في إبريل/نيسان الماضي، أصدر المكتب الإحصائي التابع للحكومة الإسرائيلية، تقريره السنوي المرافق لإحياء يوم النكبة، وتضمّنت البيانات لأول مرة خارطة لـ «إسرائيل» وقد تمدّدت لتغطي كلًا من الضفة الغربية، قطاع غزة ومرتفعات الجولان السورية. واعتبر التقرير أن عدد سكان «إسرائيل» من العرب واليهود هو 8.7 ملايين نسمة؛ وهو رقم إشكالي إذ يعني حساب السكان داخل الخط الأخضر إلى جانب مستوطني الضفة الغربية والجولان المحتل، مع استثناء السكان الفلسطينيين في كل من الضفة وغزة.

بنظرةأولى؛ قد تبدو هذه البيانات كجزء من البروباغندا الإسرائيلية للإيهام بوجود أغلبية يهودية تعيش داخل حدود الدولة، لكن نظرة متأنية تؤشر إلى جملة من الجهود الإسرائيلية الدؤوبة التي تمهّد الطريق نحو تحقيق مشروع اليمين الإسرائيلي الموسوم بمشروع الدولة اليهودية الكبرى، وما هذه الخريطة إلا حلقة مفردة في سلسلة آخذة بالتشكل.


مشروع اليمين الصهيوني

18763051_1511813682183551_1808649313_n

نما نفوذ اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، بعد تحلل سيطرة اليسار التقليدي وأحزاب الوسط التي حكمت دولة الاحتلال في عقود نشأتها الأولى. ومنذ تولي رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو السلطة في عام 2009، انسحبت الخريطة السياسية نحو اليمين واليمين المتطرف، وانعكست الامتيازات الاجتماعية والمحلية الممنوحة لفئة المتدينين المتطرفين (لا سيما المستوطنين) لتجد صداها في الحياة السياسية، لا سيما بعد الائتلاف الحكومي بين حزبي الليكود (يمين) والبيت اليهودي (يمين متطرف) منذ مايو/أيار 2015.

وخلالالعقد الأخير تسارع الاستيطان في الضفة والقدس على وجه الخصوص بصورة غير مسبوقة، وصادق الكنيست والحكومة على عشرات القوانين العنصرية الموجّهة في مجملها ضد الفلسطينيين، مثل قوانين: سحب المواطنة، قانون النكبة، قانون تمويل الجمعيات، قانون دائرة الأراضي والتخطيط، قانون حظر حركة المقاطعة، قانون سلطة تطوير النقب، قانون التسوية، قانون منع الأذان وأخيرًا قانون «الدولة القومية للشعب اليهودي».

والحقيقةأن هذه القوانين وإن كانت متباينة في تفاصيلها إلا أنها تشترك في الإطار العام بتوطئتها لمشروع يتبناه اليمين المتطرف، وتدعمه شرائح واسعة من حزب الليكود الحاكم، ويتمثل بالتحول نحو الدولة اليهودية الكبرى التي تضم إلى حدود إسرائيل كلًا من الضفة الغربية وشرقي القدس ومرتفعات الجولان، بينما تسعى للتخلص من عبء سكانها الفلسطينيين عبر مقترحات متنوعة يتمثل أكثرها تطرفًا بالترانسفير نحو الأردن ومصر، أو الفيدرالية معهما، أو بإعادة إنتاج سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية ضمن صفقة سلام إقليمية، تضمن تعزيز أمن الاحتلال وتُريحه من عبء منح المواطنة لقرابة 5 ملايين فلسطيني في الضفة وغزة.

تتخذالقدس في مشروع الدولة اليهودية الكبرى أهمية مركزية، وتأتي بمفهوم القدس الكبرى الموحدة التي تضم غربي المدينة (الذي احتل عام 1948) وشرقيها (المحتل عام 1967) بما يشمل البلدة القديمة حيث يقبع المسجد الأقصى وكنيسة القيامة. وقد اتسمت احتفالات إحياء الذكرى الخمسين لاحتلال شرقي القدس بخطاب حكومي غير مسبوق كان شعاره «تحرير القدس» لا توحيدها كما دأبت العادة، وسمّى المدينة بالعاصمة الأبدية والموحدة لإسرائيل، بعد أن كان هذا الشعار مقتصرًا على الدعاية الدينية والثقافية، كما حرص نتنياهو على عقد اجتماعه الحكومي داخل نفق الحائط الغربي الواقع أسفل المسجد الأقصى، في رسالة ذات دلالة واضحة.


