اخترق صاروخ باليستي عرضًا عسكريًا في معسكر الجلاء بالبريقة في مدينة عدن، مخلفًا عشرات القتلى، منهم منير اليافعي الملقب بأبو اليمامة، قائد أكبر ألوية الحزام الأمني التابع للمجلس الانتقالي الجنوبي، والمتهم بإدارة سجون سرية، وارتكاب العديد من الاغتيالات السياسة ضد حزب الإصلاح والسلفيين بعدن.

 لتبدأ بعد مقتله سلسلة من الأحداث مطلع شهر أغسطس/ آب 2019، وتبلغ ذروتها يوم 10 أغسطس/ آب بسقوط مدينة عدن في أيدي قوات الحزام الأمني. مثلت هذه التحركات الإعلان المدوي بقرب انفصال الجنوب، والانقلاب على «الشرعية» الدولية لحكومة عبدربه منصور هادي، المدعومة سعوديًا، ومؤكدةً صدق نبوءة علي عبدالله صالح بانفصال الجنوب من بعده.

تتفجر في الأذهان العديد من الأسئلة، ما حكاية الوحدة بين شطري اليمن، وما ملامحها، ولماذا سقطت بعد رحيل صالح، وما الخطوات التي اتخذتها الإمارات لتحقيق هدف انفصال الجنوب، وماذا بعد سيطرة الانتقالي على عدن؟

هذا ما نحاول الإجابة عليه في هذا التقرير.

محافظات اليمن

معضلة الجنوب

لفهم المشهد الحالي يجب استعراض أحداث الحرب الأهلية في الجنوب يناير/ كانون الثاني 1986، تلك الحرب المفصلية التي ستعيد تشكيل المشهد اليمني بأكمله من جديد.

منذ استقلال الجنوب اليمني عن بريطانيا، تتنازع السلطة فيه الجبهة القومية، وجبهة التحرير. الأولى، كانت تنتهج المواجهة السياسية للاحتلال، وتدعمها قبائل ومناطق الضالع ولحج ويافع، والثانية، تدعم المواجهة العسكرية للاحتلال، وتدعمها قبائل ومناطق أبين وشبوة والبيضا،  وكلاهما انخرطا في الثورة على بريطانيا بدعم مباشر من الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، لكن تعمدت بريطانيا تسليم الجنوب للجبهة القومية.

بعد الاستقلال تولى السلطة قحطان الشعبي، وهو رئيس اشتراكي معتدل. حدث عليه انقلاب من قبل سالم علي «سالمين»، الجناح الراديكالي في الجبهة القومية، وكان ينتهج الفكر الماوي[1]. اغتيل في عام 1978، من قبل التيار اللينيني[2] في الجبهة، بقيادة عبدالفتاح إسماعيل، الذي أنشأ بعد ذلك الحزب الاشتراكي وجمع الجبهتين بداخله.

نُفي إسماعيل إلى الاتحاد السوفيتي بانقلاب ناعم داخل الحزب، قاده علي ناصر الذي يميل للفكر الماوي، ودعمته بقوة جبهة التحرير على الرغم من انتمائه للجبهة القومية. من هذا التيار الانقلابي كان عبدربه منصور هادي الذي تخرج في أكاديمية ساندهريست العسكرية ببريطانيا قبل الاستقلال.

الرئيس الجنوبي علي ناصر 1980-1986
Mittelstädt, Rainer / CC BY 2.0

مع عودة عبدالفتاح إسماعيل من المنفى، حُجمت صلاحيات علي ناصر، استعدادًا لخلعه. فقام الأخير باغتيال عبدالفتاح إسماعيل في اجتماع اللجنة التنفيذية للحزب حارسه الشخصي، وقُتل معه عدد من القيادات على رأسهم علي عنتر المتحالف مع إسماعيل والمرشح لخلافة علي ناصر. بدأت الأحداث بقتل غالبية قيادات الحزب الاشتراكي في الاثنين الأسود 13 يناير/ كانون الأول 1986.

قُطعت بعدها الاتصال بين عدن ولحج والضالع الداعمة لعلي عنتر وعبدالفتاح إسماعيل، ودخلت قوات من أبين إلى عدن لدعم علي ناصر من طريق خورمكسر. ارتكبت القوات الأبينية جرائم بحق مواطني الضالع ويافع بلحج، وكان القتل على واقع المنطقة الذي ينتمي لها الشخص، وبدورهم أبناء المناطق الأخرى قاموا بقتل أهل أبين.

عبد الفتاح اسماعيل – رئيس اليمن الجنوبي 1978-1980

انتهت الحرب الأهلية بعد شهر بانتصار علي سالم البيض، من بقايا تيار عبدالفتاح إسماعيل، وخسارة علي ناصر وعبدربه منصور هادي وجماعتهم الحرب، وانسحاب أكثر من 50 ألف من أتباعهم إلى الشمال، لاجئون إلى نظام صالح. قُتل أكثر من 10 آلاف شخص من الطرفين، مناطقيًا انتصرت الضالع ويافع على حساب أبين وشبوة.

