قُبيل مباراة ذهاب يوفنتوس وتوتنهام بدور الـ16 التي أقيمت في تورينو، كان المدرب «ماوريتسيو بوتشيتينو» قد حقق فوزًا مستحقًا على مانشستر يونايتد، ثم على أرسنال، بعد أن تعادل مع ليفربول في الأنفيلد. نتائج كبيرة لتوتنهام كانت بمثابة جرس إنذار ليس لفرق إنجلترا التي تنافس السبيرز علي مقاعد دوري الأبطال وحسب، بل ولبطل إيطاليا كذلك. إذ بدا للكل أن توتنهام قادر على مجابهة الكبار، وإخضاعهم لأسلوب لعبه، والسيطرة على أغلب أوقات المباراة. رفاق «هاري كين» أرادوا أن يبرهنوا للجميع على ميلاد شخصيتهم الأوروبية التي طالما أكّد الجميع عدم وجودها، ولكنهم ومثل كرة مرة لم ينجحوا في ذلك؛ لأن «ماسيميليانو أليجري» استطاع الظفر ببطاقة العبور من قلب ملعب ويمبلي، وفي ثلاث دقائق فقط!

ضربة البداية

كانت تشكيلة اليوفنتوس متوقعة إلى أبعد حد. فمع الغيابات التي ضربت الفريق خصوصًا في الثلث الهجومي، لم يكن أمام «أليجري» سوى الدفع بما تبقى من أوراقه ونجا من شبح الإصابة، لكنه اعتمد في المقابل على «أندريا بارزالي»، المدافع الذي سيكمل 37 عامًا بعد شهرين، في مركز الظهير الأيمن. بالتأكيد كان الهدف من اختيار «برزالي» هو تعويض إصابة الثنائي «دي تشيليو، وهوفيدس»، إلى جانب مضاعفة الصلابة الدفاعية أمام الهجوم الإنجليزي، إذ اقتصر وجوده على وسط ملعب اليوفي، بينما ينطلق الظهير الأيسر «أليكس ساندرو» لتشكيل خطورة على مرمي «هوجو لوريس». رهان «أليجري» على «برزالي» في هذا المركز كان خطأ كبيرًا لدرجة أن الإيطالي كان ثغرة البيانكونيري الأولى! في المقابل دخل «بوتشيتينو» المباراة بتشكيلته الضاربة. اعتمد الأرجنتيني أسلوب لعب 4/3/3، واستهدف به اقتناص الاستحواذ على الكرة، كما اختراق دفاعات ضيوفه مستفيدًا بالفروق البدنية الهائلة لصالح السبيرز، بالتأكيد كان «ماوريتسيو» متفائلًا بحالة وسط وهجوم فريقه الذين يعيشون أفضل أوقاتهم. اختيارات «أليجري، بوتشيتينو» خلت من المفاجآت، الثنائي ارتكز على قناعاته التدريبية، وسعى كل منهما إلى تجهيز عناصره الأساسية بين مباراتي الذهاب والعودة بأفضل شكل.
تشكيل الفريقين. المصدر: whoscored.

الشوط الأول: كارثة اسمها برزالي

بالطبع كان متوقعًا أن يبدأ توتنهام مهاجمًا منذ الدقيقة الأولي، مستهدفًا إحراز هدف يُحبِط الضيوف، ويخرج اليوفي من مناطقه، لكن الذي لم يكن متوقعًا بهذه الصورة هو سهولة اختراق منطقة جزاء «بوفون». لم يستنزف لاعبو توتنهام وقتًا ليدركوا أن اليوفي يعاني في إحكام السيطرة على المساحة بين قلب الدفاع والظهير، أو ما يعرف في عالم التكتيك بالقنوات Channels، وخصوصًا في الجانب الأيمن حيث صال وجال الكوري «سون هيونج مين» على حساب «برزالي».تقول الأرقام إن الكوري أطلق 5 تسديدات خلال الشوط الأول من أصل 12 لتوتنهام، كل هذه التسديدات جاءت داخل منطقة الجزاء، وبل على بُعد ياردات بسيطة من «بوفون»، اللافت هنا أيضًا أن «سون» أطلق تسديدات بقدمه وأخري برأسه، وهو ما يشير إلى تغلبه على الإيطالي على الأرض وفي الهواء.خلال محاولات «سون» التي انتهت بتسجيله هدف التقدم برزت سوء المساندة الدفاعية لـ«سامي خضيرة»، الألماني فشل في عرقلة صعود توتنهام بالهجمة في وسط الملعب بواقع 5 عرقلات غير ناجحة، وعجز عن تخفيف العبء الدفاعي الثقيل الذي يعاني أمامه «برزالي»، وقد جاء هدف الكوري في الدقيقة 38 نتيجة لخطأ مشترك منهما بالإضافة إلي «بوفون» الذي أساء في توقع الكرة.

