«الدفاع عن النفس الاستباقي»، استخدمت إسرائيل هذا الادعاء على مدار 50 عاماً لتبرير حربها العدوانية التي شنتها على كل من مصر وسوريا والأردن.

وحاولت خداع المجتمع الدولي لتُرسخ في وعيه الجمعي أن حرب 1967 (حرب الأيام الستة عند إسرائيل) كانت كما حرب 1948 (النكبة)، حرب دفاعية ضد «أعداء»، أرادوا إنهاء الوجود الإسرائيلي اليهودي تماماً من فلسطين.

ولابد أن نشير هنا، فلم ينته أن ازدهار دراسة العلوم الإنسانية في إسرائيل، قد منحها القدرة على استخدام العلم في ضبط وترويج ادعاءاتها التاريخية. ففي إسرائيل، تنشط الكتابات التاريخية، وتُمنح مكانة خاصة. كما أن الإفراج الدوري عن الوثائق والمستندات الحكومية، وإتاحتها للاطلاع، ساعد المؤرخين الإسرائيليين كثيراً على تطوير علم التأريخ هناك.

وعلى العكس يعاني التأريخ العربي، والمصري خاصة، من رواسب الثقافة السياسية السلطوية المُسيطرة على مجتمعاتها، ليُكتب التاريخ في ظل الحاكم، وتظل الوثائق والمستندات الحكومية حبيسة الأدراج، عليها عشرات الأقفال البيروقراطية والأمنية.

لذا، نادراً ما نجد كتابات تاريخية مصرية أو عربية جادة قادرة على مناطحة الأكاديمية الإسرائيلية، وتشريح ادعاءاتها التاريخية والرد عليها، لكن يمكن أن نجد بعض الكتابات الأجنبية التي تبنت هذا الاتجاه، انتصاراً للعلم والتاريخ.


حرب وقائية

في ديسمبر من عام 2012، أصدر «جون كويغلي»، أستاذ القانون الدولي في جامعة أوهايو الأمريكية، كتابا جديدا بعنوان «حرب الأيام الستة والدفاع الإسرائيلي عن النفس»، لدراسة أحداث حرب 1967 مرة أخرى بعمق، ومدى مصداقية مبدأ «الدفاع عن النفس» الذي تبنته إسرائيل في حربها الوقائية، والذي حاز على مصداقية العالم نتيجة ترتيب الأحداث على النحو الذي جرى حينئذ.

وتأتي هذه المحاولة من جانب البروفسور كويجلى عقب الإفراج عن الوثائق التي رُفعت عنها في السنوات الاخيرة من جانب حكومات فرنسا وروسيا وبريطانيا والولايات المتحدة، والتي شاركت جميعاً في مراقبة الصراع المتصاعد حينئذ بين سوريا ومصر وإسرائيل.

يقول كويغلي إن العديد من المتخصصين في القانون الدولي قد تجاهلوا ببساطة الوثائق السرية التي تم الإفراج عنها، والتي قوضت تماماً ادعاء إسرائيل بالدفاع عن النفس. حيث جاء قرار إسرائيل بغزو شبه جزيرة سيناء ليس لأنها شعرت بالتهديد، ولكن لأنها رأت فرصة تاريخية لتدمير الجيش المصري. وتجاهل هذه الحقيقة، جعل القانون الدولي يرفض وصف حرب إسرائيل بأنه «عمل عدواني».

إن إرث حرب 1967 لم يكن مجرد استعمار صهيوني موسع لفلسطين، بل إنه تجربة عملية على كيفية قيام الأطر القانونية الدولية بإخفاء الحروب العدوانية خلف ستار الدفاع عن النفس. رغم أن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لا يسمح لأي دولة بالقيام بعمل عسكري إلا في حالة تعرضها لهجوم فعلي.

وجدير بالذكر أن مكاسب إسرائيل العسكرية من حرب 1967، قد منحها موقع قوة فيما يسمى بـ«مفاوضات السلام مع الفلسطينيين». فخلال المحادثات التي أدت إلى اتفاقات أوسلو لعام 1993، لم تسمح إسرائيل بإجراء أي نقاش حول احتلالها للضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) وغزة ومرتفعات الجولان السورية. كذلك ضمنت إسرائيل – عبر هذه الحرب – أن الفلسطينيين سيكونون دائماً هم الطرف الأضعف في مفاوضاتهم الثنائية.

