتائب القسام مسجد بن تيمية، وأفرغت في جدرانه ونوافذه قذائف (آر بى جي)، وزخات الرشاشات الثقيلة. و استغاث المصلون داخل المسجد عبر مكبرات الصوت طالبين من حماس بالسماح لسيارات الإسعاف بإنقاذ الجرحى دون جدوى.

على إثر ذالك نزح العشرات من جماعة «أبي النور» الى سيناء ومنهم إلى العراق حاملين معهم إرثًا ضخمًا من الكراهية لحماس.


أسباب وثب الجماعات السلفية على حماس

تمكنت حماس طوال سبعة وعشرين عامًا من تاريخها بصورة نسبية من الجمع بين النزعتين الوطنية والدينية والمواءمة بين الخطابين، وأدى التحول الإسلامي الجاري لظهور التيارات الدينية الساعية لتبني خطاب إسلامي يتجاوز خطاب حماس. وذلك بالتركيز على الأبعاد الدينية الجهادية الإسلامية على حساب نظيرتها الوطنية السياسية الفلسطينية. ووفقا لمبررات تقول بأن جوهر الصراع الجاري يعود في القدم بين الإسلام واليهودية.

كانت هناك أربع مجموعات رئيسية يطلق عليها «جماعات سلفية» موجودة في القطاع وهي (التوحيد والجهاد وجيش الإسلام وأنصار بيت المقدس والسلفية الجهادية)، لم تشكل هذه المجموعات السلفية ظاهرة في مواجهة كيان الاحتلال. ولم تكن ظاهرة بمعنى أن وجودها يعني مشكلة كبيرة في قطاع غزة.

فمن بين تلك المجموعات الصغيرة من عمل ضد الاحتلال الصهيوني، كما جرى بمشاركة جيش الإسلام في اختطاف الجندي الإسرائيلي «جلعاد شاليط» في حين أن المجموعات الأخرى منها من تحول للعمل في الداخل الفلسطيني، وتمثل ذلك في عام 2008 – 2009 بتفجير بعض المقاهي والمحلات.

كان ظهور هذه التيارات السلفية سابقا على صعود الاسلام السياسي إلى الحكم، ولكن بدأ التغير النوعي من خلال الدعم السياسي الذي أبدته بعض الحكومات المتوافقة والمسار الجهادي أو بمعنى أشمل المسار الإسلامي، إلى تطور أعمال تلك التنظيمات أو نطاق دعوتهم، وفي قطاع غزة كان جزء من هذه المجموعات السلفية منخرطًا في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

وكانوا جزءًا من الحركات الكبرى في الساحة الفلسطينية كحماس والجهاد الإسلامي ومنهم من عمل ضمن إطار كتائب شهداء الأقصى. لكن بعد مشاركة الحركات الإسلامية بالحكم أي (حماس) ظهرت هذه المجموعات برفضها للديمقراطية والمشاركة في السلطة على اعتبار ذلك عاملا مخلا بالدين والاسلام.

ثم بدأت هذه المجموعات تتكور وتنشئ حالة خاصة بها تريد من خلالها أن تفرض رؤيتها على المجتمع، واستمرت هذه الحالة والتي كان يتم احتوائها والتعامل معها من قبل حركة حماس بغزة. ولم تشكل ظاهرة خطيرة داخل القطاع، لكن الاحتلال كان دائما يحاول أن يستفيد من هذه المجموعات السلفية بالربط بينها وبين الإرهاب العالمي الموجود جزء منه في سيناء وتحاول أن تلصق تهمة الإرهاب العالمي بحركات المقاومة الفلسطينية.


الأسباب الرئيسية المؤدية لنشوء الخلاف بين الفكر السلفي وحماس

  1. مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية وسعيها للانخراط في المنظومة السياسية الفلسطينية، ما اعتبر برأي السلفيين اتباعا لوسائل علمانية مما يتعارض مع الأسس الشرعية والفكرية التي تستند إليها السلفية الجهادية.
  2. التهدئة التي سادت قطاع غزة بشكل شبه متواصل – مع فترات تصعيد متقطعة – منذ وصول حماس إلى السلطة في يناير/كانون الثاني 2006. وهو ما وضعه السلفيون الجهاديون في سياق تخلي حماس عن خيار المقاومة وتكرارها لتجربة حركة فتح وتقاعسها عن واجب الجهاد في مواجهة الممارسات الإسرائيلية وتحديدا الاستيطانية والتهويدية في القدس بشكل خاص والضفة الغربية بشكل عام.
  3. الحصار الذي فرضة الاحتلال ضد غزة وعمدت من خلاله تل الربيع (تل أبيب) إلى التحكم بكل ما يدخل غزة أو يخرج منها. وسعت إلى إدخال الحد الأدنى من المواد الغذائية والوقود . بما يحول دون انفجار الوضع أمنيا واقتصاديا واجتماعيا وفي نفس الوقت يمنع غزة من ممارسة حياتها بشكل طبيعي في الأبعاد والمناحي المختلفة ما خلق حالة من الفقر والبطالة، بدت مثالية تماما لنمو وانتشار الأفكار السلفية الجهادية.
  4. صعود تنظيم القاعدة في السنوات العشر الماضية وانتشار أفكارها ولو بشكل متفاوت في العالم العربي، وميل شريحة – ولو محدودة – من الشباب لأسلوب القاعدة بوصفه النموذج المناسب لمواجهة الهيمنة الأميركية والغربية واستطرادا الإسرائيلية على المنطقة.

