تأتي الأحداث والتطورات المتعاقبة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات القليلة الماضية، ومحاولات بعض القوى الإقليمية تنفيذ مشروعاتها الإقليمية في إطار إعادة ترسيم الخريطة الإقليمية في المنطقة، والتي تتصادم أهدافها، لتلقي بظلالها على منطقة شرق أفريقيا التي تشهد هي الأخرى إعادة هندسة إقليمية كونها ميدانًا للتنافس الإقليمي والدولي بين العديد من القوى الإقليمية والدولية.

فقد أضحت منطقة شرق أفريقيا وفي القلب منها القرن الأفريقي ساحة كبيرة للتنافس الإقليمي بين القوى الإقليمية في المنطقة، كما أنها بيئة خصبة لنشر الأفكار والأيديولوجيات لعدة عوامل داخلية تجعل من السهل نشرها بين الأفارقة، فهي ساحة جاذبة للقوى الإقليمية لا سيما المملكة السعودية وتركيا وإيران.

ويأتي هذا في إطار التكالب الدولي نحو منطقة شرق أفريقيا، لا سيما القرن الأفريقي، من أجل استغلال الثروات الطبيعية وتعزيز النفوذ والسيطرة على المنطقة لما لها من أهمية جيوبوليتيكية كبيرة كونها تطل على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، والذي يعتبر أحد أهم الممرات المائية في العالم كونه المعبر لأكثر من 70% من نفط الخليج الذي يتم تصديره إلى قارة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى أنه يتحكم في التجارة العالمية، علاوة على أنه ممر مهم لأية تحركات عسكرية قادمة من أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج العربي.

وعليه، تتناول السطور القادمة طبيعة ودوافع التنافس السعودي الإيراني التركي في منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، وتداعيات ذلك على الاستقرار في المنطقة.


السعودية وإيران وجهًا لوجه في شرق أفريقيا

صورة أرشيفية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز

يأتي التوجه السعودي والإيراني في منطقة شرق أفريقيا في سياق عدد من المتغيرات الإقليمية والدولية التي طرأت على المنطقة، وفي سياق التحول في أهداف السياسة الخارجية للبلدين خلال الفترة الأخيرة؛ الأمر الذي دعا الطرفين إلى إيجاد موطئ قدم في المنطقة للحيلولة دون سيطرة الآخر وتمديد نفوذه في شرق أفريقيا.

ولما كانت منطقة القرن الأفريقي هي محط أنظار الدولتين وساحة جديدة أمامهما من أجل بسط النفوذ والسيطرة، كما أنها ساحة تنافس قد يصل في بعض الأحيان إلى صراع بين الأيديولوجيتين التي تتبناهما الدولتان في منطقة الشرق الأوسط، ثم انتقلت إلى أنحاء أفريقيا، هنا يمكن الإشارة إلى دوافع كلا البلدين للتواجد في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، والتي تعتبر في ذات الوقت أسباب الصراع والتنافس بين البلدين في شرق أفريقيا.

الانفتاح على ساحات إقليمية جديدة

أبدت إيران اهتمامًا كبيرًا بمنطقة شرق أفريقيا، لا سيما القرن الأفريقي، خلال الفترة الأخيرة؛ من أجل المزيد من الانفتاح على دوائر إقليمية لكسب المزيد من التأييد الإقليمي والدولي لمواقفها الأخيرة، خاصة في ظل العزلة الدولية التي فُرضت عليها قبل توقيع الاتفاق النووي مع الغرب في 2015.

في الوقت الذي طرأت فيه عدة تحولات إستراتيجية جوهرية في السياسة الخارجية السعودية تجاه منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي عقب صعود الملك سلمان إلى السلطة، حيث أدركت السعودية أهمية المنطقة الجيوستراتيجية لاعتبارات عدة، خاصة في ظل قيادتها للتحالف ضد جماعة الحوثي على الجانب الآخر من البحر الأحمر، ومن ثَم سعت لإيجاد موطئ قدم جديد لها في المنطقة، لملء الفراغ الذي خلفه التراجع العربي عن هذه المنطقة بالغة الأهمية للأمن القومي العربي.

