في يوم الخامس من يناير/كانون الثاني من هذا العام 2016، يكون قد مضى عشرون عامًا على اغتيال المهندس، (لقبه الذي التصق به، وله رنةً موسيقية، ووقعٌ خاص)، الشهيد يحيَى عيّاش، القائد العسكري المتميز في (كتائب الشهيد عز الدين القسام) الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والذي تم اغتياله صبيحة يوم الجمعة 5-1-1996 على يد العدو الصهيوني؛ العدو الأبدي للأمة العربية والإسلامية، وعدو كل الأحرار في العالم.

رحل عنا (المهندس) القائد يحيي عياش في مثل هذا اليوم بعد رحلة مقاومة حافلة؛ غيرت مجرى الصراع مع الكيان الصهيوني، ونقلت المقاومة الفلسطينية لمراحل متطورة إيجابيًّا في طريق التحرر الوطني. عياش أو (المهندس) كانت تتهمه إسرائيل بهندسة مرحلة العمليات الاستشهادية – التفجيرية ضدها، وبوقوفه خلف العشرات من العمليات التي أوقعت مئات القتلى والجرحى من المغتصبين الصهاينة لأرضنا فلسطين.

هذه العمليات نقل بها (المهندس) ساحة الصراع لقلب مدن الكيان الصهيوني المحتلّ، وحققت لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، ما سمي بـ توازن الرعب، مع هذا العدو الذي يتفوق عدّةً وعتادًا ودعمًا دوليًّا – ماليًّا من أمريكا، وتصويتًا في مجلس أمنٍ يكيل بمكيالََيْن، يكافئ الجلاد؛ العدو الصهيوني، ويعاقب الضحية؛ الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض وصاحب الحقوق الثابتة في أرضه فلسطين.

هذه العمليات نقل بها (المهندس) يحيى عياش ساحة الصراع لقلب مدن الكيان الصهيوني المحتل، وحققت لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، ما سمي بـ توازن الرعب.

مثّلَ يحيى عياش صفحةٍ مشرقة في حكاية الصمود والجهاد البطولي للشعب الفلسطيني؛ إذ كان مقاومًا فلسطينيًا فريدًا من نوعه، متميزاً مبدعًا في مرحلته؛ وهي واحدةٌ من المراحل الممتدة في مسيرة ونضال ومقاومة الشعب الفلسطيني، وحين يكتب تاريخ فلسطين عن هذه المرحلة الدقيقة من حياة المقاومة المتواصلة والتي يحياها الشعب الفلسطيني، ستدرك الأجيال المتعاقبة كيف كان يحيى عياش (المهندس) يحتل مكاناً بارزاً ومتقدماً بعد أن سطّر بجهاده ومقاومته، ومن ثم استشهاده؛ ملحمة تاريخية خالدة من أجل وطنه فلسطين.

من المهم أن تقرأ الأجيال الحالية والمتعاقبة في مقاومة الشعب الفلسطيني الممتدة، والمتواصلة، ومن المهم التأكيد مرةً أخرى على هذا المعنى، (المقاومة الفلسطينية الممتدة والمتواصلة) والتي أضحت اليوم مقاومةً وازنة، رغم شح وقلة الإمكانيات، مقارنةً بالعدوّ الصهيوني المتغطرس، ومرةً أخرى المدعوم من كل قوى الشر والعدوان في العالم، فـ كتائب القسام، وسرايا القدس، وباقي الفصائل الفلسطينية المقاتلة؛ لا يتعدى تعدادها الأربعين ألف مقاوم؛ مقابل مئات الآلاف من نخب وألوية وراءها ما وراءها من السلاح المدجج بآخر صيحاته التقنية، والفسفور الأبيض، والأسود، والملوّن، والمحرم دوليًّا، بتشكيلاتٍ عسكرية شبه متكاملة، والتي يحلو للفلسطيني اليوم، أن يُطلق عليها (أجيال النخبة المقاومة)، التي تقارع عدوها وقد طورت من أدائها المقاوم، فهي – أجيال المقاومة – ومع استمرارها على العهد، عهد الحجر، والسكين، والبندقية، والعمليات الاستشهادية، أدخلت اليوم في المعادلة؛ الصاروخ، والأنفاق الهجومية من تحت الأرض ومن فوقها، وفرق الكوماندوز البحري،الضفادع البشرية، وسيّرت طائرات الأبابيل الاستطلاعية. نقول من المهم أن تقرأ وتبصر أجيال النخبة المقاومة وأجيال الشعب الفلسطيني اليوم، هذه المرحلة من مراحل مقاومة الشعب الفلسطيني، والذي جسدها الشهيد القائد يحيى عيّاش، ومن المهم أن تعيد قراءة ما دوّنه الأعداء من شهاداتٍ بحق هذه القامة العملاقة من قامات الشعب الفلسطيني؛ لتعرف أجيال النخبة بأنها خير خلف لخير سلف، وبأن هذا الشبل المقاوم اليوم هو من ذاك الأسد، والخير ما شهدت به الأعداء وأقرت به طائعةً أو مرغمةً؛ إذ لم يستطع شمعون رومح، وهو أحد كبار المُعلِقين العسكريين الصهاينة، أن يُخفِي إعجابه بيحيى عياش حين قال: “إنه لمن دواعي الأسف أن أجد نفسي مُضطرًا للاعتراف بإعجابي وتقديري بهذا الرجل، الذي يبرهن على قدراتٍ وخبراتٍ فائقة في تنفيذ المهام الموكلة إليه، وعلى روح مبادرة عالية وقدرة على البقاء وتجديد النشاط دون انقطاع”.

