يُطلق عليها المثقفون العرب «خطيئة أوسلو» أو «الاتفاق الكارثة». إنه اتفاق أوسلو، الذي وقّعته منظمة التحرير الفلسطينية -منفردة- مع إسرائيل في 13 سبتمبر/أيلول، في حديقة البيت الأبيض، وذلك بعد ما يُقارب العامين من المفاوضات السرية في العاصمة النرويجية (أوسلو).

مثّل هذا الاتفاق نقطة تحوّل في مسار القضية الفلسطينية، حيث اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل كـ «دولة» على 78% من أراضي فلسطين (أي كل فلسطين ما عدا الضفة الغربية وقطاع غزة). وفي المقابل اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية على أنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، ومنحتها حق إقامة حكم ذاتي على الأراضي التي تنسحب منها في الضفة الغربية وغزة.

يقوم المفكر الفلسطيني منير شفيق في كتابه «اتفاق أوسلو وتداعياته»، بتقديم قراءة مُعمّقة للسياق السياسي لتوقيع اتفاق أوسلو، ووضعها على الخريطة الزمنية للقضية الفلسطينية، فحلّلها في ضوء الخبرات التاريخية، ومدى انسجامها مع تطور الفكر والسلوك السياسي الفلسطيني. وبالتالي، وفي ضوء تحليله للمنطلقات الفكرية الإسرائيلية والأمريكية في تعاطيهم مع الاتفاق، تمكّن من رسم خريطة المستقبل الفلسطيني فيما بعد أوسلو، وربما يندهش القارئ حينما يقرأ تلك التوقعات، التي نراها ماثلة أمامنا حاليًا، والتي كتبها شفيق عام 1994، على هيثة مقالات منفصلة، تم تجميعها في كتابنا هذا.

سياق أوسلو والاتفاق الأسوأ

شكّل اتفاق أوسلو وما ترتّب عليه من اتفاق اقتصادي في باريس واتفاقات القاهرة المتعلقة بالحكم الذاتي، انعطافًا أساسيًا في المسار الذي خطّته فتح والثورة الفلسطينية، وهو الانعطاف الكبير والخطير الثالث، بعد الانعطاف الذي حققه تبني برنامج النقاط العشر وقرارات الرباط الخاصة باعتبار منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ثم الانعطاف الذي سجّله المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الـ 19 والـ 20، لا سيما المشاركة في مؤتمر مدريد (1991) والمفاوضات الثنائية.

وقد لخّص شفيق اتفاق أوسلو بما يلي: بقاء الاحتلال الإسرائيلي والسيادة الإسرائيلية على فلسطين كلها، بما في ذلك قطاع غزة وأريحا، أمّا الانسحاب من القطاع وأريحا وإقامة نوع من الحكم الذاتي الانتقالي فهو يقتصر على انسحاب الجيش من المناطق الآهلة بالسكان حيث الانتفاضة والمقاومة، وتسليم الأمن فيها للشرطة الفلسطينية. وبهذا يتم إعفاء الاحتلال من الاصطدام بالفلسطينيين مع بقائه مُسيطرًا على الوضع عمومًا، ومُمسكًا بكل النقاط الإستراتيجية على كل الحدود وكل النقاط المشرفة وفي الطرقات الواصلة بين المدن والقرى.

وقد منح الاتفاق جيش الاحتلال الإسرائيلي حق العودة إلى احتلال كل منطقة سكانية تحت الحكم الذاتي إذا فشل الأخير في المحافظة على أمن الاحتلال فيها ومنها. أمّا بخصوص تسليم إدارة الحكم الذاتي شئون التعليم والصحة والبلديات والسياحة، فهو لا يعدو كونه إعفاءً للاحتلال من الإنفاق على تلك المجالات التي هي الجانب السلبي بالنسبة لكل احتلال.

فالكيان الفلسطيني الذي نتج عن اتفاق أوسلو يقوم أمنيًا تحت حماية جيش الاحتلال الإسرائيلي، واقتصاديًا هو ملحق بالمشاريع المشتركة مع الاحتلال، وسياسيًا فهو لا ينال شيئًا إلا بالتفاوض الثنائي (مختل القوة)، أي بموافقة القيادة الإسرائيلية.