كما نجحت السعودية في التأثير على التواجد الإيراني في المنطقة من خلال ترسيخ وجودها بمشروعات استثمارية ومساعدات اقتصادية وزيارات متبادلة؛ الأمر الذي دفع بعض دول المنطقة مثل السودان إلى المشاركة في عاصفة الحزم ضد الحوثيين في اليمن، وتقديم التسهيلات اللوجيستية والعسكرية، بالإضافة إلى قرارها بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية في السودان، وقطع علاقاتها الدبلوماسية بإيران إلى جانب جيبوتي والصومال، بعد الاعتداء على السفارة السعودية في طهران.

كما لعبت الأزمة الأخيرة بين الرياض وطهران دورًا في تدهور العلاقات الإيرانية مع بعض دول شرق أفريقيا، لا سيما السودان والصومال وجيبوتي، بالرغم من تحالفها عسكريًا في مراحل معينة مع بعضها مثل السودان. واستطاعت السعودية أن تجذب هذه الدول للانضمام إلى المعسكر السعودي، حيث أعلنت دولة السودان اشتراك جزء من قواتها ضمن التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن ضد جماعة الحوثي. وفي الصومال، تم اعتقال عدد من الإيرانيين بعد توجيه التهم إليهم بمحاولة نشر المذهب الشيعي في البلاد، وهو ما يعد تحذيرًا لإيران، قبل أن تقوم الصومال بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران على خلفية الاعتداء الإيراني على القنصلية السعودية في طهران.

سباق الأيديولوجيا

تسعى الدولتان إلى نشر المذهب الذي تنتمي إليه، حيث تسعى إيران في سياستها في أفريقيا عمومًا وشرق أفريقيا على وجه الخصوص، إلى نشر المذهب الشيعي تمهيدًا لتصدير الثورة الإسلامية، وذلك من خلال المؤسسات الإيرانية والمراكز الثقافية الإيرانية التي تنشر المذهب الشيعي، وهو ما شهدته دولة السودان قبل قرار إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية للاشتباه في تورطها في التبشير بالمذهب الشيعي في البلاد.

بينما على الجانب الآخر، تسعى المملكة العربية السعودية باعتبارها زعيم العالم السني، حيث تُركز اهتمامها في المنطقة على الجوانب الدعوية والتربوية في مجتمعات شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، وأنفقت مليارات الدولارات في سبيل الترويج لأنشطتها ذات التوجه الديني والدعوي للنهج السلفي السني، خاصة في ظل وجود عدد من الدول الإسلامية في المنطقة مثل الصومال وجيبوتي والسودان وجزر القمر، الأمر الذي من شأنه الوقوف ضد المشروع الشيعي الإيراني في المنطقة.

تأمين مضيق باب المندب

يفتح التواجد الإيراني في مضيق باب المندب المجال أمام إيران للسيطرة على اثنين من أهم المضايق في العالم، وهما مضيقا باب المندب وهرمز، كما يفسح لها المجال أمام التواجد الفعال في مياه البحر الأحمر، ومن ثم تطويق الأمن القومي العربي – وتحديدًا الخليجي – في المنطقة.

تسعى إيران إلى التموضع في مكانة إقليمية تتواءم مع إمكانياتها وفقًا لإدراكها الإستراتيجي، خاصة في ظل التحولات الإستراتيجية على الصعيدين الدولي والإقليمي، بما يجعلها تلعب على التناقضات في بسط نفوذها على مناطق عدة لا سيما منطقة القرن الأفريقي، بشكل جعلها تزاحم القوى الدولية والإقليمية على حد سواء. فالتواجد الإيراني في هذه المنطقة يسمح لها بالتواصل مع أتباعها الحوثيين في اليمن، كما يسهل إمداد هذه الجماعات بالأسلحة الإيرانية وفي بعض الأحيان بالأفراد المسلحين.

وفي نفس السياق، تمثل منطقة باب المندب أهمية إستراتيجية للسعودية، وازدادت أهميتها عقب الحملة العسكرية السعودية ضد الحوثيين في اليمن، كما تمثل المنطقة امتدادًا إستراتيجيًا للأمن القومي الخليجي، إذ يلعب القرب الجغرافي دورًا في تزايد الأهمية الجيوستراتيجية للمنطقة.