ولم يكن شمعون وحده هو المعجب بالمهندس، لكن وسائل الإعلام الصهيونية كلها شاركته الإعجاب حتى لقّبت عياش بـ الثعلب، والرجل ذي الألف وجه، والعبقري. وكان رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق إسحق رابين يفتتح جلسة الحكومة الإسرائيلية كل أسبوع؛ بسؤال ممثلي أجهزة الأمن الاستخباراتية في الجلسة عن (المهندس)، وجعلته – أي رابين – يردد على مسامع وزرائه وقادة أجهزة أمنه قوله: “لا شك أن المهندس يمتلك قدراتٍ خارقةً لا يملكها غيره، وأن استمرار وجوده طليقًا يُمثل خطرًا داهمًا على أمن إسرائيل واستقرارها”. أما وزير الأمن الصهيوني الداخلي – آنذاك – موشيه شاحال، فقد قال: “لا أستطيع أن أصف المهندس يحيى عياش إلا بالمعجزة، فدولة إسرائيل بكافة أجهزتها لا تستطيع أن تضع حلاًّ لتهديداته”. أما الضابط المخابراتي الكبير، رئيس جهاز الشاباك، (المخابرات الداخلية الإسرائيلية) يعقوب بيري فقال: “إنني أقرُّ أن عدم القبض على المهندسِ يمثل أكبر فشل ميداني يواجه المخابرات منذ إنشاء دولة إسرائيل”. أما عضو الكنيست جدعون عزرا، وهو نائبٌ سابق لرئيس المخابرات الإسرائيلية، فقد قال: “إن احتراف المهندس وقدرته تجلَّت في خبرته وقدرته على إعداد عبوات ناسفة من لا شيء”. ويضيف عزرا: “كنت كل يوم أحاول القبض على يحيى عياش، وأحيانًا أكثر من مرةٍ واحدةٍ يوميًّا، كنا على استعدادٍ لصرف ميزانيات بلا حدودٍ وتخصيص قوات كبيرة من الجيش والوحدات الخاصة من أجل تصفيته، لكنه كان يهرب عادةً بوثائق مزوَّرة منتحِلاً شخصيات مختلفة”. فيما قال الدكتور أبراهام سيلع المُحاضر المخضرم في الجامعة العبرية: “المطلوب يحيى عياش، شخصية وذهنية مبدعة”، وأضاف د. سيلع: “المشكلة في أن البيئةِ العقائدية الأصولية التي يتنفس المهندس من رئتها؛ هي التي تُبدع وتُفرز ظاهرة المهندس، وظاهرة الرجال المستعدين للموت في سبيل عقيدتهم”.

إلى ذلك تحدث قائد كبير في الشاباك لصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية وكان مُناطاً به تعقب وإلقاء القبض على (المهندس) حياً أو ميتاً بالقول: “إن يحيى عياش يبرهن على قدرة عالية جدًّا في البقاء، وقد تبيَّن أنه ذكي، ومتملص، بارع على ما يبدو، فهو يحرص على استبدالِ مخبأه بوتيرة عالية، وهذا يجعل عملية العثور عليه بالغة الصعوبة”. وأضاف هذا القائد الشاباكي للصحيفة نفسها: “إنَّ آلافًا من عناصرِ قوات الأمن، ومن ضمنهم أفراد المخابرات العامة الشاباك، ووحدات استخبارات خاصة، ووحدات مختارة من الجيش الإسرائيلي، وقوات حرس الحدود والشرطة الإسرائيلية، تشارك في المطاردةِ الواسعة النطاق للمُطارَد رقم واحد، ولا أذكر منذ سنوات طويلة جهدًا مكثفًا ومُركَّزًا يُشارك فيه مثل هذا العدد الضخم من القواتِ من أجل ملاحقةِ شخصٍ واحدٍ كما في هذه الحالة”.