ويُذكر أنه بعد محادثات كامب ديفيد (2) عام 2000، قال إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك: «في عام 1967، ورغم أننا من أطلقنا الطلقة الأولى، رأى العالم وكأننا نحاول تحرير أنفسنا من قبضة جيراننا، وتمتعت حربنا بشرعية واسعة».

وما يلفت الانتباه، هو أن عدداً من المسئولين الإسرائيليين قاموا صراحةً بالاعتراف بمسئولية إسرائيل عن بدء الحرب؛ فعلى سبيل المثال، اعترف مناحم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، حين كان يدافع عن غزو إسرائيلي للبنان في عام 1982 قائلاً:

في يونيو/حزيران 1967، كان لدينا اختيار مرة أخرى، حيث إن تحضيرات الجيش المصري في سيناء لم تكن لتثبت أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر كان على وشك مهاجمتنا. ويجب أن نكون صادقين مع أنفسنا. نحن من قررنا مهاجمته.

وبالمثل، اعترف مايكل بار زوهار، المتحدث باسم وزارة الدفاع الإسرائيلية عام 1967، بأن «مصر لم تكن تستعد لشن حرب».

ويمكن القول إن الصورة التي تتضح من تصريحات القادة العسكريين الإسرائيليين (إسحاق رابين، وآرييل شارون، وماتي بيليد، وآخرون) أن جمال عبد الناصر ترك الجيش المصري – بتهور – مكشوف ومُعرضاً للجهوم في سيناء، مما أتاح الفرصة لإسرائيل لتدميره، وهي فرصة سعى الموظفون العامون الإسرائيليون بشغف لاستغلالها.

وتحدث المؤلف عن معضلة إسرائيل في أن الولايات المتحدة والحكومات الغربية أبلغاها بضرورة عدم الهجوم أولاً. وتمثل الحل في اقتراح «إيغال آلون»، نائب رئيس الوزراء حينئذ، في الادعاء بأن مصر قد هاجمت للتو قبل الحرب مباشرة، ووافق وزير الدفاع موشي دايان قائلاً: «يجب علينا أن نكون الضحايا خلال الأربع والعشرين ساعة الأولى». وبالفعل زعمت إسرائيل أن المدفعية المصرية قصفت عدة بلدات حدودية إسرائيلية، وأن إسرائيل كشفت حركة الجيش المصري والطائرات الحربية باتجاه إسرائيل. وبالطبع لم يكن أياً من هذه المعلومات صحيحاً.

كتاب حرب الأيام الستة

نظرية المؤامرة الإسرائيلية

عام 2014، قرّر أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد «آفي شلايم»، (الذي وُلد في بغداد لوالدين عراقيين يهوديين، وترعرع في إسرائيل)، إصدار طبعة جديدة ومُنقحة من كتابه الشهير «الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي»، والذي صدرت طبعته الأولى عام 1999.

وثّق شلايم في كتابه أبعاد نظرية المؤامرة التي صاغتها إسرائيل ضد مصر، بداية من حرب 1956، حتى حرب 1967، ليصبح شلايم بذلك من القلائل الذين أعطوا مصداقية لنظريات التآمر في التاريخ.

عام 1956، تآمرت كل من بريطانيا وفرنسا مع إسرائيل لبدء حرب قناة السويس، عقاباً لعبد الناصر على تأميم القناة ودعم المقاومة الجزائرية، وذلك بهدف استعادة السيطرة على القناة، وتدمير عبد الناصر وفكرة القومية العربية.

كان على إسرائيل أن تشرع في غزو القناة بحجة التحسب لهجوم مصري، وهو ما يتبعه تدخل فرنسي بريطاني لتأمين المنطقة واستعادة الاستقرار. ولم يكن رئيس الوزراء الاسرائيلي «ديفيد بن غوريون» يركز إلا على التخلص من منافسه الإقليمي في مصر.

