تنفست تركيا الصعداء بعد ظهور نتائج الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية، إذ إن نجاح الحزب الحاكم في حصد التأييد لمشروعه السياسي، جنّب البلاد هزّات كانت متوقعة، تتراوح ما بين تصعيد سياسي من قبل المعارضة قد يمتد إلى الشارع، ومطالبات بعقد انتخابات مبكرة، وصولًا إلى احتمال افتعال موجة من العمليات الإرهابية التي تحرّكها أطراف معروفة في الداخل والخارج.

بيد أن الرئيس رجب طيب أردوغان وأقطاب الحزب الحاكم، لم يبدوا مأخوذين كثيرًا بلحظة النجاح؛ فنسبة (51.4%) عكست قدرة متواضعة على إقناع الشارع بتفاصيل التعديلات الدستورية بمن فيهم بعض أنصار العدالة والتنمية الذين امتنعوا عن التأييد، وهذا ما صرّح به أردوغان في خطاب الانتصار حين قال: «يبدو أننا لم نوفّق في إقناع الجميع». لكنّ السبب الأهم هو أن طريق ما بعد التعديلات الدستورية لن تكون مفروشة بالورود، فهناك اختبار الداخل الماثل بالانتقال السلس نحو النظام الرئاسي، بطريقة تطمئن المعارضة والشارع والمجتمع المدني ومن خلفه القوى الغربية التي تمارس وصاية كلاسيكية على ملف الديمقراطية والحريات في تركيا، إلى جانب اختبار علاقات أنقرة الخارجية مع حلفائها وداعميها التقليديين في الغرب، الذين عارض غالبيتهم التعديلات بشراسة.


مأزق ما قبل الاستفتاء

في تاريخ تركيا الحديث، لم تمر على البلاد فترة شهدت تراجعًا في العلاقات التركية الغربية كالذي تعيشه اليوم. فعلى الرغم من العديد من الأزمات التي أعقبت الانقلابات العسكرية في الستينات والثمانينات، وأبرزها الأزمة الشهيرة عام 1982 الذي شهد تعليق الجمعية الأوروبية للاتفاقية التأسيسية مع تركيا (معاهدة أنقرة)، فإن العلاقات التركية الثنائية مع أوروبا لم تشهد تراجعًا رديفًا لتراجع اليوم. فقد كان التوتر ينحصر في العلاقة مع أوروبا الموحدة (الجمعية الأوروبية)، والتي كانت تشترط عودة الممارسة الديمقراطية إلى تركيا من أجل تطبيع العلاقات، وهذا ما حصل فعلًا مع حالة الانفراج السياسي التي أرسى لها تورغوت أوزال، ورعايته لحالة معقولة (غير مثالية) من الحياة السياسية تسمح بعقد انتخابات، مما أعاد العمل بالاتفاقيات المشتركة عام 1986، أعقبه قبول طلب عضوية تركيا للجمعية الأوروبية عام 1987.

لم يكن الشقاق التركي الأوروبي تركيًا صرفًا، إذ انجرت الحكومات اليمينية لمجاراة أحزاب اليمين المتطرف الأوروبي في العداء لتركيا

لكن التقييم الأوروبي ذاته لم ينطبق على العدالة والتنمية، وهو الحزب الذي سمح أيضًا بحالة معقولة (غير مثالية) من الحياة السياسية. وقد بدأ هذا التباين في المعالجة الأوروبية للوضع التركي يطفو على السطح في سنوات حكم العدالة والتنمية الأخيرة، وهي الفترة التي دشنت لدور تركي جديد في الإقليم، تجاوز اللعب في المساحات المسموحة نحو اجتراح المبادرات، والسعي نحو ريادة إقليمية، إلى جانب توسيع صلاحيات أردوغان وتحوله إلى رديف للدولة، وإلى نموذج يُحتذى بالنسبة للعديد من الشعوب والتيارات في الشرق الأوسط والبلقان، ومنافسته للقادة الأوروبيين على ولاء مواطنيهم من ذوي الأصول التركية.

والحقيقة أن الشرخ التركي-الأوروبي أسبابه ليست تركية صرفة، فقد غذّاه انسحاب الخريطة الأوروبية نحو الراديكالية بشقيها اليميني واليساري، حتى لم يتبق في أوروبا أصدقاء حقيقيون لتركيا، فاليسار يرى في أنقرة نظامًا يمينيًا يمارس الاستبداد ويخدم الامبريالية، ويستقي فهمه لتركيا من أصدقائه الأتراك ذوي التوجهات اليسارية الراديكالية، بمن فيهم الانفصاليون ذوو الأصول الكردية.