لذلك، إذا ما تم النظر إلى الاتفاق نظرة متحركة لا سكونية، نجد أن الرغبات الإسرائيلية تتعدى ما تضمنه من تنازلات في الحقوق والأراضي، أو في الاعتراف بحق الوجود للعدو، أو التخلي عن الكفاح المسلح والانتفاضة، بل ترغب في إلحاق فلسطين بالكيان «الإسرائيلي»، فيكون في البداية إلحاقًا أمنيًا-اقتصاديًا، ثم يأتي الإلحاق السياسي-الثقافي لا محالة.

ورغم أن هذا يمثل خطرًا على الأمن القومي العربي في ذلك الوقت (التسعينيات)، إلا أن شفيق توقع أن يتم تعميم التجربة الفلسطينية على سائر الدول العربية، بحيث تتشجّع الأجنحة الطامعة في السلطة في كل نظام عربي، على إنزال السقف في العلاقة بالعدو إلى حدّ التعاون والتواطؤ، وربما العمالة.

ولم يرَ شفيق أنه كان هناك فرصة للخروج باتفاق فلسطيني-إسرائيلي حول الحكم الذاتي أقل سوءًا من الاتفاق الذي جرى عبر مفاوضات أوسلو. وهذا أمر أكّدته مسارات الأحداث في مرحلة ما بعد الاتفاق. وقد كان هناك ثمة عاملان متكاملان أخرجا اتفاق أوسلو:

  • الأول: إصرار إسرائيلي ودولي على صياغة اتفاق حول الحكم الذاتي وفقًا للشروط الإسرائيلية بالكامل.
  • الثاني: القبول الفلسطيني التدريجي بتلك الشروط. قبول امتزج بالوهن والعجز، حتى لو كان ذلك يعني التفريط في أعز الحقوق وأقدس القضايا والمصالح العليا الفلسطينية.

لذلك، اعتبر شفيق أن كل حديث عن كون اتفاق أوسلو خطوة في طريق تحقيق الأهداف الفلسطينية، حتى في حدودها الأدنى، هو حديث غير مدعوم بالحقائق التاريخية التي سبقت توقيع الاتفاق. فخط الأحداث يقول إن الرسائل التي تمت الدعوة من خلالها إلى مؤتمر مدريد عام 1991 كانت أفضل من أوراق المبادئ التي نُوقشت في جولتي المفاوضات التاسعة والعاشرة بعد ذلك، وكذلك كانت أوراق المبادئ التي تقدّم بها وزير الخارجية الأمريكي «وارن كريستوفر» عام 1993 أفضل من بنود اتفاق أوسلو ذاته.

وعلى ذلك، توقع شفيق أن تكون الخطوات التفاوضية التالية لأوسلو أكثر سوءًا، ومتضمنة لتنازلات فلسطينية أضخم وأكثر جوهرية.

وجهة النظر الإسرائيلية والتقييم الأمريكي

يرى شفيق أنه لا يمكن إدراك الأبعاد الحقيقية لاتفاق أوسلو من وجهة النظر الإسرائيلية ما لم نقرأ جيدًا آراء «شيمون بيريز» حول الدور الإسرائيلي، أو بمعنى أدق، ما يجب أن يصبح عليه الكيان الإسرائيلي في القرن الـ 21. فعند توقيع اتفاق أوسلو، كان بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي، ومهندس المفاوضات من الجانب الإسرائيلي، وكان يملك دون غيره من الساسة الإسرائيليين –حينئذ- مشروعًا إستراتيجيًا حول مستقبل «إسرائيل».

ارتكزت هذه الإستراتيجية على إعادة تموضع الجيش، وإعادة النظر في حجمه وما يستهلكه من الموازنة المالية، واستخدام ما يتم توفيره في خدمة بناء عملاق سياسي واقتصادي في المنطقة، حتى تصير «إسرائيل» القوة السياسية والاقتصادية النافذة إقليميًا، وربما دوليًا. وهذا ما يفسر الجوانب الاقتصادية في اتفاق أوسلو، التي وُضعت لتكون «مشروع مارشال» جديد يخدم مصالح إسرائيل الاقتصادية في المنطقة.

وقد توقع شفيق أن يكون اتفاق أوسلو نقطة مفصلية، تسعى بعدها إسرائيل والدول العربية إلى التطبيع، ما دامت أوسلو قد وفرت الغطاء اللازم لذلك، لتتحول إسرائيل إلى مركز استقطاب سياسي ونقطة يُستقوى بها في الصراعات العربية-العربية، والصراعات الإقليمية، وكذلك الصراعات الداخلية. ويساعد على ذلك الإستراتيجية الأمريكية (التي بدأت في التسعينيات) والتي جعلت من الاعتراف بإسرائيل واسترضائها مدخلًا للوصول إلى ما يُراد من أمريكا، أي صارت إسرائيل بمثابة مدير التشريفات الذي لابد من المرور به للوصول إلى البيت الأبيض.

