صباحًا ومع إشراقة الجمعة، استّلت ثلاثية محمدية من آل جبارين في بلدة أم الفحم بالأراضي المحتلة عام 1948، سلاح العز والكرامة ليقنصوا جنود الاحتلال الذين يعيثون الفساد في ساحات المسجد الأقصى، أرادوا أن يُبرهنوا للعالم أن ما أُخد بالقوة لا يُسترد إلا بقوة السلاح المُقاوم بعيدًا عن التحزب أو التلون التنظيمي وأن الأقصى قِبلة المقاومة وهدفها الذي لا تحيد عنه.

كبيرهم كان محمد أحمد محمد جبارين (29 عامًا)، فيما الآخرون لم يُجاوزا الـ 19 ربيعًا من عمريهما؛ أحدهم محمد حامد عبد اللطيف جبارين والآخر محمد أحمد مفضل جبارين، هم أبناء عمومة اتفقوا في وقتٍ سابق على تنفيذ الهجوم ودفع دمائهم ثمنًا لحرية الأقصى في وقتٍ يُعاني فيه من تضييق وخنق وتدنيس بشتى الطرق والوسائل صبح مساء.

وما إن أعلن الصبح نوره حتى صوبوا نيران أسلحتهم البسيطة «كارلو ومسدس» تجاه الجنود المتمركزين عند باب الأسباط في المسجد الأقصى، وتمكنوا من إصابة ثلاثة جنود إسرائيليين بجروحٍ وُصفت بالخطيرة، على إثرها أُعلن عن مقتل اثنين منهم فيما بقيَّ ثالهم يُصارع الموت، فيما لاذوا بساحات المسجد الأقصى ولاحقهم جنود آخرين برصاص كثيف أدى إلى استشهادهم عند صحن قبة الصخرة المُشرفة.

العملية أربكت الاحتلال الإسرائيلي في مكانها وتوقيتها وهوية مُنفذيها الذين جاءوا من بلدة أم الفحم في الأراضي المحتلة 48، ليُؤكدوا أنهم لا ينسلخون عن الهم الوطني، غير أن «غلعاد أردان» وزير الأمن الداخلي وصفهم بالمخربين، وقال في تصريح للإذاعة العبرية تابعته «إضاءات»: «إن المُخربين الثلاثة نفذوا عملية مُخطط لها، مدنسين باحات جبل الهيكل»، ووصف العملية بـ «الخطيرة وغير المسئولة».

لقد هزت العملية إسرائيل وأظهرت عجز مخابراتها وقوات أمنها عن إحباطها قبل وقوعها، وما استطاعت أن تفعله فقط بدء إجراءات التضييق وفتح أجهزة الأمن تحقيق للوقوف على أسبابها ودوافعها باعتبارها تجاوزت كل الخطوط الحمراء.


إغلاق الأقصى لأول مرة منذ حريقه عام 1969

في غضون ذلك سارع الاحتلال الإسرائيلي إلى خنق القدس وبخاصة البلدة القديمة بطوقٍ أمني وأصدر قرارًا بإغلاق المسجد الأقصى أمام المصلين ومنع إقامة شعائر صلاة الجمعة لأول مرة منذ حريقه في عام 1969، وفي وقتٍ لاحق ومع إصرار الفلسطينيون بالوصول إلى الأقصى وتحدي قرار الاحتلال عمدوا إلى إخراجهم تحت تهديد السلاح.

ويرى مراقبون فلسطينيون أن الاحتلال الإسرائيلي سيتخذ العملية ذريعة لفرض المزيد من القيود والإجراءات الأمنية التصعيدية في المسجد الأقصى، والتي قد تشمل تمرير مخططات من شأنها أن تقلب الوضع القائم منذ عقود، وتُحكم الهيمنة الإسرائيلية على المسجد الأقصى الذي ترى إسرائيل أنه أُقيم على أنقاض هيكلها المزعوم.

وفي تصريح مقتضب لـ «كمال الخطيب» رئيس لجنة الحريات في الداخل المحتل عام 48، أكد لـ «إضاءات» أن إغلاق الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى ومنع إقامة شعائر صلاة الجمعة فيه بُعيد تنفيذ العملية إجراء خطير جدًا، وحذر من تبعاته وانعكاساته على هوية المسجد الأقصى وعلى الوجود الفلسطيني فيه.