ولعل أكثر الساسة الصهاينة الذين عبّروا بصدق عما ينتظر دولة إسرائيل – كدولة احتلالٍ إجلائيّ إحلاليّ تغتصب حقوق الشعب الفلسطينيّ – من خوفها من ظاهرة كظاهرة (المهندس) يحيى عياش، هو ما قاله الجنرال أمنون شاحاك رئيس أركان الجيش الصهيوني الأسبق: “إن إسرائيل ستواجه تهديدًا استراتيجيًّا على وجودها إذا استمر ظهور أناس على شاكلة المهندس”. وأعاد شاحاك في تحذيره لبني قومه الصهاينة ما قاله الأكاديمي الصهيوني أبراهام سيلع عن البيئةِ العقائدية الأصولية التي يتنفس المهندس من رئتها، والتي تبدع وتفرز ظاهرة المهندس، وظاهرة الرجال المستعدين للموت في سبيل عقيدتهم.

الفلسطينيون من شتى مدارسهم الجهادية المقاومة والمقاتلة، وعبر مسيرة النضال الممتدة عبر السنين الطوال، منذ أن احتلت العصابات الصهيونية أراضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وهم يُقدّمون التضحيات الجسام تلو التضحيات، يقدمونها طائعين راضين من قوتهم، ومن عرقهم، ومن شجرهم، ومن حجرهم، والأهم والأغلى من دمائهم، يجودون بكل غالٍ وثمين، وهل أغلى وأثمن من الدماء، والنفس، وفلذات الأكباد من الأبناء، يجود بها الفلسطيني؛ فداءًا لوطنه السليب؟.

قدّم الفلسطينيون – ولا زالوا يقدمون كل يوم – العشرات، والمئات، بل والآلاف من القادة الشهداء العظام، كل واحدِ منهم كان مدرسةً وأكاديمية نضالية وجهادية مستقلة، ورغم اعتزاز الفلسطينيين بكلّ قواهم، ومشاربهم، وتياراتهم الفكرية المختلفة، بشهدائهم، ومقاوميهم بلا استثناء، لكنك قلّما تجد رمزاً فلسطينيّا مقاومًا له ما له من مكانةٍ، وإعزاز، وإجلال، وإكبار، وحكاياتٍ تشبه الأساطير لدى الشارع الفلسطيني والعربي، كما هو الحال مع الشهيد (المهندس) يحيى عياش، باستثناء الشهيد القائد العسكري في كتائب القسام كذلك، والذي يلقب بـ (الأسطورة)، الشهيد عماد عقل، الذي له -تقريباً- المكانة نفسها من الإعزاز والإجلال والإكبار، ذلك أن كلاً من (المهندس) عياش، و(الأسطورة) عماد عقل، مثل كلٌ منهما مرحلةً جهاديةً ونضالية؛ عزّ نظيرُها الفلسطينيّ، أو العربي؛ ببعدها الزمانيّ والمكانيّ الذي انبثقت فيه ومنه، وهو ما جعل إيهود يعاري، وهو أحد كبار المُعلّقِين المخضرمين الصهاينة في التلفزيون الإسرائيلي، يربط بين اسمي الشهيديْن عيّاش وعقل بالقول: “لكل مرحلةٍ من مراحلِ النضال الفلسطيني رموزُها الخاصة بها، فمثلما شكَّل عماد عقل رمز العمل العسكري في حركةِ حماس؛ فإنَّ يحيى عياش يُمثل رمز العمل العسكري الاستشهادي فيها”.

نحن – الفلسطينيين – ومعنا كل الأحرار في العالم؛ نُحيي ذكرى شهدائنا العظام في كل عام، فتخرج المسيرات الجماهيرية، وتُعقد الندوات والمؤتمرات والفعاليات لإحياء الذكرى، وهذا العام 2016 تتزامن الذكرى الـ20 لاغتيال (المهندس) يحيى عياش، مع استمرار ديمومة الهبة الجماهيرية المشتعلة في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، سواءً في أراضينا المحتلة عام الـ48 أو في الضفة الغربية أو في قطاع غزة، والتي أطلق عليها شعبنا الفلسطيني، (انتفاضة القدس) و(انتفاضة السكاكين) والتي تدخل شهرها الرابع، وهي الانتفاضة التي جاءت ليؤكد من خلالها شعبنا الفلسطيني على المؤكَّد؛ من أنه شعبٌ لا يستسلم؛ ولا ينكسر؛ ولا ينهزم، رغم كل المجازر التي يرتكبها بحقه العدوّ الصهيونيّ، هذا العدو القاتل المستمر في إجرامه وعدوانه وغيه، ضد هذا الشعب الحرّ الأبيّ، الذي له حقوقٌ وسينتزعها، شاء من شاء وأبى من أبى.

