التغيير هو سُنة الكون. عامًا بعد عام تتأكد تلك النظرية التي لا يبدو لها انكسار، بالرغم من ذلك العمر المديد للكون الذي تغير فيه كُل شيء إلاها. ما يحدث في هذا العام سيتحول تمامًا في الذي يليه، ليس فقط في العام بل في ذلك الشهر، أو بالأحرى اليوم. في الحقيقة حتى هذه السطور ربما تصبح بلا قيمة بعد ساعات من نشرها. كل الحقائق التي ستذكر خلالها ربما تُكسر بعد حين قليل. كذلك الأمر داخل كرة القدم، الوصف الذي وجدوه تاريخيًا في الماضي من المؤكد أنه تغيّر الآن؛ فالكرة لم تعد كما كانت بالمرة.

أغلب متابعي الكرة الحاليين لم يمروا على المراحل الكروية العتيدة التي نُلقبها الآن بالنوستالجيا. لم نرَ الذيل الإلهي لـ«باجيو» وهو يتحكم في قلوب العامة، ولم نتيقن من حقيقة اختراق «بيليه» لحدود المنطق فيما يخص إحراز الأهداف. كسر «مارادونا» خطوط دفاع الإنجليز -في أعيننا- عبر اليوتيوب فقط، و«فرانتس بيكنبابور» ما هو إلا بعضًا من الصور التي تُزين المواقع مدعومة بتعليقاتٍ عن أشياء خيالية قام بها لم نرَ أيًا منها.

تلك الحقيقة السابق ذكرها جعلت منا أقل حقًا في دمج لفظ «في التاريخ» مع أي من إحصاءاتنا. لا يمكننا أن نؤكد أن أحدهم هو الأفضل في التاريخ؛ فإننا لم نرَ مجد ذلك أو ذاك حتى نتأكد من وصفنا. وإذا ما عممنا تلك التجربة على كل أحاديثنا الكروية فسنعرف كم نُعاني الآن مع أحد قدامى المتابعين لكرة القدم.

ذلك صراع لن يُحسم في الوقت الحاضر بكل تأكيد، لكن الجيل الحالي من متابعي كرة القدم كانوا في حاجة ماسة لحدثٍ ما يجعلهم يضعون لفظ «في التاريخ» بكل ثقة وبدون أي حاجة للتبرير أو ساعات من النقاش غير المُجدي؛ فكانت لهم 2017 خير نافع في ذلك الغرض.


اللاعب الأغلى «في التاريخ»

النجم البرازيلي نيمار داسيلفا أثناء تقديمه كلاعب في باريس سان جيرمان

بالرغم من عدم تكافؤ الفرص في تلك النقطة بالتحديد، ومع الاعتراف بأن عالم الأموال لم يحقق ذلك التوغل في كرة القدم إلا في السنين الأخيرة فقط، لكن لن يمنعنا ذلك من الاعتزاز بأننا شاهدنا بأم أعيننا أغلى 10 صفقات في تاريخ كرة القدم. خلال 2017 كسر البرازيلي «نيمار» رقم «بول بوجبا» الذي تحقق في 2016، كأغلى لاعب في تاريخ اللعبة؛ وانفرد بالرقم القياسي من خلال صفقة انتقاله -الإجباري- إلى باريس سان جيرمان من برشلونة بعد كسر الشرط الجزائي المقدر بـ222 مليون يورو.

الصفقة التي تمت في أغسطس 2017 حازت على لغط كبير جدًا وسط الجماهير، وذلك للشكل الذي قرر به نيمار ترك العملاق الكتالوني، وكذا القيمة المادية الكبيرة التي رفعت الطموحات للغاية فيما تلا ذلك. بدأت الأغلبية تتحدث وقتها عن الثمن الممكن وضعه إذا ما فضل «ليونيل ميسي» ترك برشلونة مثلًا أو تطورت المشاكل بين «كريستيانو رونالدو» وإدارة مدريد وقرر الرحيل. لأيام طوال كان البرازيلي هو الحديث الأهم لكل متحدثي لغة كرة القدم حول العالم، وحتى اللحظة لم يختفِ «نيمار» عن الأعين وما تزال تتبعه الأنظار دائمًا، شطر من الأنظار لقيمته الفنية الكبيرة والشطر الآخر لسعره داخل السوق الكروي.