يعتبر ذلك التاريخ نقطة انهيار نظام الدولة في الجنوب، ومع تراجع الدعم الروسي لها، أجرى الحزب بعض الانفتاح داخل الدولة، وخفف من قبضته العنيفة على المجتمع، مؤذنًا بنهاية حكم الجنوب الذي هدد دولًا مثل عُمان والسعودية، وحارب الشمال حتى كاد يُخضعه في أحايين كثيرة.

فيديو يظهر خطاب علي عبدالله صالح بعد أحداث يناير 1986 بدولة الجنوب

صيف 94 الساخن

بسبب الأوضاع التي مرت بها دولة الجنوب، دُفعت إلى الوحدة اليمنية، التي تكللت بالنجاح في 22 مايو/ آيار 1990، ونجح التحالف في إبرام أول انتخابات نزيهة في اليمن وربما في العالم العربي سنة 1993، حيث بلغت نسبة التصويت 84%. يشير نزيه الأيوبي إلى أن تلك الانتخابات جرت فيما يعرف بديموقراطية المواثيق، أي بمحاصصة المقاعد لكل تيار بالاتفاق.

حل التجمع اليمني للإصلاح ثانيًا بعد المؤتمر الشعبي الحاكم، سبق ذلك حالة احتقان شديدة في الشارع، تزعمها حزب الإصلاح، كادت لتعصف بالحكومة في صنعاء، وذلك في خطوة استباقية من الحزب لعدم التضحية به في مقابل الحفاظ على الوحدة مع الجنوب، باعتباره عدوًا آخر يمكن توحيد الدولة كلها ضده.

أما الحزب الاشتراكي الجنوبي حل ثالثًا في الانتخابات، وفي نفس العام بسبب محاولات الحزب استهداف قيادات في المؤتمر، رد علي صالح بإقالة عدد ضخم من الضباط الجنوبيين، وكان النصيب الأكبر من مناطق الضالع ولحج وعدن، في حين جرى تعيين قيادات من أبين وشبوة.

الرئيس اليمني «عبد ربه منصور هادي»

في ذلك الحين أيد علي صالح العراق في غزوها للكويت، فطُرد العديد من اليمنيين من الخليج دون أموالهم، أثر ذلك على مناطق الجنوب، حيث كانت الحوالات من الخارج أول مصدر للدخل القومي في البلاد. كل تلك التحولات مع ارتفاع وتيرة الاغتيالات في صفوف زعماء الحزب الاشتراكي، دفعت باعتزل علي سالم البيض نائب علي صالح ورئيس دولة الجنوب في عدن، الذي أعلن استقلال الجنوب فيما بعد.

انتهت الحكاية بحرب صيف 1994، والتي تحالف فيها بقايا تيار علي ناصر الفار إلى الشمال، ليرد الاعتبار لمناطقه ويأخذ بالثأر من تيار عبدالفتاح إسماعيل، فاجتاح الجنوب من جهة الشرق. كان على رأسهم عبدربه منصور هادي الذي قاد جيش اجتياح الجنوب، كافأه علي صالح بتوليته وزارة الدفاع ثم نائبًا له بعدها بشهور قليلة.

أما الإصلاح والسلفيون فأعلنوا الحرب ضد الملاحدة في الجنوب من الغرب، دعمت أغلب دول الخليج الجنوب نكاية في صالح الذي دعم العراق، إلا قطر دعمت الشمال حتى آخر لحظة. وفي الأخير انتصر الاجتياح ونُقلت كل الإمكانات العسكرية إلى الشمال.

انتهت الوحدة وحل محلها الغزو، الهزيمة في مقابل الانتصار، ثنائية الغالب والمغلوب، مع محاولات صالح إحداث توازنات بتعيينات محدودة لأهل أبين وشبوة في صنعاء، وإقصاء للمكونات المناطقية في عدن ولحج والضالع قدر المستطاع. كذلك أعمل آلة الاغتيال فيهم، والضغط على من تفلت منهم للفرار، كما حدث مع عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الحالي، والذي فر حينها إلى جيبوتي.

الإمارات تعقد خيوط المشهد

أدركت الإمارات العربية المتحدة أن مجلس الحراك الجنوبي، الذي تشكل في 2007 لا يملك القدرة على تحقيق هدف الانفصال، وأن الحدث الذي أعطى الحراك زخمًا في 2009، هو تأييد الانفصال من أطراف سلفية مدخلية وأخرى جهادية. كانت السلفية دخيلة على أهل الجنوب بعد عام 1994، عبر تيار مقبل بن هادي الوادعي، إلا أن السلفية المدخلية في اليمن عمومًا تحمل السلاح، وتخرج على الإمام وتتبنى الأفكار الجهوية والإثنية، وتحمل الحقد والثارات لمن عاداهم.

