لم يكن رئيس غامبيا «يحيى جامع»، الذي كان قد قضى حينها سبعة عشر عامًا في سدة الحكم، لم يكن يدري وهو يصرح للإعلام في ديسمبر/كانون الأول 2011 بأنه سيحكم البلاد لمدة «مليار عام»، أنه لن يكمل بعدها خمس سنوات في السلطة، قبل أن يغادرها بشكل درامي مفاجئ للجميع تقريبًا، ولن يبكي عليه حينها أحد، بل سيصير حديث «المليار عام» هذا موطنـًا للتندر والسخرية.

ففي حدث مفاجئ تمامًا، أعلنت لجنة الانتخابات العامة أمس الجمعة أن الرئيس جامع الذي حكم البلاد لمدة 22 عامـًا قد خسر الانتخابات لصالح رجل الأعمال «آدم بارو» الذي حصل على 45% من أصوات الناخبين. وبحسب رئيس اللجنة -الذي دعا إلى التزام الهدوء بعد أن دخلت البلاد في أجواء غير متوقعة- فقد أقر الرئيس جامع بخسارته.

ستكون هناك احتفالات، وستكون هناك خيبة أمل، لكننا ندرك أننا جميعًا مواطنو غامبيا.
إنه بالفعل أمر فريد أن يُقرّ شخص حكم هذا البلد لفترة طويلة جدًا بخسارته في الانتخابات.
«علي محمد نجي» رئيس لجنة الانتخابات في غامبيا

ما يجب أن تعرفه عن غامبيا

تقع غامبيا على الساحل الغربي لأفريقيا، ويبلغ عدد سكانها أقل من مليونين، يحدها من الشمال والشرق والجنوب دولة السنغال، وبمساحتها التي تبلغ نحو عشرة آلاف كيلومتر مربع فإنها تُعد أصغر دول البر الرئيسي لأفريقيا.

لم تعرف البلاد انتقالاً سلسًا للسلطة منذ استقلالها عن الاستعمار البريطاني، فرئيسها المؤسس، السِّير جاوودا جاوارا (1965-1994)، بعـدما استلم رئاسة الحكومة بعيْـد الاستقلال عن المملكـة المتحدة في ظل نظام برلماني يطبق التعددية الحزبية،عاد سريعًا إلى نظام الحزب الواحد المعتمد على القوى التقليدية في المجتمع (القبيلة)، حيث هيمن «حزب الشعب التقدمي» على السياسة في البلاد طيلة ثلاثين عامًا.

وحين جاء «يحيى جامع» إلى السلطة عبر انقلاب عسكري عام 1994، فقد استمر في نهج الحكم القائم على نبذ إرشادات كتيب الديمقراطية الليبرالية الغربية، بل اعتمد على الإنصات للوجهاء وممثليهم في الحكومة والجيش كما هو نهج أغلب الدول الأفريقية ذات الموروث السياسي التقليدي ذي الطابع الأبوي.

حكم جامع بلاده بالحديد والنار، فلم يكن مصير معارضيه إلا القتل أو الاعتقال أو الهروب من البلاد، ونظرًا لسجل البلاد السيئ في حقوق الإنسان، فقد أقدم الاتحاد الأوروبي في 2014 على تعليق مؤقت لأموال المساعدات لغامبيا، التي احتلت المركز 165 من بين 187 دولة في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية.


جامع: هزيمة مفاجئة، آدم: آمال معقودة

http://gty.im/627179252

جاءت هزيمة جامع في الانتخابات مفاجئة تمامًا، إذ جرت بدون رقابة دولية، وبإشراف رمزي من الاتحاد الأفريقي،وسط انقطاع كامل للإنترنت والاتصالات الدولية، ومع إغلاق الحدود البرية للبلاد.