ومن المتوقع أيضًا أن يحصل الهولندي «فان ديك» على نفس الهالة الإعلامية والضغط الجماهيري، بعدما كان مسك الختام لأحداث هذه السنة. انتقال «فيرجيل» من ساوثهامبتون إلى ليفربول والمعلن عنه رسميًا منذ أيام قليلة فقط، تسجل كأعلى سعر دُفع لمدافع في تاريخ كرة القدم، متفوقًا على «ميندي» و«والكر» اللذين أتما انتقالهما في نفس العام؛ ليكون كرم 2017 علينا عظيمًا ونشهد معه كسر الرقم القياسي 3 مرات متتالية، في غضون 6 أشهر فقط!

المؤكد أنه لن يغالطنا أحد في وضع كلمة «في التاريخ» هذه المرة، لكن أعتقد أن تلك الحقائق ستتحول ويصبح هؤلاء المذكورة أسماؤهم بالأعلى في ترتيبات أقل من ناحية الأغلى عبر الأزمان، خصوصًا مع وجود مواهب مثل «إيدين هازارد» و«كيليان مبابي».


انقلاب القوى في المملكة

الإسباني «بيب جوارديولا» المدير الفني السابق لفريق برشلونة والحالي لفريق مانشستر سيتي.

المعروف عن الكرة الإنجليزية أنها أحد أكثر الدوريات تنافسية عبر كل الدوريات الكبرى. الصدارة والمراكز الأولى التي تليها دائمًا ما تكن الفوارق فيما بينها بسيطة، تتراوح بين نقطة و5 نقاط على الأكثر. الاستثناءات التي ظهرت عكس ذلك كانت في حد ضئيل جدًا يصعب علينا تذكره حتى. لكن شيئًا ما تغير خلال النصف الأخير من عام 2017 على يد «بيب جوارديولا».

يقدم مانشستر سيتي الآن واحدة من أفضل نسخ الفرق الإنجليزية خلال عمر المسابقة. يتربع على المقدمة بفارق كبير عن أقرب ملاحقيه، ويصنفهم الكثيرون على أنهم أبطال الدوري المنتظرون، في إشارة تحدث لمرات قليلة: بأن يتم تسمية بطل النسخة من الدوري الإنجليزي الممتاز قبل حلول فترة الشتاء.

لم يكن بيب بخيلًا أبدًا خلال عام 2017، ومنحنا فارقًا تاريخيًا بينه وبين وصيف الترتيب، وكذلك تمكن من تحقيق الفوز في 17 لقاءً متتاليًا في رقم قياسي، لكن المنتظر الآن أن يستمر بيب في إهدائنا أرقامًا خالدة، كالفوز بالدوري بدون هزيمة أو بفارق أكبر من 15 نقطة: الرقمين اللذين يملكهما أرسنال ومانشستر يونايتد على الترتيب. الإجمال أن «جوارديولا» قدم لنا خلال 2017 عملية انقلاب كاملة على عدة ثوابت في إنجلترا، وفي الكرة عمومًا، وفي طريقه لتحطيم أرقام أكثر وأكثر في العام الجديد، أعتقد أن بيب يمكنه أن يحسم الجدل، ويجعلنا نضعه الأفضل في التاريخ بلا خوف، لكن لازال الوقت مبكرًا على هذا الوصف.