وحول منهج بيريز في التعاطي مع المفاوض الفلسطيني خلال أوسلو (وهو يصلح لتفسير ما تلته من مفاوضات)، فيمكن تلخيصه فيما يلي:

للفلسطيني «الكرامة»، وللإسرائيلي «المعابر والحدود والطرقات والمستوطنات والسيادة والأمن».

وقد رأى بيريز أن هذا يلبي للطرفين حاجتهما، فالإسرائيلي شديد الحساسية بالنسبة إلى كل ما يتعلق بالأمن والحدود والسيطرة والأرض والسيادة والمستوطنات والمعابر والقدس، أمّا الفلسطيني –كما يشير بيريز- فشديد الحساسية بالنسبة للمظاهر والكرامة. فاتفاق أوسلو وما تبعه من اتفاقات ضمن أن يبقى الاحتلال على حاله، ولكن ضمن ترتيب يسمح ببعض المظاهر للفلسطينيين: علم فلسطيني، خاتم فلسطيني، بعض الموظفين الفلسطينيين عند هذا المدخل أو ذلك.

أمّا بخصوص التقييم الأمريكي للوضع الفلسطيني في مرحلة ما قبل أوسلو، والذي استمر إلى ما بعدها، فيشير شفيق إلى أن واشنطن ترى في الفلسطينيين الطرف الأضعف، وأنهم أبعد ما يكونون عن تحقيق أهدافهم، وبالتالي هم الخاسر الأكبر من استمرار الوضع الذي كانوا عليه قبل أوسلو، وبالتالي فهم سيربحون من أي تقدم تشهده عملية السلام.

وهذه القناعة الأمريكية تمت ترجمتها في رسائل مباشرة وغير مباشرة إلى الفلسطينيين، مفادها أن اقبلوا بأي شيء، وستكونون بهذا أكثر منْ يكسب لأنكم الخاسر الأكبر من استمرار الوضع الراهن، وهي قناعة تم إدخالها في العقل الفلسطيني المفاوض لينهزم منذ البداية، فيتنازل عن كل الحقوق الفلسطينية حتى في حدودها الدنيا التي يُطالِب بها، ويرضى بأي فُتات يُرمَى له، ثم يقنع نفسه أنه الكاسب الأكبر.

وبناءً على ذلك، صار سقف الموقف الأمريكي بالنسبة للحل المتعلق بالضفة والقطاع، هو حكم ذاتي محدود الصلاحيات جدًا بالنسبة للفلسطينيين، وبقاء يهودي في الضفة والقطاع، وبقاء للقوات العسكرية في كل النقاط التي تحقق السيطرة والأمن والعمق وعدم التطرق إلى موضوع القدس، وترك مسألة الاستيطان للتفاوض بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وتجنب بحث موضوع السيادة على الأرض ومصادر المياه، أي ارتهان الوضع لتعاون حتمي بين الطرفين، ثم ترك الوضع النهائي لمفاوضات المرحلة الثانية التي ستتلو المرحلة الانتقالية، دون أي ربط بين المرحلتين. ومن هنا يكون كل ما يطرحه المفاوض الفلسطيني خارج هذه الحدود، أو أعلى من هذا السقف، مجرد أماني لا علاقة لها بالإطار الذي دخلت فيه المفاوضات.

طغيان التكتيك وانتهاء هدف التحرير الكامل

رأى شفيق أن الساحة الفلسطينية بحاجة إلى امتلاك الوعي في مواجهة العدو، فعلى الرغم من التجربة الطويلة التي عاشتها الفصائل الفلسطينية، إلا أنها لم تخرج بالعِبر الكافية من تلك التجربة، ويمكن للمرء أن يُعدِّد سلسلة من الأخطاء على مدار سنوات الكفاح الماضية. فعلى سبيل المثال لم يتعلم الكثيرون من قادة العمل الفلسطيني التمييز بين الثوابت والمتغيرات، أو بعبارة أدق ما فتئوا يتركون أنفسهم على سجيّتها حين تبرز خلافات سياسية، وإذا بها تصبح قضية القضايا، وفوق كل القضايا، فتطغى على كل ما عداها، بل ولا يترددون في التضحية بالثوابت في سبيلها، وهذا ما يُسمى بلغة فن إدارة الصراع، جعل التكتيك يطغى على الإستراتيجية، أو بكلمة أخرى، التضحية بالكلي والعام والدائم، من أجل الجزئي والخاص والعابر.