وقد وُصفت خسارة جامع لصالح رجل الأعمال «آدم بارو» بأنها مفاجأة لا تقل في غرابتها عن وصول إمبراطور العقارات الأمريكي «دونالد ترامب» إلى البيت الأبيض، فبارو الذي لم يُعرف عنه تاريخ أصيل في العمل العام، عمل كحارس عقار في لندن، قبل أن يعود إلى البلاد في 2006 ليؤسس شركته الخاصة.

وقد نادى الرئيس الجديد خلال حملته الانتخابية بحرية أكبر لوسائل الإعلام والمجتمع المدني، وتعهد بعودة بلاده إلى المحكمة الجنائية الدولية ورابطة الكومونويلث وإصلاح علاقاتها مع الغرب، وطالب باستقلال القضاء وهو ما أكسبه دعم أحزاب المعارضة، وقد شكل هذا الائتلاف المعارض التحدي الأكبر لحكم جامع، ويُعتقد على نطاق واسع أن الكتل الشبابية قد اختارت الانحياز لبارو بسبب السأم من الفشل الاقتصادي الذريع الذي تميزت به سنوات حكم جامع، وفور إعلان فوزه اعتبر بارو أن هذا الخبر يمثل مقدمات لـ «آمال جديدة» تنتظرها البلاد.


القذافي وجامع: وجهان لعجائب واحدة

http://gty.im/468300135

إن كان لنا أن نطلق التشبيهات، فإن الرئيس «يحيى جامع» كان هو الشبيه الأصغر للرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، لا من حيث طول مدة الحكم ونمط السلطة الديكتاتوري فقط، بل كذلك بما ارتبط بالرجل من عجائب وطرائف قل أن يجود بمثلها في ميادين السياسة والحكم إلا القذافي نفسه.

جاء الرجل إلى السلطة بانقلاب عسكري في العام 1994، وكما فعل القذافي قام جامع بترقية نفسه من رتبة «ملازم» إلى رتبة «عقيد»، واعتبر نفسه «منقذًا ومخلصًا لغامبيا من حالة الفوضى».

ولئن كان القذافي قد أسبغ على نفسه أوصافًا إمبراطورية من قبيل «عميد الحكام العرب» و«ملك ملوك أفريقيا»، فإن جامع لم يكن أقل منه إعجابًا بنفسه، إذ يصفه موقع الرئاسة الغامبية بـ «فخامة رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة، الشيخ البروفيسور الحاج الدكتور، قاهر النهر، وناصــر الدين يحيى عبد العزيز جيموس جونكونغ جامي».

وكلا الرجلين قد حكما بلديهما بقبضة من حديد، إلا أنهما كذلك قد ادعيا أنهما يطبقان الديمقراطية أكثر من الغربيين أنفسهم، فالقذافي قد اعتبر أن الديمقراطية الحقيقية تعني «الدهماء على الكراسي»، وأن أفضل تمثيل لها هو المؤتمرات واللجان الشعبية التي أسسها، كذلك جامع قد اضطر في أعقاب تظاهرات للمعارضة إلى الحديث عن «نموذجه الخاص للديمقراطية» قائلاً:

أنا هـو أفضل ديمقراطي حتى من النظام البريطاني مجتمعًا، وأود أن أكرر هنا: أنا لا أتودد للغرب.

والرجلان قد عملا دومًا على التحقير من معارضيهما، ففي حين وصف القذافي المتظاهرين ضده بالـ «الجرذان»، فقد وصف جامع معارضيه بـ«طفيليات الشر»، في أعقاب محاولة انقلابية تعرض لها في 2014.

أُحذّر طفيليات الشر المدعوة معارضة: إذا كنتم ترغبون في زعزعة استقرار البلاد، فأنا سوف أدفنكم تحت تسعة أقدام سحيقة ولن يكون ساعتها بمقدور دولة غربية مهما كانت أن تنطق بكلمة واحدة.

