في العقد الرابع من القرن الثالث عشر الميلادي اجتاح المغول مناطق عدة في آسيا الوسطى، ونتيجة لهذا الزحف هرب شيوخ الصوفية من بلادهم، وشرعوا في تأسيس طرائق جديدة في شرق ووسط الأناضول، واختلطت خلال هذا المشهد أفكار هذه الطرق بثقافات ومشارب ومذاهب وأديان أهل المنطقة وكذلك القبائل الوافدة من خراسان، وكانت «البكتاشية» أبرز من تجسد فيها هذا الانصهار.

يذكر ممدوح غالب أحمد بري في كتابه «تاريخ التصوف في الدولة العثمانية: الطريقة البكتاشية نموذجاً»، أن بيئة الأناضول في هذه الفترة كانت متحررة، تقبل الأفكار الجديدة مثل وحدة الوجود وأقوال المتأثرين بها من الصوفية كشهاب الدين السهروري ومحيي الدين ابن عربي وصدر الدين القوني، فضلاً عن تلقيها فلسفات أخرى كالأفلاطونية الحديثة، وابتعدت في نفس الوقت عن التعصب الديني رغم احتفاظها بالمذهب السني الحنفي في المدن الخاضعة لنفوذ آل عثمان، وكل هذه العوامل ساعدت على ظهور المدارس والتكايا والطرق الصوفية، سواء السنية أو الشيعية، والتي استوعبت هذا التنوع العرقي والمذهبي والفلسفي ووضعته في قالب إسلامي متعايش.

وبحسب «بري»، كانت البكتاشية خليطًا من العقائد المختلفة والفلسفات المتباينة، وأسهمت في ذلك الأوضاع السياسية والاجتماعية، إذ ضم المجتمع العثماني أصحاب الديانات المختلفة والأعراق المتباينة، لذا عُدت البكتاشية طريقة تركية خالصة ذابت في بوتقتها كل الديانات السماوية وغير السماوية وفلسفات آسيا المختلفة.

نشأة الطريقة

بدأت قصة الطريقة البكتاشية مع مؤسسها محمد بن إبراهيم بن موسى الخراساني، والمعروف بـ«خنكار حاج بكتاش ولي»، والذي وُلد عام في خراسان، واختلف حول سنة مولده، فهناك من يقول إنها كانت عام 1248، وإنه عاش 92 سنة، وهناك من يذكر أنها كانت عام 1209 ومدة حياته 63 عاماً. لكن الشائع بين رجال الطريقة أنه ولد في التاريخ الأول.

ويروي بليدار حجي في كتابه «الطريقة الصوفية البكتاشية في ألبانيا. عرض ونقد»، أن بكتاش تتلمذ على يد شيخ تركستاني اسمه لقمان برنده، أو لقمان خليفة، والذي كان خليفة لأحمد يسوي أحد أعلام التصوف في منطقة آسيا الوسطى منذ القرن الخامس الهجري والنصف الثاني من القرن الحادي عشر، ومؤسس الطريقة اليسوية.

ويقال إن لقمان برنده بعدما رأى لدى بكتاش كثيرًا من الكرامات– بحسب زعمه – ذهب به إلى خليفته أحمد يسوي الذي اختبره، وبعدما تحقق من كراماته عيَّنه قطب الأقطاب (مرتبة صوفية)، وقال له «يا حاجي بكتاش، لقد أخذت نصيبك من العلم، أبشر بأنك ستكون قطب الأقطاب، وسيؤول إليك الأمر من بعدنا».

وبعدما سلّم يسوي لبكتاش الإجازة (أي الأمانة أو العلامة التي ورثها عن مشايخه يدًا بيد، وهي تاج وخرقة وراية وسجادة وسراج توضع فيه الشموع) دعا له طويلاً، وجاء جميع خلفاء يسوي ووقفوا أمام بكتاش باحترام وتقدير، وفي نهاية الأمر قال له يسوي «ستذهب إلى بلاد الروم (أي الأناضول)، وهناك ستكون قطبًا وقائدًا لأبدال الروم (طريقة صوفية)».