وحمّل «الخطيب» مسئولية ما جرى في القدس للاحتلال الإسرائيلي الذي يُمارس انتهاكات يومية بحق أبناء الداخل المحتل عام 1948، وكثيرًا ما يصف الاحتلال الإسرائيلي أبناء الداخل المحتل بأنهم خنجر في قلب دولة الاحتلال وسرطان يُلوث نقاء الدولة الإسرائيلية – كما يقول الخطيب.

بدوره أكد «عبد الله معروف» الباحث والمختص في علوم القدس والمسجد الأقصى، أن اشتباك الأقصى الذي وقع اليوم، هو الأول من نوعه على صعيد الفعل المُقاوم المُسلح داخل أروقة المسجد الأقصى، وبيّن في فيديو بثه عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» أن تبعات السلوك الإسرائيلي بإغلاق الأقصى خطيرة على مستوى الوجود الفلسطيني هناك خاصة في ظل الإعلان المُباشر من قبل الاحتلال بُعيد العملية عن إغلاق أبواب المسجد الأقصى ومنع الفلسطينيون من أداء شعائر صلاة الجمعة فيه.

يتخوف «معروف» من مُطالبة أعضاء الكنيست الإسرائيلي بإغلاق المسجد الأقصى أمام الفلسطينيون لفترة طويلة، وقال إن ذلك يشي بمُخطط خطير يُحكم سيطرة الاحتلال على المسجد الأقصى بالكامل فيما عدا المباني داخله كـ الجامع القبلي وقبة الصخرة.

وإذا ما حدث ذلك فإنّه سيُتيح لليهود من كافة الطوائف الدينية الوصول إلى المسجد الأقصى والدخول إلى ساحاته في أي وقت ومن أي مكان لأداء شعائرهم الدينية، وسيؤدي إلى إلغاء التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى.

ويرى «معروف» في استمرار التصعيد داخل البلدة القديمة في القدس ضروريًا لتفويت الفرصة على الاحتلال تنفيذ مخططاته الخبيثة للاستيلاء والسيطرة الرسمية المباشرة على ساحات المسجد الأقصى، ويقول: «إن 30 ألف فلسطيني في البلدة القديمة بإمكانهم التصدي بالوصول رغمًا عن الاحتلال وإجراءاته وحواجزه إلى أطراف المسجد الأقصى وأداء الصلوات هناك»، لافتًا إلى أن ذلك يُربك حسابات الاحتلال ويضعهم في إطار المسئولية عن أي اعتداءات قد تحصل.


الفلسطينيون يتحدون الاحتلال بالصلاة في الشوارع

وكما أخفق الاحتلال في الكشف عن العملية قبل وقوعها أخفق في تطبيق إجراءاته بإغلاق البلدة القديمة بالقدس وفرض الطوق الأمني على شوارعها وأحيائها، وبمجرد أن أُعلن في الإعلام العبري عن إغلاق المسجد الأقصى ومنع إقامة شعائر صلاة الجمعة فيه حتى احتشد آلاف المصلين في تحد جريء لقرار الاحتلال، وأقاموا الصلاة ورددوا بالتكبير طويلًا وسط اعتداءات جنود الاحتلال، وقال أحد المرابطين في المسجد الأقصى لـ «إضاءات»: «لم نستسلم لقرار المنع من الدخول إلى المسجد الأقصى صلينا في كل الطرقات المُؤدية إليه».

وقُدرت أعداد المصلين بالآلاف من الشبان والشيوخ جميعهم تمركزوا في الأحياء القريبة من المسجد الأقصى ومنها باب العامود وباب الساهرة ومحيط منطقة الأسباط التي نُفذ فيها الاشتباك بالإضافة إلى بلدتي سلوان ووادي الجوز وحي رأس العامود، وأشار «المرابط» الذي رفض التصريح باسمه خشية الملاحقة الأمنية الإسرائيلية إلى أن جنود الاحتلال عمدت إلى تفريق المصلين واعتدت عليهم بالضرب فيما اعتقلت 13 شخصًا من حراس المسجد الأقصى بالإضافة إلى اعتقال مفتي القدس والديار الفلسطينية «محمد حسين» وإغلاق جميع مكاتب الأوقاف ومصادرة مفاتيحها.