الكوري سون أكثر من سدد خلال الشوط الأول، وقد جاءت تسديداته كلها داخل منطقة الجزاء في تفوق واضح علي برزالي. المصدر: whoscored.

على الجانب الآخر فإن وسط توتنهام كان مترابطًا، قادرًا على بسط سيطرته، يتمكن من بناء الهجمة ومدّ الثلث الهجومي بالتمريرات طوال الوقت. يرجع هذا لإمكانيات البلجيكي «موسي ديمبيلي» على التحكم بالكرة، ونجاحه إلى جوار «إيريك داير» وخط الدفاع المتقدم في استرجاع الكرة في أسرع وقت ممكن؛ يكفي أن تدرك أن «ديمبيلي» نجح في 100% من مراوغاته وأن «داير» فاز بـ100% من التحاماته الثنائية! وسط يوفنتوس كان على النقيض من أداء توتنهام، فقد عانى كثيرًا رفاق «ماتويدي» خلال هذا الشوط علي مستوى بناء الهجمة والاحتفاظ بالكرة في مناطق السبيرز، وليس من المبالغة القول إن مرمى «لوريس» لم يهدد سوى بتسديدة وحيدة من «بيانتش» قبل ثلاث دقائق من عمر الشوط الأول، وبسبب فقدان القدرة على الاستحواذ والتنظيم كان المهاجم الأرجنتيني «هيجوأين» معزولًا طوال هذا الشوط، وكان أقل من لمس الكرة في الفريقين بـ12 لمسة فقط، من بينهم 5 لمسات في مناطقه!

بين الشوطين: ماذا بعد يا أليجري؟

بينما كان «بوشتينيو» يبث الحماس في نفوس لاعبيه بعد انقضاء الشوط الأول بهدف قتل المباراة مطلع الشوط الثاني، كانت سحابة من الحيرة والتساؤلات تظلل رءوس محبي البيانكونيري. أول تلك التساؤلات بالتأكيد هو هل يملك اليوفنتوس أي خيارات تمكنه من قلب الطاولة في الويمبلي؟ أم أن الأمر فعلًا انتهى وحصل السبيرز على بطاقة التأهل؟ دكّة الفريق الإيطالي تفتقد لقائمة طويلة كـ«هوفيدس، دي تشيليو، كوادرادو، مانذوكيتش، برنارديسكي»، وهو ما يعني أن كل الحلول التي يمتلكها اليوفي، وتحديدًا الحلول الهجومية، موجودة بالفعل على أرضية الملعب، وحتى مع حالة «خضيرة» السيئة وفشل «بيانتش، ماتويدي» في الحد من سيطرة وسط توتنهام، إلا أنهم أفضل المتاح لـ«ماكس أليجري»، وخروج أحدهم ينبغي أن يخضع لحسابات غير بسيطة. «أليجري» مؤمن تمامًا أن الفائز هو ما يرتكب أخطاء دفاعية أقل كلفة، لذلك فإن تكتيك المدرب الإيطالي في المباريات التي يواجه فيها فرقًا تستحوذ بفاعلية وتهدد مرمى فريقه طوال الوقت يعتمد على التراجع، وتقليل المساحات، وضرب الخصم من المرتدات. لكن ميزة بعينها في «ماكس» تساعده كثيرًا في مثل تلك المباريات، والميزة هي أنه مدرب بارع جدًا في صناعة التحولات، يعرف تحديدًا متى بدأ أحد لاعبي خصمه في فقدان تركيزه، يتمكن من صناعة ثغرة يمر خلالها كتيبته، ثم يهاجم بتلك الأدوات التي يملكها، وحينها يبدو مفعول الفريق أكثر قوة! يعترف «ماكس» بنفسه في حوار سابق نشرته BBC أنه يعشق صناعة المفاجآت داخل الملعب، فهو لا يجد مشكلة في الدفاع والتمترس حول مناطقه، لكنه ينتظر لحظة مناسبة ليصنع تحوّلًا مفاجئ يصيب خصمه في مقتل.