بدأ بكتاش يجهز نفسه للسفر إلى الأناضول، لكن قبل أن يذهب إلى هناك زار الضريح المنسوب للإمام علي في النجف، ومن هناك توجه إلى مكة المكرمة، فأدى فريضة الحج، ومنها أخذ لقبه الحاج، ثم زار مسجد النبي وقبره، وبعدها توجه حيث أمره شيخه.

لكن بعض المؤرخين والباحثين لا يقبلون هذه الرواية، ويذهبون إلى أن بكتاش نزل من خراسان إلى الأناضول فرارًا من التتار، بحسب «حجي».

روايات أسطورية

كان من المنطقي أن يصاحب نشأة هذه الطريقة حكايات وروايات أسطورية، منها ما جاء في «ولاية نامة»، وهو كتاب في الأصل باللغة التركية وترجم إلى اللغة الألبانية، تحت إشراف رئاسة الطريقة، إذ رُوي أن مجموعة كبيرة من أولياء الأناضول وهم مجتمعون اُخبروا عن طريق الكشف أن وليًّا كبيرًا سيأتي من خراسان، فاتفقوا على منعه مخافة قوته الخارقة، وذهاب مكانتهم.

ولما كان حاج بكتاش في طريقه إلى الأناضول تحول إلى حمامة، ثم صعد إلى السماء حتى وصل إلى المكان الذي فيه الملائكة الذين سلموا عليه، ورحبوا به، ثم نزل إلى قرية صوليجية كرايوك (تسمى الآن مدينة الحاج بكتاش شرق أنقرة)، ليخبرهم أنه أتاهم بسلام، لكن هؤلاء الأولياء أرسلوا وليًّا منهم، وتحول إلى صقر ليخيف بكتاش ويمنعه.

 لكن الحاج بكتاش تحول في الحال إلى إنسان، وأمسكه من عنقه، وألقاه على الأرض، ولما أدرك هذا الولي قوة الحاج بكتاش اعتذر منه وقبّل يده، وذهب إلى أصحابه وأخبرهم بما حدث، ولما سمعوا بهذه القصة ذهبوا إليه، وأخذوا اليد منه ودخلوا طريقته، بحسبما جاء في الكتاب.

تزايد أتباع الطريقة

تشير كثير من المراجع والمصادر إلى أن حاج بكتاش لما نزل الأناضول ذهب إلى قرية يسكن فيها بابا إسحاق شيخ الطريقة البابائية الصوفية، لكونه خراسانيًّا مثله، والذي قام هو ومريدوه بثورة عارمة ضد السلطان السلجوقي كيسرو الثاني من سلاجقة الروم.

ويقال إن بكتاش لم يكن من المتحمسين لهذه الطريقة ولم يشارك في هذه الثورة، لكن بعدما تصدَّى السلاجقة لهذه الثورة، واستعانوا عليها بالإفرنج انضم للثورة وقاتل معهم، ثم انضم كثير من أتباع هذه الطريقة ليصبحوا من مريدي الحاج بكتاش الولي فيما بعد.

وبعدما ذهب الحاج بكتاش إلى قرية صولجية كرايوك واتخذها مقامًا له، أنشأ بها تكية بِاسمه، وفتح أبوابها للتعليم ونشر تعاليم طريقته، وسرعان ما كثر عدد مريديه حتى جاوزا سبعمائة، وانتشرت الطريقة بين أوساط العامة، وأرسل بكتاش دراويشه ليُعلموا الناس في مختلف البلاد تعاليم طريقته، وخصص لكل منهم إقليماً، فانتشرت الطريقة في بلاد اليونان وبلغاريا ورومانيا وبلاد الصرب والنمسا وألبانيا، وكل بلاد الأناضول وسوريا وإيران ومصر وشمال أفريقيا والعراق.

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، إذ تجاوز نفوذ البكتاشية إلى جيش الإنكشارية، وهو جيش جديد أنشأه السلطان أورخان العثماني قوامه أولاد الأسرى من الذميين بعد تلقينهم الشهادتين، وتثقيفهم ثقافة دينية أساسها تعاليم الإسلام، وتدريبهم على فنون القتال.