حامل البالون دور المنتظر

صحيح أننا لما نشهد عصر «بيليه» و«مارادونا» ولا أي من أمثالهما التاريخيين أولئك، لكننا سعيدو الحظ جدًا بحضور صراع «ميسي-رونالدو» التاريخي الذي سيظل يُحكى لسنين طوال كأحد أشد الصراعات بين موهبتين يمكن تصنيفهما بين أفضل 11 لاعبًا في كرة القدم عبر كل العصور. وتعد منصة الكرة الذهبية – Ballon d’or – باختلاف أشكالها أحد أكثر المنصات التي شهدت صراعًا بين البرتغالي والأرجنتيني. تعاظمت أهمية هذه الجائزة بدرجة ضخمة وصلت لأننا بتنا نحتاج إلى ذكرها في كل مرة نصنف فيها قيمة موهبة كبيرة في العصر الحالي؛ فنؤكد أنه سيكون حامل البالون دور بعد اعتزال ليونيل وكريستيانو أو بعد خفوت نجمهما اللامع.

الوصف السابق تحرك كثيرًا من هنا لهناك، ومن هذا اللاعب لذاك، العديد حصل على وصف «حامل الكرة الذهبية القادم» لفترة وجيزة، لكن لم يحصل أحد المواهب الصغيرة على كامل الإشادة من الجميع، واستمر في الحفاظ عليها لمدة طويلة بقدر ما فعل الفرنسي الشاب «كيليان مبابي» خلال عام 2017. نال مبابي العديد من الأوصاف منذ توهجه الأول، بداية من هنري الجديد ووصولًا لحامل البالون دور المنتظر .

يملك ذلك الشاب كل الإمكانيات التي تجعله الأحق بلقب المتوّج المنتظر بالكرة الذهبية كأفضل لاعب في العالم خلال العام، صحيح أنه لم يحقق ألقابًا كثيرة على المستوى الفردي أو الجماعي، لكن كل الظروف المحيطة به تؤكد أن الأمر ينقصه فقط مرور السنين، وسيكون من غير المنطقي أبدًا عدم فوزه باللقب؛ لنكون وقتها سعداء جدًا بحضور مراحل تكوين أسطورة جديدة مثل «مبابي»، منذ طور التكوين في موناكو وحتى الانفجار ومناطحة الأساطير التاريخية. لن نتمكن من وضعه الأفضل في التاريخ كالعادة، كما سبق التوضيح، لكن سعادتنا بمبابي ستخفف من وطأة ذلك مؤكدًا.


الجانب الحزين

الإصابات والاعتزال هما أسوأ وجهين قد نواجههما خلال تلك اللعبة التي تمتلك قلوبنا جميعًا. وبخصوص ذلك العام، فإن كل جوانبه لم تكن بالإشراق المنتظر، فقد اختلطت فرحتنا بتوثيقاتٍ تاريخية مع دموع حزننا على وضع نهايات لقصص نشأنا على حبها. ودعنا خلال ذلك العام أسطورة «توتي» وأتبعناها بفراق «ريكاردو كاكا»، أحد الأسماء التي لم تشب ثيابهما البيضاء أي نقطة كره حملها الغير لهما.

النجم الإيطالي فرانشيسكو توتي

بلغ «توتي» من العمر عتيًا. أنهكته صراعات عدة موجودة داخل عقله. ضاع بين غيابات التفكير المنطقي وغير المنطقي حول عشق روما، ضربته السنون تارة واستبسل في وجهها تارات. عجز عن إجابة السؤال الفلسفي الأعقد عبر تلك الفترة من العمر. ناطح في شئون أموال الحضارة وظل يبحث في غيوم الدرب عن تمسك منطقي واحدٍ فقط بحبه لروما فلم يجد. وضع تاريخ روما على عاتقه وجال به العالم ورسخ باعتزاله بنفس القميص، درجة جديدة من الوفاء محفورة باسمه مع صورة لروما وشعار الذئاب.