مدى ارتباط سلفيي القطاع بالتيارات الخارجية

هناك أربع مجموعات رئيسية يطلق عليها جماعات سلفية موجودة في قطاع غزة وهي (التوحيد والجهاد وجيش الإسلام وأنصار بيت المقدس والسلفية الجهادية)

إن هذه التيارات لا يوجد دليل على ارتباطها بأي قوى سلفية بالخارج كالقاعدة، لكن تحاكي من خلال أسلوب عملها فكر القاعدة، لكن الاحتلال عمل على تغذية ذلك المشهد لوضعه في إطار التبرير لأي عمل عسكري أو عدوان على قطاع غزة، والتسويق للعالم بأن حركات المقاومة الفلسطينية مرتبطة بالإرهاب العالمي.

بعد هذه الفترة قيل أن تلك التيارات عملت بشكل شبه موحد في قطاع غزة، ونظرا لتضيق الخناق عليها من قبل حكومة غزة، التي تديرها حماس، وملاحقتها بسبب أعمال العنف التي قامت بها، وبسبب أن الصراع أصبح على أشده في مسار السيطرة الفكرية، حيث وصل حد الملاحقة إلى اعتقال حماس من يثبت تورطة في أي من أعمال الجماعات.

الخلاف بين حماس والمجموعات السلفية الموالية لداعش حول إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة وتنفيذ الحدود في الأراضي الفلسطينية هو صراع فكري

انطلقت هذه المجموعات باتجاه سيناء. وعملت تحت مسميات مختلفة، ووجدت في سيناء بيئة ملائمة لها، والتقت مع مجموعات مصرية وجهادية عديدة وبدأت تعمل تحت مسمى «أنصار بيت المقدس».

حتى الآن لا تعتبر تلك الحركات والتجمعات السلفية بديلًا عن الأحزاب والحركات الإسلامية مثل حماس والجهاد الإسلامي. ولا تعتبر هذه الجماعات نفسها جزءًا من النظام السياسي الفلسطيني، بل جزءًا من منظومة دينية أكبر تشمل العالم الإسلامي وتتباهى بالعلاقة مع الجهاد العالمي والقاعدة.

والحركة السلفية في الأراضي الفلسطينية تنكر كونها أحزابا أو قوى سياسية أو مجتمعية، مؤكدة أنها تمثل منهجا من التزم به فهو سلفي أكان معهم في تجمعاتهم أو لم يكن.

إن الخلاف القائم بين حركة حماس والمجموعات السلفية الموالية لتنظيم الدولة حول إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة وتنفيذ الحدود في الأراضي الفلسطينية هو صراع فكري تمتد أطيافه في أعماق السياسة الملونة بالمصالح، حيث أن إقامة هذه الدولة باتت تحتل حيزًا هامًا من تفكير أبناء الجماعات الإسلامية الفلسطينية، رغم أنها لا تعدو كونها في كثير من الأحيان أحلامًا رومانسية وأماني عاطفية لا تستند لوقائع حقيقية تدعم هذا التوجه، وتمنحه أسباب البقاء والدوام.

يحمل المستقبل تغير تدريجيًا في أساسيات المنطقة عسكريًا وسياسيًا، ونرى ذلك جليًا من خلال التلقف الإيراني الأمريكي التركي الذي ما زال في طور الأعداد، الذي، وبالطبيعة سيئوثر على القوى المسماة الأسلامية التي جعلت ذالك الزمن مكانآ لها لفرض رؤيتها و سيطرتها.

فسيطرة الجماعات الإسلامية على دول الثورات العربية عكست من الفشل وعدم التقبل لها ما يؤهلها للفناء أو انتهاء صلاحيتها السياسية، فضرب الجماعات الإسلامية نظائرها يعكس التسابق السياسي في مجال السيطرة بعيدا عن الإيمان المعتقدي.