وبحسب «حجي»، ذكرت كثير من المصادر أن ثمة علاقة بين بكتاش والجيش الإنكشاري، بل تقرر هذه المصادر أنه هو الذي باركهم وسماهم بهذا الاسم والذي يعني «الجيش الجديد»، ودعا لهم بالانتصار على أعدائهم، وذلك بناء على مطلب شخصي للسلطان من بكتاش. ومن ثم أخذ الإنكشارية بكتاش شفيعًا لهم.

لكن كثيرا من الباحثين والمؤرخين يشككون في هذه الروايات التي تحدثت عن علاقة بكتاش بالسلطان أورخان، ويقولون إن بكتاش توفي عام 1337 قبل أن يتسلم أورخان زمام الحكم، وليس له دور في تأسيس الجيش.

ومهما يكن من أمر، فمن الصعب الجزم بأي من القولين، لكن من الواضح أن الطريقة البكتاشية توغلت في الإنكشارية، وسار دراويش الطريقة مرشدين للجنود، وكان في كل كتيبة من هذا الجيش شيخا «بابا» بكتاشيا يقيم معهم في التكية لإرشادهم وتعليمهم آداب الطريقة وطقوسها.

باليم سلطان المؤسس الثاني

توفي المؤسس الأول للطريقة البكتاشية الحاج بكتاش الولي عام 1337 في مدينة صولجية كرايوك، ودفن بها، وبُني له ضريح على قبره، بعدما ازداد أتباعه، وانضم لطريقته كثير من الطرائق الصوفية الأخرى، إلا أنه لم يضع للطريقة قواعد أو قوانين خاصة للمريدين.

وبعد ذلك، تصدر للرئاسة العامة للبكتاشية أسرة تعرف باسم «الشلبي»، وكان أفرادها يدعون أن بكتاش تزوج من أمهم، وهم أبناء حقيقيون له. واستمر هذا الوضع إلى بداية القرن السادس الميلادي، إذ خرج في ساحة البكتاشيين باليم سلطان الذي اعتلى منبر الوعظ والإرشاد، وأصبح شيخًا في تكية ديموتيوكة (بلدة يونانية تقع شمال شرقي البلاد)، ولما سمع السلطان بايزيد الثاني (1465- 1483) بشهرته، أرسل في طلبه، وأرسله إلى تكية حاجي بكتاش بقير شهير، وهناك أقام الطقوس الدينية البكتاشية، وعُد المؤسس الثاني للطريقة.

ويعد باليم سلطان من أعظم خلفاء حاج بكتاش، إذ وضع أصول الطريقة، وشرح الدرجات، ومراحل السلوك في الطريق الصوفي، كما رتب المريدين كل حسب درجته وعمله في الطريقة. وبحسب «حجي»، كان باليم سلطان يرى أنه لا بد لمن ينتسب للبكتاشية أن يرتبط بكل وجدانه بحاج بكتاش، وأن يتخلص من الرغبات والأهواء والميل إلى الدنيا.

تثليت ورهبانية

ويرى بعض الباحثين أن باليم سلطان تأثر بعقائد أمه النصرانية، لذا انتقلت بعض هذه العقائد إلى البكتاشية، إلا أنها جاءت تحت مسميات أخرى، كعقيدة التثليث التي احتلت مكانتها في البكتاشية متمثلة في «الله، محمد، علي»، كما أن فكرة الرهباينة التي كانت منتشرة في النصرانية انتقلت إلى البكتاشية تحت مسمى «المجردين»، وهم فئة من المريدين الذين لا يتزوجون، ويتجردون عن حب الدنيا، وزخارفها وشهواتها، وينقطعون للعبادة والزهد والتقوى، ويقيمون في التكايا الكبرى، كما يذكر «حجي».

وأدخل باليم على الطريقة أيضًا استعمال الشموع في العبادة، وسن دستورًا يسير فيها المنتسب إلى الطريقة، وأسس طقوس قبول «العاشق» – إحدى مراتب الصوفية – في الطريقة، ونُسبت له كثير من المظاهر الشيعية التي ظهرت في البكتاشية. وكل هذه الأمور أدت إلى ازدهار الطريقة في عهده، فكثر مريدوها ودراويشها، وتوسعت في زمنه تكية الحاج بكتاش الولي، وأضيفت إليها مساحات واسعة.