في حين وطئ «كاكا» من الأراضي ما وطئ، وارتدى من قمصان الفرق ما سمحت له الظروف بأن يرتدي، لكن توجد أرض واحدة لم تشهد على حب جامح لهادئ الملامح ذاك. اجتمع الناس في حبهم لتوتي وكاكا على وصف واحد، أنه لا سبب واضحًا يمكن وضعه لتفسير ذلك الحب الشديد لكل منهما، لكن بنظرة فلسفية بعض الشيء، فإن عدم وجود سبب هو بحد ذاته سبب لتعظيم قيمة ذلك الحب الذي لن ينتهي باعتزالهما.


أسطورة الشعب الحية

فرانشيسكو توتي، روما
اللاعب المصري محمد صلاح

إن كنا نتحدث عن جدال تاريخي في تسمية اللاعب الأفضل، فإن الصراع في الكرة المصرية كان على أشده. بين محاولة جذب الأسطورية للجانب الأحمر وبين محاولة الاستئثار بها في الركن الأبيض، كان «محمد صلاح» هو الحاسم النهائي للجدل، باعتبار الأكثرية المتابعة والمطلعة.

2017 لم تكن السنة التي بدأ فيها انجذاب الشعب لأسطورية المصري الشاب، لكنها سنة التوهج والانفجار، أو بالأحرى تكليل ذلك الانجذاب بإنجازٍ لا ينازعه إنجاز: العودة لمنافسات كأس العالم في ظل ظروف سياسية واجتماعية ليست في أحسن حال داخل الأراضي المصرية، وبالطبع في منتهى السوء من الناحية الكروية. تمكن صلاح من إعطاء المصريين قبلة الحياة وأعاد البسمة على شفاههم بعد لحظات صمت وسنين كسرة. القدر دائمًا ما يخدم تلك النماذج. تتأزم الظروف ودقائق من الحسرة والكسرة يطول تأثيرها، لأنه مُقدر لما خُلق له. لتخفق القلوب على اسم صلاح ويتحول من مجرد نجم تلتف الجموع حوله، لأسطورة تأسر القلوب ولا تترك مجالًا للنقاش بعدما يظهر في اللحظة الحاسمة.

المصريون احتاجوا لبطل يسوق الجموع نحو اتجاه ليس فيه من الألم ما اعتادوا، فكان لهم صلاح هو الخارق الذي وضع بسمة صافية في مسيرة الأمة الحزينة. وخيرًا ما فعل.

المصريون احتاجوا لبطل يسوق الجموع نحو اتجاه ليس فيه من الألم ما اعتادوا، فكان لهم صلاح هو الخارق الذي وضع بسمة صافية في مسيرة الأمة الحزينة. وخيرًا ما فعل. فقط تحرك هذه الأثناء في أي موضع داخل مصر المحروسة وتحديدًا في أوقات مباريات ليفربول، الفريق الذي يصعب على عدد كبير من المصريين حتى نطق اسمه بشكلٍ صحيح؛ لتعرف كم الحب الذي يكنه ذلك الشعب لأسطورتهم الحية تلك. لا يمنحون أي فرصة لأي شاغلٍ أو واشٍ ليشوب علاقتهم خالصة الحب مع ذلك الباسم البشوش. لا يمكن أن يكون هناك أي شيء في لائحة الأولويات يعتلي أولوية مشاهدة محمد صلاح.

الوصول لكأس العالم كان هدية القدر لصلاح أكثر منها للشعب المصري، حيث كان صلاح هو الهدية الأغلى للمصريين ذلك العام، وهو الاسم الذي سيتكرر ذكره في أوراق الأمنيات إذا ما تمكن الأطفال المصريون من إيصالها إلى «سانتا كلوز».

ومن جهتنا سنحاول مخاطبة العزيز سانتا أيضًا من أجل أحداث أكثر تاريخية في الشهور القادمة، لنتمكن من تعزيز موقفنا تجاه القدماء من متابعي الكرة ولزيادة أكثر وأكثر في المتعة، لا سيما مع الانتظار الشديد لمنافسات المونديال التي طال غيابها. كل عام والكرة بخير.