وجامع -كما القذافي- قد كان يروق له الظهور بمظهر المعادي للاستعمار والتدخل الأجنبي، وله صولات وجولات في الهجوم على الغرب، وفي العام 2013 قرر سحب بلاده من «رابطة الكومنولث» التي تضم 54 دولة من المستعمرات البريطانية السابقة، معتبرًا الرابطة «استعمارًا جديدًا لأنها ترفض خطط الهيمنة الغربية على جميع دول العالم النامي»؛ مما جعل الخارجية البريطانية تأسف لهذا القرار. وبعد مرور عام على ذلك، قرر جامع عام 2014 حظر اللغة الإنجليزية كلغة رسمية، معتبراً إياها «إرثًا استعماريًا».

ومثل القذافي الذي كان يعتبر نفسه «إمامًا للمسلمين»، فقد فاجأ جامع العالم عام 2015 بإعلان تحول بلاده إلى «جمهورية إسلامية»، متعهدًا بأن يستمر معتنقو الديانات الأخرى -تبلغ نسبة المسلمين في البلاد 95%- في ممارسة شعائرهم بحرية.

تمشيًا مع الهوية والقيم الدينية للبلاد، أعلن غامبيا دولة إسلامية، ونظرًا لأن المسلمين يمثلون أغلبية في البلد، لا تستطيع غامبيا مواصلة الإرث الاستعماري.

وقد عُرف عن جامع رفضه الشديد للانتقادات الدولية بشأن الأوضاع الحقوقية في بلاده، وله العديد من التصريحات النارية التي لا يقيم فيها وزنًا للسياسة بشأن ذلك، وقد قال إنه «فخور» بأن يوصف بأنه «ديكتاتور» من قبل الغربيين «الذين اعتادوا على قادة أفارقة خانعين» معتبرًا أنه «ديكتاتور تنمية».

وحين طالب الأمين العام للأمم المتحدة «بان كي مون» و«منظمة العفو الدولية» بإجراء تحقيق بخصوص مقتل المعارض سولو سيندينغ في الحجز،رد بغضب:

بإمكان بان كي مون ومنظمة العفو الدولية أن يذهبا للجحيم. من هما ليطالبا بذلك؟
أين هي المشكلة؟، الكثير من الناس يموتون في الحجز أو أثناء الاستجواب، هذا أمر شائع. ولأجل شخصٍ واحد يريدون تحقيقًا؟، لا أحد يملي علي ما أفعل في بلادي.

كما استمر جامع في خطواته المثيرة للجدل، حين قرر سحب اعتراف بلاده بالمحكمة الجنائية الدولية؛ لأنها «تمارس الاضطهاد ضد الأفارقة، وخصوصًا ضد قادتهم».

ولئن كانت مواهب وإبداعات القذافي قد ظهرت خارج ميدان السياسة إلى ميدان الفكر والأدب، فصاغ «الكتاب الأخضر» الذي يعرض فيه خلاصة فلسفته ووجهات نظره في الحياة، بل وذهب إلى صياغة نصوص أدبية وقصصية، فجامع كذلك قد رأى في نفسه ما هو أكثر من رئيس، فهو طبيب وعالم،فأعلن في عام 2007 أنه قد توصل إلى طريقة لعلاج الإيدز بالأعشاب الطبيعية، كما ادعى كذلك معرفة واسعة بطرق العلاج العشبية التقليدية، وخصوصًا علاج الربو والصرع.

وكلا الرجلين قد انتهى حكمهما بطريقة درامية مفاجئة، فالقذافي قد انتهى به المطاف مقتولاً على يد معارضيه عقب اندلاع الثورة الليبية بعد أن كان حكمه في أوج استقراره، وجامع قد انتهى حكمه الذي استمر اثنين وعشرين عامًا، حكمهم بالحديد والنار، بطريقة مفاجئة وغريبة لم يكن يتوقعها أحد، ولعلها لم تكن تراوده في أغرب كوابيسه؛ إذ نادرًا ما يرحل الديكتاتور بالصندوق.