تشيع وتأثيرات مسيحية

وتذكر بديعة محمد عبدالعال في كتابها «الفكر الباطني في الأناضول.. الإمام علي في معتقدات البكتاشية نموذجًا»، أن حياة حاجي بكتاش كانت مفعمة بالأساطير التي وردت في كتاب «ولاية نامة» وصورت حياته بالشكل الذي يصبو إليه الإنسان الأناضولي في ذلك الوقت، وبالشكل الذي يريد أن يرى فيه حاجي بكتاش، فقد ذُكر أنه كان يركب الأسد، ويتحدث مع الطيور والغزلان، ويجعلها تسير على الماء، ويأمر الأسد بأن يفرش البساط، ويجعله يحلق به في السماء، ويحيي الموتى، ويبريء المرضى، ويرد البصر على العميان، ومن ثم عكست قصته أفكار المجتمع التركي الذي يعيش فيه سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.

وترى «عبدالعال»، أن أفكار بيئة الأناضول التي تأثرت بالمسيحية إبان العصر البيزنطي تجلت في مثل هذه القدرات التي مُنحت لحاجي بكتاش، وكأنه يشبهونه بالمسيح عليه السلام الذي كان يقوم ببعض هذه الخوارق والمعجزات.

وبجانب العنصر المسيحي، اجتمع لدى البكتاشية العنصر الشيعي. وبحسب «عبدالعال»، اختلف المؤرخون في كيفية انتقال التشيع إلى الطريقة، فهناك رأي يقول إن بكتاش يعد من أتباع الكاظمية، أي موسى الكاظم الإمام السابع من الأئمة الإثنى عشرية، أو أنه من سلالته، وهذه فرقة من غلاة الشيعة.

فيما يرى آخرون أن البكتاشية كانت طريقة رسمية سنية في القرن الرابع عشر، ثم تأثرت بالفكر الباطني في العصور التالية، بعدما اختلطت بالفرق الشيعية الأخرى مثل «الآخية» و«الأبدالية» أصبحت تحت تأثير الطريقة «الحروفية» الشيعية، ثم ثبتت على هذا الوضع.

معتقدات البكتاشية

اعتقد البكتاشية بوحدة الوجود التي قال بها المتصوف الأندلسي محيي الدين بن عربي «ت 638»، ومجملها أن الوجود وحدة متكاملة، وأن وجود الكائنات والمخلوقات إنما هو انعكاس لوجود الله، عز وجل.

ومنحت البكتاشية أهمية للموسيقى، فكانوا يعزفونها ويترنمون بشعرهم الصوفي على أنغام الرباب، ولهم اجتماعات معينة في أيام محددة، يمارسون فيها السماع، والذي كان يعني في معتقدهم التوجه إلى الله، والتفكر فيه، والتخلص من الآثام، والتطهر منها.

والمبدأ الأساسي في البكتاشية مساواة الرجل بالمرأة، فلا فرق بين نساء ورجال، والنساء المتزوجات يستطعن المشاركة في الطقوس الدينية التي تقام في التكايا، وكذا الرجال المتزوجون، وقريناتهم يمكنهم حضور الطقوس البكتاشية، وعندئذ يكلفهم الشيخ ببعض الواجبات،. ولغير المتزوجين طقوس خاصة بهم، ويشكلون هيئة لها مميزاتها القانونية الخاصة. ولا وجود للطلاق لدى المريدين المتزوجين، وهذا فيه لمحة تدل على تأثرهم بالعقائد المسيحية والديانات القديمة.

علاقة البكتاشية والدولة العثمانية

رغم أن الدولة العثمانية اعتمدت على التشريعات الإسلامية والفقهاء الأحناف في إدارة العديد من مؤسساتها وقوانينها، سيما بعد تحولها من إمارة إلى إمبراطورية خلال القرن السادس عشر، إلا أنها حافظت على التدين الشعبي الذي رافقها منذ نشأتها الأولى، وكان هذا النوع من التدين يُختزل بالطرق الصوفية بما فيها الطريقة البكتاشية التي هي خليط من أديان قديمة وفلسفات ومذاهب وموروث حضارات الأناضول وبلاد خراسان، كما أخذت البكتاشية عن المسيحية، وقدست أئمة آل البيت، بحسب «بري» في كتابه المذكور آنفًا.