لو عدنا بالذاكرة لعام 1974، يوم دخلت على الساحة نظرية تقسيم التحرير إلى مرحلتين: الأولى بإقامة سلطة وطنية على المناطق التي ينسحب منها الاحتلال، وتأتي الثانية بتحرير كامل التراب الفلسطيني بعد ذلك. فلم يمض حين من الدهر حتى توقف الحديث عن المرحلة الثانية (مرحلة التحرير الكامل)، أو صاروا يتحدثون عنها كأنها مرحلة مؤجلة إلى أجل مديد، لتصبح المرحلة الأولى (إقامة سلطة فلسطينية) هي الغاية المنشودة.

وإبان أوسلو، صارت المرحلة الأولى -ذاتها- مُقسمة إلى مرحلتين:

  • الأولى: تبدأ بإقامة حكم ذاتي، ولو ضمن المواصفات الأمريكية-الإسرائيلية.
  • الثانية: تُركت للمفاوضات التي تبدأ بعد العام الثالث من إقامة الحكم الذاتي، والتي بدورها انقسمت إلى أكثر مرحلة، لم تُحقِّق أي تقدم يُذكر.

وفي المحصلة لم يعد هناك دولة فلسطينية، وإنما «حالة فلسطينية» يُتفَق عليها من خلال المفاوضات، التي تكون فيها «إسرائيل» صاحبة اليد العليا. لنجد في النهاية أن الخطوات التكتيكية في معالجة إدارة الصراع قد أكلت الإستراتيجية الأولى (التحرير الكامل) تحت دعوى المرحلتين، ثم أُكلت الإستراتيجية الثانية (إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية قطاع غزة).

إن منظمة التحرير الفلسطينية -من وجهة نظر شفيق- قد أخطأت مرتين أساسيتين في إدارة الصراع:

  • الأولى، حين دخلت مشروع التسوية لا سيما تحت شعار: (إقامة كيان فلسطيني / سلطة حكم ذاتي / دولة)؛ لأن إقحام هذا الموضوع قبل الانسحاب الإسرائيلي وتفكيك المستوطنات وإنقاذ القدس، جعلت منه الموضوع الأساسي للمساومة، وذلك على حساب ثوابت وأساسيات القضية.
  • الثانية، حين دخلت في اتفاق أوسلو، والذي مثّل -هو وما اُستتبع من اتفاقات في القاهرة- صُلحًا منفردًا، وذلك بدلًا من وحدة الموقف التفاوضي العربي. وقد جاء ذلك ناسفًا لخط ثابت طالما تبنّته منظمة التحرير.

هذا الخطآن تركا بصماتهما على اتفاق أوسلو، ومن ثَمَّ اتفاق القاهرة الأول والثاني، واتفاق باريس الاقتصادي، ليخلقوا «حكمًا ذاتيًا» يستمد أمنه من حماية جيش الاحتلال، بل صار أشبه ما يكون بمعسكر اعتقال مُحاط بالأسلاك الشائكة وحواجز التفتيش، التي تُقام كلما اقتضت الضرورة، أمّا المعتقلون فمسئولون عن أمنهم الداخلي ومعاشهم وما يحتاجونه من خدمات. وهو حكم يرتبط اقتصاده باقتصاد العدو، إن لم تكن العلاقة هي علاقة تبعية واندماج بالكامل في اقتصاد «إسرائيل».

في ذكرى الأحداث المفصلية الكبرى في تاريخ الشعوب، مثل اتفاق أوسلو بالنسبة للشعب الفلسطيني، من المهم أن نعود إلى هذه الأحداث بالفحص والتحليل، وما بالك إن كان هذا التحليل صادرًا من مفكر إستراتيجي –مثل منير شفيق– كانت لديه رؤية ثاقبة عام 1994، نراها اليوم ماثلة أمامنا بعد عقود. فما دامت معركة التحرير مستمرة، لابد من استعادة دروس الماضي واستيعابها، حتى نتمكن من تصحيح المسار، لنمضي إلى الهدف مُجددًا.