وذكر «المرابط» أن جنود الاحتلال اعتدى على المُفتي قبل اعتقاله بسبب دعوته بضرورة الوصول إلى أقرب نقطة للمسجد الأقصى وأداء صلاة الجمعة في الشوارع والطرقات المُؤدية إليه، بالإضافة إلى إلقائه خُطبة الجمعة وخرقه للحصار الذي خضع له المسجد الأقصى منذ العملية في ساعات الصباح، كما أشار إلى اندلاع مواجهات عنيفة في معظم المناطق الملاصقة للمسجد الأقصى ومنها حارة باب حِطة.


غزة تبتهج لـ «اشتباك الأقصى»

لم يمنع البعد المكاني والجغرافي الفلسطينيون في قطاع غزة من الابتهاج والاحتفاء بعملية القدس التي زلزلت الأمن الإسرائيلي في وقتٍ يتوه في الفلسطينيون في نزاعاتهم الداخلية وتنحرف فيه بوصلة العالم العربي والإسلامي عن الأقصى لصالح نزاعاتهم الطائفية والمذهبية.

على الصعيد الشعبي عبّر مواطنون على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بهم عن فخرهم بالعمل البطولي الذي نفذه أبناء عائلة جبارين الثلاثة آملين أن يكون مقدمة لاستمرار الانتفاضة من أجل القدس والأقصى الذي يُنتهك ويُدنس يوميًا من قبل الاحتلال وسط صمتٍ رسمي على المستوى الفلسطيني والعربي والإسلامي.

وعمد ناشطو مواقع التواصل الاجتماعي إلى مشاركة مقاطع الفيديو الخاصة بالعملية ولحظة إطلاق المنفذين الثلاثة النار على جنود الاحتلال وإصابتهم، كما عبروا عن فخرهم بالأبطال الثلاثة الذين خططوا ونفذوا العملية في صمت أربك الاحتلال الإسرائيلي وأعجزه عن الرد إلا بإغلاق الأقصى والاعتداء على المصلين.

وقال أحدهم: «إن عملية الأقصى أعادت الروح لقضيتنا والبوصلة لاتجاهها الصحيح»، فيما عدّ حمزة أبو شنب في منشور له على صفحته «فيس بوك» العملية تطورًا هامًا في الفعل المقاوم وقال: «إنها تؤكد على وحدة الأرض والشعب»، وشدد أن عنصر المفاجأة الذي ارتكزت عليه سواء في التوقيت أو مكان التنفيذ يُشكل عبء أمني جديد على الاحتلال ويُظهر ضعف الأجهزة الأمنية وقدراتها الاستخباراتية في الكشف عن العمليات وإحباطها قبل وقوعها.

عملية الأقصى

وعلى الصعيد الفصائلي كان العمل أكثر تنظيمًا بالدعوة إلى مسيرات إسناد تخرج إلى الساحات العامة عقب أداء صلاة الجمعة، للتأكيد على وحدة الموقف الفلسطيني من العملية بمباركتها وتأييدها والدعوة إلى الاستزادة في العمل المُقاوم السلمي والمسلح حتى نيل الحرية ليس للقدس فقط وإنما لكل فلسطين، وفي حديثه لنا قال «حازم قاسم» الناطق الإعلامي باسم الحركة في غزة: «إن العملية أكدت على استمرار جذوة الانتفاضة الثالثة التي اندلعت لأجل الأقصى قبل عامين». وأوضح أنها ردًا طبيعيًا على ممارسات الاحتلال اليومية في تدنيس المسجد الأقصى وعلى جرائمه المتواصلة بحق المقدسيين بهدم منازلهم وحصار مدينتهم وإزهاق أرواحهم على الحواجز، داعيًا إلى مواصلة المقاومة للاحتلال حتى تحرير الأرض والإنسان.

فيما شدد «خالد البطش» القيادي في حركة الجهاد الإسلامي على أن العملية جاءت تأكيدًا على استئناف جبهة المقاومة كسبيل وحيد للدفاع عن الأقصى في ظل استمرار الانتهاكات الإسرائيلية بحقه، وقال لـ «إضاءات» إن ثلاثية الشبان المحمدية من آل جبارين جبّرت كسر الأقصى وأكدت أنه عصي على التطبيع وأن عودته لن تكون بالمفاوضات العبثية بل بالمقاومة الفعلية بالدم والنار، داعيًا الكل الفلسطيني إلى توحيد موقفه وبندقيته تجاه الاحتلال بعيدًا عن ترهات الانقسام الذي لا يخدم إلا الاحتلال الإسرائيلي.