تعظيم المكاسب الاقتصادية

تهدف إيران إلى تدعيم العلاقات الاقتصادية والتجارية مع دول منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي. ومن ثم، قامت بإبرام العديد من الاتفاقيات التجارية والصناعية، وإطلاق عدد من المشروعات الاستثمارية في المنطقة لا سيما في كينيا وإريتريا وأوغندا وغيرها.

بينما تسعى السعودية إلى فتح سوق جديدة لها في منطقة شرق أفريقيا، وإقامة علاقات اقتصادية ومشروعات استثمارية ضخمة مع دول شرق أفريقيا والقرن الأفريقي مثل إثيوبيا والسودان وجيبوتي والصومال، لتقدم نفسها كأحد أهم الشركاء الاستثماريين لدول المنطقة.

وتجدر الإشارة إلى أن سياسة البترودولار السعودية تلعب دورًا مهما في استقطاب عدد من دول المنطقة إلى جانبها في معركة النفوذ السعودي الإيراني في منطقة شرق أفريقيا، ومن ثم، قامت السعودية بتقديم التمويل والمساعدات الاقتصادية والاستثمارات لدول المنطقة لفرض تبعيتها للسعودية أو على الأقل تحييدها، وهو ما نجحت فيه السعودية بالنسبة للسودان، التي قامت بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران على خلفية الاعتداء على القنصلية السعودية في إيران، عندما انهالت المساعدات والاستثمارات السعودية على السودان. فهي تقوم باستثمار أكثر من 15 مليار دولار في السودان، كما وجه الملك سلمان الدعوة للبشير لزيارة السودان. ونفس الشيء بالنسبة لدول المنطقة الأخرى مثل جيبوتي والصومال. إلا أن فعالية السياسة السعودية تجاه دول المنطقة على المدى البعيد ستثبت فشلها كون هذه التحالفات قائمة على علاقات تجارية فقط.

التواجد العسكري الفعال

تتنافس الدولتان على التواجد العسكري في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي من أجل ترسيخ النفوذ في المنطقة. ففي الوقت الذي أشارت فيه بعض التقديرات إلى سعي إيران لإنشاء قاعدة عسكرية في ميناء عصب الإريتري، وتأكيد بعض التقارير الغربية على وجودها بالفعل، إلا أن السلطات الإريترية نفت أن يكون هناك أية قواعد عسكرية إيرانية على أرضها.

فالتواجد الإيراني في منطقة القرن الأفريقي يكسبها العديد من المميزات والنقاط الإستراتيجية، مثل القرب الجغرافي للقرن الأفريقي من مربع عمليات الشرق الأوسط ومضيق باب المندب الذي يمثل المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وقربه من دولة اليمن التي تمثل الحديقة الخلفية لدول الخليج العربي لا سيما المملكة السعودية، وقيام إيران بتدريب المسلحين في معسكرات التدريب في إريتريا من قبل الحرس الثوري الإيراني وفقًا لتقارير غربية في منطقة ساوي ومنطقة الساحل الشمالي القريبة من منطقة إبريطي الإريترية، علاوة على تهريب السلاح الإيراني للحوثيين عبر ميناء عصب وصولاً إلى صعدة اليمنية معقل ميليشيات الحوثي، يكسبها أرضًا جديدة لتنامي نفوذها.

أما على الجانب الآخر، فهناك ترحيب جيبوتي بالتواجد السعودي على الأراضي الجيبوتية، وهو ما أفضى إلى زيارات عسكرية سعودية لجيبوتي تشير إلى إمكانية وجود قاعدة عسكرية سعودية في منطقة القرن الأفريقي.


تركيا في شرق أفريقيا «ثالث الأضلاع»

الملك سلمان
علم الجمهورية التركية

يتعاظم الدور التركي في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي خلال السنوات الأخيرة، حيث تسعى تركيا إلى التوسع الإقليمي من خلال قارة أفريقيا، لا سيما منطقة شرق أفريقيا التي تتميز بالقرب الجغرافي من تركيا، ويأتي ذلك ضمن أهداف تركيا الرامية من خلال توسعاتها في القارة الأفريقية نحو إحياء العثمانية الجديدة، خاصة في ظل إخفاقاتها على الجانب الأوروبي، بعد فشلها في الانضمام للاتحاد الأوروبي، فضلًا عن استمرار اختلال التوازن في المعادلة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، ما دفعها إلى التوسع نحو منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي.