تبييض الاستيطان ويهودية الدولة

18788004_1511813695516883_840831783_n

ليسمن المبالغة القول إن الحكومة الإسرائيلية الحالية هي أكثر حكومات الاحتلال تطرفًا، فعدد من رموزها من أمثال الوزيرين ميري ريغيف (ليكود) وإيليت شاكيت (بيت يهودي) تعهدا بتمرير قوانين تلزم الحكومات اللاحقة بعدم توقيع أية تسوية تمنح دولة فلسطينية. أما زعيم البيت اليهودي نفتالي بنت فقد اعتاد أن يصرّح للصحافة الأجنبية بأن يهودا والسامرا (الضفة بالتسمية اليهودية) هي وعد الرب لليهود وأن من يطالب إسرائيل بالانسحاب منها متنكّر للكتاب المقدس.

وتكتسبالضفة -وليس فقط القدس- أهمية مركزية في عقيدة اليمين، وتشكل مستوطناتهما محضنًا لأكثر من 750 ألفًا من اليهود المتدينين الذين انتشروا كسرطان داهم خلال العقدين الأخيرين، وشهدت مراكز انتشارهم معدلات نمو مرتفعة نظرًا لسخاء الامتيازات الممنوحة، إلى جانب ارتفاع معدلات الإنجاب لدى نساء المستوطنين. وبذا أصبح هؤلاء الحيلة التي من خلالها تجتاح إسرائيل الخط الأخضر بجحافل من البؤر والتجمعات الاستيطانية التي تنتشر على 60٪ تقريبًا من مساحة الضفة.

ومنأجل تثبيت خارطة الاستيطان الحالية، صادق الكنيست مؤخرًا على قانون تبييض المستوطنات، والذي يمنح الاعتراف بالبؤر العشوائية التي بناها مستوطنون على أراضٍ ذات ملكية خاصة للفلسطينيين، ويمنع أصحاب الأرض من اللجوء للمحكمة العليا الإسرائيلية، وكذلك يفتح الباب لنهب المزيد من الأراضي الخاصة عبر حماية الأفراد والمؤسسات التي تلجأ إلى ذلك من أي تبعات قانونية.

احتاجقرار تبييض المستوطنات إلى عام كامل ليتم مصادقته بالقراءة النهاية في فبراير/شباط الماضي، وعلى ذات المسار يتم الإعداد اليوم لقانون دستوري يتعلق بالتحول نحو الدولة اليهودية، وهو الهدف الذي أصبح هاجسًا للزعماء الإسرائيليين خلال السنوات الأخيرة، وتم إقحامه إلى متطلبات السلام مع الفلسطينيين والعرب. ويهدف هذا المشروع إلى جعل اليهودية هي القيمة العليا في الدستور، والمرجعية القانونية والمعنوية الحاسمة في الدولة؛ مما يعني رفع صفة اليهودي فوق صفة المواطن، وجعل غير اليهودي طارئًا على تعريف الدولة لذاتها ولمجالها العام؛ وبالتالي التنكر للحقوق القومية لغير اليهود. وقد صادق الكنيست في العاشر من مايو/أيار بالقراءة التمهيدية على مشروع هذا القانون المسمى بـ «الدولة القومية للشعب اليهودي».

محوالخط الأخضر إذن والتحول نحو الدولة اليهودية هما أبرز ملامح مشروع اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل، والواضح أن مثل هذه الخطة لا تلقى معارضة حاسمة من الإدارة الأمريكية التي تفتقر الكثير من الدراية بشؤون المنطقة، وتكفي الإشارة هنا إلى تصريح هام أدلى به نتنياهو لوكالة الأنباء الفرنسية في فبراير/شباط الماضي قال فيه إن ترمب أعطاه ضوءًا أخضر للمضي قدمًا في مشروع تبييض المستوطنات، فيما لا يجد الاحتلال مواجهة تذكر على الصعيد العربي والاسلامي؛ بعد تركز الاهتمام على مواجهة طهران، والاستعداد للانخراط في تحالف يضم إسرائيل لمواجهة الخطر الإيراني.


أكثر ما تخشاه إسرائيل

فيالمقابل؛ خلق جنوح إسرائيل نحو اليمين المتطرف تداعيات غير مسبوقة على صورتها في العالم، وفي تقرير مسرب أعده معهد ليوت ورابطة مكافحة التشهير في إسرائيل، تم الكشف عن استياءٍ عارم من إلغاء نتياهو لقاءً مجدولاً مع وزير الخارجية الألماني سيغمار غابرييل على خلفية نية الأخير زيارة جمعيات حقوقية إسرائيلية، وحذر التقرير من أن تل أبيب صارت تنتهج لهجة حادة ضد النقد الناعم الذي يأتيها من الأصدقاء بطريقة تدفعهم للابتعاد والانحياز إلى المعسكر المناهض لإسرائيل. لكن الأخطر في التقرير المسرب كان ما انعكس من هاجس حيال «النمو الهائل والنجاحات الكبيرة» -وفق توصيفه- لحركة التضامن الدولي مع فلسطين لاسيما نشطاء BDS حول العالم.