لذا تحالفت الإمارات مع المداخلة، مراعيةً في ذلك دعم التيارات على حسب المناطق، فغالبية المجلس الانتقالي برئاسة الزبيدي ينتمون لمحافظات لحج والضالع وعدن، وكلها تحمل الثأر لأبين وأهلها، وهم من ينتمي إليهم عبدربه منصور هادي.

كيف سقطت آخر قلاع الشرعية؟

استهدف صاروخ باليستي العرض العسكري في معسكر الجلاء 1 أغسطس/ آب 2019. قُتل منير اليافعي أبواليمامة بفعل الصاروخ الذي أطلقه الحوثي. كان أبو اليمامة هذا سيئ السمعة، وقد أحاله هادي إلى التحقيق، لأنه يدير سجونًا ومعتقلات، مع هاني بن بريك السلفي المدخلي نائب رئيس المجلس الانتقالي، لتورطهما في العديد من حوادث الاغتيال.

معلومات عن عملية إغتيال أبو اليمامة

عصف الصاروخ بالشرعية وبحكومة هادي، حيث جرت لمدة 5 أيام عمليات ترحيل لمواطني الشمال، ثم دارت الاشتباكات في دار سعد والبريقة وخور مكسر في مدينة عدن، لتنتهي يوم 10 أغسطس/ آب بانسحاب القوات التابعة للسعودية من معسكر بدر، ثم تسليم قصر المعاشيق الرئاسي.

بلا شك أن السعودية متورطة في ذلك، حتى أن إعلانها قصف المجلس الانتقالي كان مجرد نقطة لحفظ ماء الوجه دوليًا. ربما تأتي تحركات المجلس الوطني بشكل متقطع، وإنما غايتها أن يُعترف بها كشريك رئيس على ساحة المفاوضات.

ماذا يخبئ المستقبل للجنوب؟

تبع السيطرة على عدن، نزوح آلاف الأسر باتجاه طريق أبين خورمكسر، يدرك أهل أبين أن هذه التحركات تستهدف الصراع المناطقي القديم، فبعد انتصار الضالع ولحج عليهم في 1986، ردوا في 1994 الصاع صاعين، والآن تدور عليهم الدوائر.

وبعدها بسويعات رفض مجلس الحراك الجنوبي تلك التحركات، لأنها تعتمد على الإسلاميين الذي يعادوهم، وكذلك الحزب الاشتراكي الجنوبي، خصوصًا تعرضهم هذا العام لعدة اغتيالات من قبل الحزام الأمني.

أما النخبة الشبوانية والأبينية التابعة للإمارات فتلتزم الصمت، ولم تشارك في عمليات الحزام الأمني في عدن التابع هو الآخر للإمارات، وهي تترقب بشكل حذر تلك التحركات، لأن استدعاء المشكلة المناطقية قد تفجر الوضع.

كذلك تنظيم القاعدة، الذي يميل إلى الانفصال من المرجح أن يرفض الانفصال الحالي ويقاوم التيارات التي تتزعمه بسبب الموقف المناطقي من جهة، ومن جهة أخرى بسبب تبعيتها للإمارات، في حين أن التنظيم ذاته قد تعاون مع كتائب أبو العباس أتباع الإمارات في مدينة تعز، وسلم حضرموت في مفاوضات سرية للإمارات ذاتها تحت وطأة الضغط العسكري.

ما يقبل عليه الجنوب هو حرب أهلية، هي الأشرس في اليمن منذ سنوات طويلة. استدعاء الصراع المناطقي، وتداخل مكونات عديدة، كان الجنوب في صراعاته دمويًا أكثر من الشمال. تشبة اللحظات الحالية الهدوء الذي يسبق الكارثة،الكل متحفظ على أمل أن تكون تحركات المجلس الوطني مؤقتة.

لسان حال الجميع نحن نريد الانفصال لكن ليس هكذا. في تلك اللحظات شن الحوثي هجومًا عنيفًا على يافع بمحافظة لحج، على أمل أن تُستغل هذه الأحداث لصالحه، لكنه فشل. بنهاية المطاف سيتصارع الجنوب ليظل الحوثي سيدًا على صنعاء من دون أي تهديدٍ له.

المراجع
  1. [1] نسبة لأفكار ماو تسي تونغ، في دمج المكونات الأولية للمجتمع (القبائل والعشائرية والقرى) داخل الدولة.
  2. [2] قائم على التطبيق الحاد لأفكار الماركسية العلمية، وتدمير الشبكات الأولية للمجتمع.