وتتعدد الأدوات التركية من أجل بسط نفوذها وسيطرتها في الشرق الأفريقي من خلال التعاون السياسي والدبلوماسي والذي يتضمن تبادل الزيارات الرسمية، والتعاون الاقتصادي وتوسيع التبادل التجاري والاستثماري، بالإضافة إلى التعاون العسكري بين الطرفين، والمساعدات الإنسانية التي تقدمها تركيا لبعض دول المنطقة مثل الصومال وجيبوتي.

اقرأ أيضًا:تيكا: يد تركيا الناعمة

ويرتكز السعي التركي نحو التواجد في منطقة القرن الأفريقي على أربع قوى بالمنطقة، وتتمثل تلك الدول في الصومال التي تعتبر كمدخل أساسي لتركيا إلى القرن الأفريقي، تستطيع أن تعتمد عليها كمرتكز عسكري وإنساني، باعتبارها موطئ قدم مهم لتركيا في المنطقة.

وتأتي إثيوبيا كقوة سياسية واقتصادية لها ثقلها في منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، حيث تنال إثيوبيا الحصة الأضخم من الاستثمارات التركية في شرق أفريقيا ( 2.5 مليار دولار من أصل 6 مليارات ). وتعتبر جيبوتي بوابة عبور بحري وقاعدة تجارية مهمة لتركيا في المنطقة والتي من خلالها يمكن السيطرة واستخدام موانئ التصدير لزيادة الاستثمارات التركية في المنطقة. كما تعد كينيا مرتكزًا استثماريًا مهمًا لتركيا يمكن الاستناد عليها.

ولا تواجه التحركات التركية في المنطقة صعوبات أو تحديات كبيرة تجعلها تدخل في منافسة مع أية قوة إقليمية، ففي ظل التراجع الغربي بالمنطقة تقدم تركيا نفسها كقوة تستطيع موازنة ومواجهة الصعود الصيني في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، كما أنها في ظل التقارب بينها وبين السعودية تحظى تحركاتها بقبول سعودي في المنطقة، في الوقت الذي يتصاعد فيه التنافس السعودي الإيراني، ما يفسح المجال أمام التحركات التركية دون أية معاناة بحيث لا تواجه تركيا أية معضلات تثنيها عن تقدمها في منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، وتزايد وتنامي نفوذها.

ويبدو أنه بالرغم من التراجع العربي بشكل عام خلال العقود الماضية عن أداء الدور المتعلق بتوطيد التواجد في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، والذي بدوره أعطى الفرصة للقوى الأخرى ومنها إيران لملء الفراغ الذي خلفته الدول العربية، فضلًا عن الخلافات العربية العربية، وغياب رؤية إستراتيجية عربية موحدة فيما يتعلق بقضايا الأمة وأمنها القومي، إلا أنه في الآونة الأخيرة يُلاحظ اهتمام من جانب بعض الدول العربية الخليجية لا سيما السعودية بهذه المنطقة انطلاقًا من أهميتها الجيوستراتيجية للأمن القومي السعودي، ولمواجهة المد الشيعي الإيراني، وإن كانت إيران تلعب على المتناقضات وتستغل الخلافات بين الطرق الصوفية في أفريقيا، والمد الثقافي السعودي ذي الخلفية السلفية، فإيران لم تعادِ التصوف الأفريقي بعكس ما تفعله المملكة السعودية، الأمر الذي فتح لها المجال للتوغل في المنطقة.

وتعتبر تركيا أكبر المستفيدين من تلك المواجهة السعودية الإيرانية في المنطقة، كونها تمضي قدمًا في تحقيق أهدافها الإستراتيجية في المنطقة، وتنامي استثماراتها بشكل كبير وتواجدها السياسي والاقتصادي والعسكري – من خلال القاعدة العسكرية الجديدة في الصومال – ما يعطي انطباعًا عامًا بأن منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي ستظل محط أنظار وساحة كبيرة للتنافس الإقليمي والدولي على مواردها وبسط النفوذ والسيطرة بها، الأمر الذي يهدد الأمن القومي العربي عامة، ما يستدعي ضرورة التحرك من أجل ملء الفراغ العربي الذي استمر لعقود ماضية.