وطرحالتقرير ما أسماه تحدي 20X والذي يعكس ورطة قيام الجماعات المؤيدة لإسرائيل بزيادة إنفاقها عشرين ضعفًا خلال السنوات الست الماضية على نشاطات لتحسين صورة الدولة، إلا أن ملايين الدولارات التي تم صرفها لم تفضِ إلى نتيجة؛ حيث واصلت حركة BDS اجتياحها لأحزاب اليسار الأوروبية وانتقلت إلى الولايات المتحدة وبقع أخرى في العالم، وباتت تهدد إسرائيل أكثر شيء بالمقاطعة الصامتة التي تتخذ فيها الشركات والأفراد قرارات غير معلنة بعدم التعامل مع إسرائيل إما دعمًا للفلسطينيين، أو تجنبًا لأية «مشكلات أو انتقادات غير ضرورية».

وإنكانت المقاطعة وسحب الاستثمارات، سواء بصورة معلنة أم ناعمة، تشكل تهديدًا اقتصاديًا لإسرائيل، فإن البعد المعنوي الذي تكتسبه هذه الخطوات يفوق الأثر الاقتصادي بمراحل. وتكشف وثيقة لوزارة الشؤون الإستراتيجية عن مشروع باسم BRAND ISRAEL تموّله الحكومة بأكثر من 120 مليون دولار منذ عام 2006 يهدف لتحسين الصورة الناجمة عن الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي، عبر التركيز على زوايا بعيدة عن الدين والسياسية مثل: السياحة والآثار والفنون والتكنولوجيا في سبيل البحث عن مشتركات إنسانية مع بقية دول العالم، كما يسعى إلى ابتعاث طلبة إسرائيليين إلى كبريات الجامعات الأوروبية والأمريكية لتشكيل لوبيات طلابية تتصدى لدعاية حركة المقاطعة التي تتخذ من الجامعات منطلقًا حيويًا لها، ويركز منذ العام 2010 على التصدي لدعاية ربط إسرائيل مع نظام الأبارتايد البائد في جنوب إفريقيا.

تقيّمتقارير الدعاية الإسرائيلية حال السنوات الست الماضية بالإخفاق والتراجع، وتدعو للابتكار والإبداع في تطوير خطاب يروّج لدولة الاحتلال بطريقة جذابة ومقنعة، أسوة بدعاية حركة المقاطعة وفق ما يصفها تقرير معهد رويت، لكن الدعاية الإسرائيلية في الوقت نفسه تُخفق في الإجابة على سؤال هام يطرحه تحدّي الدولة اليهودية التي يسعى نتنياهو وشركاؤه لتحقيقها، فلا أحد في إسرائيل لديه جوابًا مقنعًا لحقيقة أنه لا يمكن أن تكون هناك دولة يهودية وديمقراطية في آن واحد، إذ إن يهودية الدولة تساوي بالضرورة انتهاكاتٍ وإقصاءً جسيمًا ومستمرًا لملايين الفلسطينيين سواء داخل الخط الأخضر أو في الضفة وغزة.

والحقيقةأن المسار الوحيد الذي تسلكه إسرائيل للخروج من هذا المأزق هو تركيزها على تعريف أي محاولة لنقد المطالب السياسية للصهيونية بأنها معاداة للسامية، تتطلب نزع الشرعية عن المنتقدين. وبينما تتلبس الصهيونية اليوم بمشروع الدولة اليهودية، فإن إستراتيجية إسرائيل في التصدي لناقدي يهودية الدولة هو نزع الشرعية عنهم وتشويههم، وهي إستراتيجية تظهر حتى في التعامل مع السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس الذي يرفض الإسرائيليون الجلوس معه دون اعترافه بيهودية الدولة، على الرغم من الخدمات الجليلة التي تقدمها سلطته للاحتلال.

ويبقىالتحدي اليوم أمام النشطاء والمجموعات الداعمة لفلسطين، أن تنجح في نقاش تحول إسرائيل نحو الثيوقراطية، مع عدم عزل هذه السردية عن سياقها بكون إسرائيل دولة احتلال (في المقام الأول)، تمارس جريمة الفصل العنصري أو الأبارتايد إلى جانب جملة من الجرائم الأخرى (في المقام الثاني)، وتجنح نحو المزيد من التطرف والتمييز ضد الفلسطينيين بتعريف ذاتها بالهوية الدينية ثالثًا.

المراجع
  1. This Is How Israel Inflates Its Jewish Majority read more: http://www.haaretz.com/opinion/editorial/1.786381
  2. يهودية لا ديمقراطية: حول سن قانون الدولة القومية للشعب اليهودي
  3. Israeli minister: The Bible says West Bank is ours
  4. تبييض الاستيطان وتصفية الضفة في عهد ترمب
  5. Leaked report highlights Israel lobby’s failures
  6. Behind Brand Israel: Israel’s recent propaganda efforts