لذا، كانت البكتاشية على وفاق مع أمراء وبكاوات آل عثمان منذ عهد مؤسس الطريقة حاجي بكتاش ولي، واستمر ذلك حتى بداية القرن السادس عشر الميلادي، إذ تراجعت مناحي هذا الوفاق حينما وقف رافد من البكتاشية وهم التركمان القزلباش (أي أصحاب الرؤوس الحمراء نسبة إلى الطرابيش التي كانوا يضعونها على رؤوسهم)، إلى جانب الدولة الصفوية منذ عهد الشاه إسماعيل الصفوي (1501 – 1524) ضد السلطان العثماني سليم الأول (1512- 1520).

وكان البدو الرُحل من التركمان القزلباش في ولايات شرق الأناضول قرب الحدود مع الدولة الصفوية، ووقفوا إلى جانبها نتيجة تأثرهم بالتصوف البكتاشي العلوي، وشاركوا في حركات التمرد والأعمال العسكرية الصفوية، ووصفهم العثمانيون بأنهم زنادقة وأهل إلحاد، فكانوا عرضة لحملات عسكرية عثمانية سبقت حربها مع الدولة الصفوية بهدف تأمين حدودها شرق الأناضول.

وبحسب «بري»، وقعت البكتاشية في أتون الصراع السياسي الصفوي العثماني، لا سيما بعدما حمل هذا الصراع في طياته تمذهب ديني، بعد صعود التشيع الصفوي في إيران وشرق الأناضول، وبعد توجه الدولة العثمانية نحو تعزيز مكانة المذهب السني الحنفي في سائر أرجاء البلاد عبر الاستعانة بالفقهاء الأشاعرة من مصر منذ عام 1518.

وبعد الضربات التي تلقتها البكتاشية في عهد السلطان سليم الأول (1512 –  1524)، تسامح معها السلطان سليمان القانوني (1524- 1566)، وكذلك فعل السلطان محمود الثاني (1785- 1839)، حينما قام بحل الإنكشارية وإلغاء تكايا الطريقة البكتاشية عام 1826 بعد تزايد نفوذها داخل الجيش، بينما تسامح مع البكتاشية ابنه وخليفته السلطان عبدالمجيد بشرط الابتعاد عن مؤسسة الجيش، وذات الأمر حدث معها في العهد الجمهوري حيث مرت العلاقة بمد وجزر، وكانت مصر جزءاً من هذه المنعطفات.

البكتاشية في مصر

يذكر محمد الأرناؤوط في كتابه «الجالية المخفية.. فصول من تاريخ الألبان في مصر»، أن الروايات البكتاشية تنسب وصول الطريقة إلى مصر لأحد دراويش الطريقة ويدعى «قيغوسز سلطان» أو عبدالله المغاوري – كما اشتهر في مصر – والذي جاء إلى القاهرة عام 1388، في عهد السلطان المملوكي صلاح الدين حاجي.

وبحسب الروايات، تمكن «قيغوسز» من شفاء حاكم القاهرة من مرض ألمَّ به، ولذلك بنى قبة لقيغوسز ودراويشه على ساحل النيل سنة 1404، وعرفت فيما بعد بـ«تكية قصر العيني»، نسبة إلى أحمد بن العيني الذي بنى قصره هناك عام 1466.

ومرت التكية بمنعطفات تاريخية عديدة وتأثرت بما جرى للتكية الأم في الأناضول، إلى أن جاء عام 1859 عندما خصّص محمد سعيد باشا تكية بِاسم عبدالله المغاروي في سفح جبل المقطم لتكون تكية للطريقة البكتاشية. ولم يكن اختيار هذا الموقع بالصدفة لأن البكتاشيين كانوا يدفنون موتاهم هناك منذ القرن الخامس عشر.