وجدير بالذكر، أنه قبل حرب السويس، وفي مؤتمر سري عُقد في مدينة «سيفرس» خارج باريس، تم تفكيك المؤامرة، حيث اقترح بن غوريون خطة لإسرائيل الكبرى، وإعادة تنظيم شاملة في الشرق الأوسط، كما لو كان يتفاوض على اتفاق سايكس بيكو جديد، وذلك عن طريق تفكيك الأردن؛ بإعطاء العراق الضفة الشرقية لنهر الأردن، وإسرائيل الضفة الغربية. مع سيطرة إسرائيل أيضاً على جنوب لبنان، حتى نهر الليطاني، وتحول لبنان إلى دولة مسيحية.

وقد اتضحت ملامح هذه المؤامرة عام 1996، بعد الكشف عن «بروتوكول سيفرس»، مما أدى إلى تقويض السرد الإسرائيلي تماماً بأنه الحرب على مصر كانت رداً على تهديد وجودي وشيك لإسرائيل.

أحبطت الجهود الأمريكية المخطط الإسرائيلي عام 1956، ولكن ظلت الفرصة سانحة لتنفيذ المُخطط ذاته عام 1967، حيث اعترف مناحم بيغن أن حرب 1967 كان «حرب الاختيار».

ويذهب شلايم إلى أن إسرائيل بعد عام 1967 لم تصبح سوى قوة استعمارية، بعد أن كانت دولة «إثنوقراطية»، ديمقراطيتها معيبة.

كتاب الجدار الحديدي


الانتصار الملعون

كتاب الجدار الحديدي
أهارون بريجمان، هو عالم سياسي بريطاني إسرائيلي، يعمل مدرسا في قسم دراسات الحرب في «كلية كينغز» في لندن. خدم في الجيش الإسرائيلي خلال غزو لبنان عام 1982، إلا أنه أعلن خلال الانتفاضة الأولى رفضه الخدمة في الأراضي المحتلة، وذلك في مقابلة مع صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية. ثم هاجر إلى المملكة المتحدة – تجنباً للسجن – حيث حصل على درجة الدكتوراه.

أصدر بريجمان عام 2014 كتابه «النصر الملعون: تاريخ إسرائيل والأراضي المحتلة»، ويكشف الكتاب عن عدد كبير من التسجيلات السرية التي قامت بإعدادها إسرائيل، بين كلينتون وقادة سياسيين.

ويعتقد بريجمان في كتابه أن الانتصار الملعون هو أول تاريخ زمني لاحتلال إسرائيل للضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وغزة ومرتفعات الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية بعد حرب 1967.

يتبنى بريجمان في كتابه منظور الصهيونية الليبرالية، وهو أحد روافد الصهيونية، والتي تدعو إلى إنهاء احتلال الضفة الغربية وغزة، وتؤيد قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة يهودية، وتدعم إسرائيل حين تواجه أخطارا، وقد حاول «ليفي أشكول» – رئيس وزراء إسرائيل الأسبق – تبنيها سياسياً عام 1963، قبل أن تأتي حرب 1967، وتقضي على هذا الاتجاه.

ومن هذا المنطلق، فقد وصف بريجمان نكبة 1948، التي شهدت طرداً قسرياً للفلسطينيين من أراضيهم، بأنها «حرباً أهلية»، ويشير إلى أن إسرائيل ظهرت – فقط – كبلد استعماري بعد حرب 1967.

ويوضح كيف أن إسرائيل قد نفذت بدقة الركائز الرئيسية الثلاث للاحتلال بعد عام 1967؛ من خلال استخدام «القوة العسكرية الباطشة» و«القوانين واللوائح البيروقراطية» و«المستوطنات»، وخلال ذلك تم سحق كل ما يتعلق بقواعد القانون الدولي، وحقوق الإنسان الفلسطيني.

وفي فصله الختامي، يميز بريجمان بين المستعمرين «الجيدين» (البريطانيين) والمستعمرين «السيئين» (الإسرائيليين)، مؤكداً أن الاحتلال الإسرائيلي في مرحلة ما بعد 1967 سينتهي حتماً، لأن التاريخ أثبت أن الاستعمار لا يدوم.

كتاب الانتصار الملعون