الملاحظ أن إحياء ذكرى (المهندس) يحيى عياش هذا العام، تأتي والمقاومة الفلسطينية بكل تلاوينها تُسجّل قفزاتٍ نوعيّةً في فعلها المقاوِم برغم الحصار الخانق حول رقبة فلسطين، من القريب ومن البعيد؛ مقاومة تتعاظم، وتكبر، ويكبر معها الحلم، بقرب تحرير فلسطين، كل فلسطين، قلت: فلسطين؛ كل فلسطين؛ نعم. فلسطين؛ كل فلسطين، فلم ينسَ الفلسطينيّ – أيّ فلسطينيّ – للحظةٍ أنّ كل فلسطين له؛ من بحرها إلى نهرها، من ساحلها من رفح وحتى رأس الناقورة، ومن برها وصحرائها وجبالها وسهولها ووديانها، من (أم الرشراش) في أقصى الجنوب، وحتى مرج ابن عامر شمال فلسطين، لم ينسَ هذا، لا ابن (حماس)، ولا ابن (فتح)، ولا ابن (الجبهة الشعبية)، ولا ابن (الديمقراطية)، ولا ابن (الجهاد)، ولا أبناء كل الفصائل الفلسطينية. الكلّ الفلسطينيُّ يحفر خارطة فلسطين في قلبه، ويعلقها على جدران مكتبه، وفي صالون بيته، ويحملها الفلسطينيّ ميداليةً فضيةً أو برونزيةً في جيبه، تزين مفاتيحه.

الملاحظ أن إحياء ذكرى (المهندس) يحيى عياش هذا العام، تأتي والمقاومة الفلسطينية بكل تلاوينها تُسجل قفزاتٍ نوعيّةً في فعلها المقاوِم برغم الحصار الخانق حول رقبة فلسطين.

تأتي ذكرى (المهندس) عياش هذا العام، وكما في كل عام؛ لتكون إحياءًا للذكرى وكما هي إحياءًا للذاكرة؛ ولإعادة شحذ الهمم، ولإعادة شحن النفوس بخيار المقاومة الأبيّة؛ المقاومة التي تستعصي على الكسر، كالجَوْزة القوية. تأتي الذكرى لتشحذ همم ونفوس المقاومين المرابطين على ثغور فلسطين؛ القابضين على جمر الوطن. تأتي الذكرى تذكيرًا لبعض هذا العالم الأعور الذي يرى بعيون المحتل الصهيونيّ، لتقول لهم: “نحن أبناء الشعب الفلسطيني، وأبناء مقاومته الباسلة، ثابتون على أرضنا، ثباتَ الجبال الرواسي، باقونَ كالأطواد الشامخة؛ نُغذّي ثورتنا ومقاومتنا، باقون ما بقي الزعتر والزيتون، باقون ومستمرّون في تضحياتنا ونضالنا ما استمر فينا عرقٌ ينبض”.

ستبقى ذكرى (المهندس) هذا العام وكما في كل عامٍ ذكرى خالدة عبر الأجيال؛ ذكرى عزةٍ ورفعةٍ ومجدٍ لكل الأحرار في العالم.

يحيى عياش، المهندس، تعجز كلماتي عن وصفك. ستبقى دائما قدوةً لأبناء شعبنا المقاوِم، ولأحرار أمتنا. يحيى عياش، ستبقى القائد الذي تسير على خطاه أجيالنا؛ جيلاً وراء جيل. يحيّى عياش، سلامًا لروحكَ المسافرة، وستبقى فينا خالدًا ما حيينا، ونردد ما قاله الشاعر الشهيد من بعدك، القائد الفلسطيني الكبير الدكتور عبد العزيز الرنتيسي: “عيّاش حيّ، لا تقل عياش مات. أوَ هل يجفّ النيلُ أو نهرُ الفرات!”. سلامٌ يا يَحيى على روحك، سلامٌ من شعبك ومقاوميه؛ كل الوفاء وكل الحب وكل التقدير؛ كل الإعزاز والإجلال والإكبار، كيف لا وأنت أيقونة العشق المقاوم التي تكبر سنةً من بعد سنة، ويزداد العشق لها وبها كلما مضت السنون.