أما اليمين الأوروبي فمسكون بهواجس الأسلمة التي تحوم حول العدالة والتنمية وشخص أردوغان ونزعتهم نحو إحياء الثقافة العثمانية، إلى جانب انجراره نحو فخ المزايدة حول من يعادي تركيا أكثر، الذي يُنصب له باستمرار من قبل اليمين المتطرف المعادي لتركيا لمجرد كونها دولة مسلمة.

ولم تتجل هذه المزايدة بصورة أوضح من المواقف المتشددة التي اتخذتها كل من ألمانيا وهولندا ضد المسؤولين الأتراك، حين منعت لقاءاتهم بجالياتهم قبيل موعد الاستفتاء تحت ضغط اليمين المتطرف في كلا البلدين، وهو الأمر الذي انعكس على الحزب الحاكم إيجابًا بارتفاع نسبة التصويت لصالح التعديلات الدستورية في كل من ألمانيا وهولندا والنمسا بمتوسط 63%، في مشهد يكشف ترسخ القومية والاتجاهات اليمينية داخل التركيبة السيسيواجتماعية للشارع التركي إلى الدرجة التي لم تهذّبها سنوات المهجر.


عقدة السياسة الخارجية

أردوغان في لقاء صحفي جمعه بالرئيس الروسي، مارس/آذار 2017

ستعيش تركيا عامين ونصف من الانتقال المتدرّج نحو النظام الرئاسي بانتظار خريف عام 2019، الذي سيشهد انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، وإلغاءً لمنصب رئيس الوزراء، وزيادة لصلاحيات الرئيس الذي يعتبر اسمه شبه محسوم بشخص أردوغان. ويجدر هنا التوقف طويلًا حول القبول (وربما اللا قبول) الأوروبي لأردوغان، ليس فقط لكونه زعيمًا لتيار سياسي يجلب الصداع، إنما على الصعيد الشخصي أيضًا.

فحتى مشارف أيار/مايو 2016، كان الأوروبيون مهتمين جدًا بالتفريق الصريح ما بين أردوغان ورئيس وزرائه السابق، أحمد داوود أوغلو، الذي شكّل في حينه حالة من التوازن البنّاء في العلاقة مع أوروبا، وكان الشخص المفضّل للعديد من السياسيين في بروكسل وبرلين، حيث لم يتوان بعضهم عن الحديث علانية حول تفضيلهم التفاوض معه عوضًا عن أردوغان، إلى جانب انحسار رواية الاستفتاء على لسان السياسيين والإعلاميين في أوروبا بسردية «تغوّل أردوغان»؛ لا سردية تغيير نظام الحكم.

وعليه يبقى المقلق اليوم أن النظام الرئاسي يُرسّخ لتتويج الرئيس عرابًا للعلاقات الخارجية، ورمزًا يطوف العواصم ويعقد التحالفات، مما يعني مزيدًا من البرود التركي-الأوروبي، واتجاهًا أكثر نحو البراغماتية التركية الطافية على صفيح ساخن مع كل من موسكو وطهران وتل أبيب.

وفي حين كان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، الزعيم الغربي الوحيد الذي هنأ أردوغان بإيجابية بعد الاستفتاء؛ إلا أن الملفين الأكبر على طاولة البلدين: مصير فتح الله غولن، والدعم الأمريكي لأكراد سوريا، يشيان بأن العلاقات الثنائية لن تشهد كثيرًا من التطور.


مستقبل جديد

أردوغان، تركيا، بوتين

يمكن وصف العلاقة التركية – الأوروبية بأنها كلاسيكية بامتياز، فهي محكومة منذ نشوئها للمحددات ذاتها (الاقتصاد والأمن)، وتصطبغ بفكرة الوصاية الأوروبية الفظة على الحياة السياسية التركية، وذلك انطلاقًا من مبدأ المشروطية الصارمة المتضمّنة في (معايير كوبنهاجن) للدول طالبة العضوية للاتحاد الأوروبي، وهذا ما ينعكس بوضع حالة الديمقراطية وحكم القانون وحقوق الإنسان في تركيا تحت المجهر الأوروبي أكثر من غيرها من دول المنطقة التي تزخر بالانتهاكات؛ مصر مثالًا.

أصبح مشوار العضوية الكاملة طريقًا شائكًا لن يقود إلى الهدف، وحان الوقت لإعادة تقييم هذا المسار بالشراكة والتراضي مع الحلفاء الأوروبيين.