وبعد إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924، قام مصطفى كمال أتاتورك بإصلاحات جذرية هدفت في الأساس إلى تخليص تركيا (وريثة الدولة العثمانية) من التركة العثمانية، وفي هذا الإطار تقرر في عام 1925 إلغاء الطرق الصوفية وغلق التكايا الموجودة في تركيا، إذ كانت تكية ولي بكتاش بالأناضول التكية الأم أو مقر الرئيس الأعلى «دده بابا» للطريقة البكتاشية في العالم.

ومع هذا الإجراء لجأ شيخ هذه التكية صالح نيازي الذي كان ألبانيا إلى ألبانيا، والتي كانت تشتمل على أعلى نسبة بكتاشية بين السكان بعد تركيا، ومن ثم أصبحت تكية تيرانا منذ 1930 مركز رئاسة الطريقة في العالم.

وفي غضون ذلك كانت تكية القاهرة قد آلت إلى بابا أحمد سري الألباني، والذي وصلت التكية في عهده إلى ذروتها من حيث التطور والصلات التي كانت لها مع الجالية الألبانية في مصر، أو الملك الألباني أحمد زوغو وحاشيته بعد فرارهم من ألبانيا عام 1940 في أعقاب الغزو الإيطالي لبلادهم، إذ اتجهوا إلى عدد من البلاد الأوروبية ثم استقروا في مصر بعد دعوة من الملك فاروق.

وقد تعززت مكانة تكية القاهرة في العالم نتيجة للتطورات الجديدة خلال الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، وكذلك بعد وصول الحزب الشيوعي للحكم في ألبانيا عام 1944، وانتحار عباس حلمي ده بابا في عام 1945، إذ عُقد مؤتمر عام للطريقة في تكية البكتاشية في يناير 1949، أعلنوا فيه أن لم يعد من الممكن للطريقة ممارسة نشاطها بحرية في ألبانيا تحت الحكم الشيوعي، ولذلك اختاروا بابا سري شيخا لمشايخ الطريقة البكتاشية في العالم، ومن ثم أصبحت القاهرة مركزا للطريقة في العالم.

ومع قيام ثورة يوليو عام 1952، تتالت الإجراءات ضد أفراد الأسرة الملكية من مصادرة إلى حراسة، ما أدى إلى فقدان التكية أهم مصادر الدعم المادي والمعنوي لها، وبات ينظر للتكية على أنها «مشبوهة» بسبب صلاتها الوثيقة المعروفة سواء مع الملك السابق أو أفراد الأسرة المالكة.

لكن الضربة القاضية للتكية كانت في أعقاب حرب السويس وما صاحبها من توسيع الصلاحيات العسكرية، ففي مطلع عام 1957 صودرت التكية لأنها تدخل ضمن منطقة عسكرية، وفي مقابل ذلك منحت الحكومة سري دده بابا فيلا في المعادي مع تعويض قدره ألف جنيه لإجراء تعديلات عليها حتى تناسب استخدماها كتكية.

إضافة إلى ذلك، خُصصت نفقة شهرية من وزارة الأوقاف قدرها خمسون جنيهًا، وبعد سنتين انخفضت إلى عشرة جنيهات فقط، ولم تعد كافية لسد رمق الدراويش الخمسة الذين بقوا في التكية بعد هجرة الواسعة لأفراد الجالية الألبانية خارج مصر بعد الثورة.

وفي هذا الوضع توفى ثلاثة من الدراويش حتى سنة 1965، والتي توفي فيها سري دده بابا، ثم هاجر الدرويشان الباقيان على قيد الحياة للالتحاق إلى الولايات المتحدة الأمريكية للالتحاق بالتكية البكتاشية في ديترويت، والتي أسسها أحد دراويش التكية البكتاشية في القاهرة ويدعى بابا رجب . ومع وفاة دده بابا سري حلت نهاية التكية البكتاشية في مصر.

ويتركز البكتاشيون اليوم في ألبانيا، ولهم مركز عالمي هناك يرأسه شيخ شيوخ الطريقة يدعى إدموند إبراهيماي أو بابا مندي، كما أنهم موجودون في اليونان وإيران وتركيا والعراق وبلاد الشام والصين والولايات المتحدة، ودول أخرى.