وقد أضيف مؤخرًا بعدٌ جديد لعلاقات الطرفين، عقّد من حظوظ الأتراك ووسع الهوة ما بين أوروبا والعدالة والتنمية، وهو دخول تركيا ومهاجريها وملف عضويتها على خط الجدل المحلي الأوروبي الذي يسبق الانتخابات، مما يعني مزيدًا من التحريض والتحشيد ضد أردوغان ومشروعه السياسي.

وقد ولّدت حالة اللاقبول لأردوغان سيلًا من التصريحات الأوروبية الحادة بعد الاستفتاء، حمل بعضها إشارات مهينة للدولة التركية وللرئيس، وهدد بعضها الآخر بإيقاف مفاوضات الانضمام، لكنّها تبقى جولة من جولات التراشق المتبادلة بين الجانبين، والتي لن تقود في نهاية المطاف إلى قطيعة تامة تكون كلفتها الاقتصادية والأمنية غير محمولة بالنسبة لكلا الطرفين.

عدم وصول الأمور إلى حد القطيعة لا يعني أيضًا إمكانية انبعاث الأمل في الجسد الميت لمشروع الانضمام التركي للاتحاد الأوروبي، ولعل تركيا الآن تقبع في أبعد نقطة لها عن العضوية منذ انطلاق مفاوضاتها عام 2005، فما زال العجز عن التقدم في تطبيق تفاصيل اتفاق اللاجئين (مارس/2016) ماثلة للعيان، فكيف بملف الانضمام بكل تعقيداته وتشابكاته؟

أضف إليه حالة الطوارئ التي دخلت إليها تركيا منذ الانقلاب الفاشل؛ والتي تضمنت الكثير من نقاط الافتراق مع الأوروبيين أبرزها: تعطيل العمل باتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية، اعتقال قادة ونواب حزب الشعوب الديمقراطية (HDP)، اعتقال وفصل آلاف من موظفي الجيش والدولة بتهم التورط بعلاقات مع جماعة الخدمة (جماعة فتح الله غولن) والتلويح بإعادة العمل بعقوبة الإعدام.

وبينما تقف أنقرة أمام تحديات جسام بعد الانقلاب الفاشل، فإن خيبات الأمل التي تلقتها من الأوروبيين تدفعها للزهد باعطاء إشارات تطمينية لهم، فتراها تصعّد من اتهامات النازية والفاشية في خطابها، وتعلن تمديد الطوارئ ثلاثة أشهر أخرى بعد نجاح الاستفتاء، مما يضعها على حافة منحدر حاد في علاقتها مع أوروبا، تتطلب منها انعطافة ذكية بإعادة تأطير العلاقة بما يضمن لها تحررًا معقولًا من الوصاية الفظة، وعدم الرضوخ للعبة الأوروبية التي طالما أرادت لتركيا أن تدفع فاتورة الانضمام للاتحاد الأوروبي دون التمتع بمزاياه.

هذه الانعطافة تتطلب مبادرة أنقرة بسحب طلب الانضمام الرسمي للاتحاد، والتركيز على الميزة التي تمتلكها بوصفها الدولة الوحيدة غير العضو التي تنخرط مع أوروبا في اتحاد جمركي قابل للتوسع والتطوير، إلى جانب تعويض جوانب التعاون الأمني عبر شراكتها الفاعلة في الناتو، وتعويض الجوانب السياسية والثقافية والتكنولوجية عبر برامج الشراكة الأوروبية التي تستهدف دول الجوار على مبدأ «التوافق الطوعي» أكثر من المشروطية الصارمة.

من مصلحة العدالة والتنمية اليوم أن يختار هذا المسار، بعد أن حقق استفادته القصوى من برامج الإصلاح السياسي والدستوري الأوروبية، واستثمرها في تعديل الدستور وتقليم أظافر الجيش والمؤسسة الأمنية، وصبغ إصلاحاته في ملفي الحريات الشخصية والمصالحة مع الأكراد بصبغة أوروبية بعيدًا عن شبهات المساس بالعلمانية أو تحدّي هوية الجمهورية.

تغير الحال كثيراً منذ عام 2003 حتى الآن، وأصبحت مشوار العضوية الكاملة طريقًا شائكًا لن يقود إلى الهدف، وحان الوقت لإعادة تقييم هذا المسار بالشراكة والتراضي مع الحلفاء الأوروبيين.