الشوط الثاني: انقلاب مفاجئ

توتنهام، يوفنتوس، دوري أبطال أوروبا.
بدأ الشوط الثاني على نفس النمط الذي انتهى به الأول، سيطرة وفاعلية من توتنهام أمطرت مرمى «بوفون» بثلاث تسديدات في خمس دقائق فقط، إحدى تلك التسديدات كانت لـ«سون» بلا شك. بينما اليوفي ظل خلال تلك الدقائق على حاله بعيدًا عن تشكيل خطورة. في الدقيقة 61 سيتحول كادر المباراة لدكّة اليوفنتوس، حيث يبدو أن «أليجري» قرر الدفع باثنين من لاعبيه دفعة واحدة، الثنائي الذي سيقلب الطاولة ويسرق الفوز بعد أن اقترب من جعبة توتنهام هما الظهيران: «ستيفان ليختشتاينر، وأسمواه»، سيحل الأول مكان «المهدي بن عطية» ليلعب كظهير أيمن ويعود «بارزالي» إلى جوار «كيلليني» في قلب الدفاع، بينما نزل الثاني بدلًا من «ماتويدي» ليتولى الرواق الأيسر ويصعد أمامه «أليكس ساندرو» بأدوار هجومية، هذه الحيلة بالدفع بـ«أسمواه» مع وجود «ساندرو» كان قد جربها «أليجري» في مباريات سابقة آخرها عودة نصف نهائي كأس إيطاليا أمام أتالانتا. تمثلت مهمة «ليختشتاينر» في الانطلاق على الخط، وإرسال العرضيات التي سينتظرها «هيجوأين، ديبالا، خضيرة» إلى جوار «دوجلاس كوستا» الذي بدا نشيطًا في ذلك الوقت، أما «أسمواه» فعليه تحرير «ساندرو» والوقوف في مواجهة «تريبير». كان عدم الاتزان قد أصاب «داير، ديمبيلي، بين ديفيز» في ذلك الوقت، ولهذا فإن البديل السويسري لم يحتج سوى دقيقتين منذ نزوله، وتمريرتين فقط، حتى تمكن من صناعة هدف فريقه الأول على إثر انطلاقة مميزة وعرضية وجدت في طريقها «خضيرة» الذي أرسلها لـ«هيجوأين» الهارب من الرقابة مسجلًا هدف اليوفي الأول في ظل نوبة من فقدان التركيز لأبناء «بوشتينيو».ولأن الفرصة كانت مواتية لفرض الاستحواذ على الملعب ولو لدقائق معدودة، فقد طلب «أليجري» بعد الهدف الأول من لاعبيه الحفاظ على الكرة والتمرير بوسط الملعب، وبناء هجمة بشكل منظم على عكس ما سارت إليه أمور اليوفي في الشوط الأول، كان الهدف من تلك الدقائق هو إحداث ثغرة جديدة هذه المرة من عمق الملعب بسبب التحركات المستمرة لـ”ديبالا، ساندرو” والتي زادت من ارتباك «داير، وديمبيلي». في الدقيقة 67 سيمرر «أسمواه» لـ«كيلليني»، ثم إلى «بارزالي»، ليهبط «هيجوأين» للاستلام بعمق الملعب بينما يتحرك «ديبالا» بذكاء كبير بين الخطوط وينطلق في لحظة معينة بشكل رأسي مُنفردًا باتجاه مرمى «لوريس»، ومطاردًا تمريرة ذهبية من «جونزالو»، ليسجل هدف التقدم لليوفي بعد تفاهم رائع مع ابن جلدته واستغلال جيد لسوء تمركز لاعبي توتنهام.
خريطة لهدف يوفنتوس الثاني الذي أحرزه باولو ديبالا. المصدر: Telegraph.
من أكبر المفارقات في تلك المباراة، هي الأرقام الإحصائية التي رصدها موقع whoscored بين الدقيقتين: 61 و68، فمثلًا نجحت كتيبة «أليجري» في إطلاق 5 تسديدات على المرمى مقابل صفر لرفاق «هاري كين»، تمكن اليوفي من تنفيذ 52 تمريرة مقابل 32 لتوتنهام، بل والأغرب أن السبيرز الذي أبدع في استرجاع الكرة بسهولة في الشوط الأول لم ينجح في أي تدخل أو عرقلة أو كرة ثنائية؛ كانت تلك الدقائق هو التحوّل الغريب الذي نفذه «أليجري» مستفيدًا من قلة خبرة لاعبي خصمه.
5 تسديدات لليوفي مقابل صفر لتوتنهام خلال من الدقيقة 61 وحتي 68. المصدر: www.whoscored.com

تاريخيًا، اليوفي لا يغامر كثيرًا بفوز كهذا، لذلك فقد عادوا من جديد للتراجع والتمترس حول مناطقهم. كانوا يعلمون أن الصدمة ستدفع توتنهام إلى الهجوم بكل ما أتوا من قوة بهدف استرداد ما فقدوه لتوهم، وبالتالي فإن أهم ما كانوا بحاجة إليه هو التركيز، والترابط بين الخطوط، إلى جانب بعض التوفيق الذي حالفهم في كرة «لاميلا» والتي أنقذها «بارزالي» من على خط المرمى.«أليجري» سرق الفوز في دقائق معدودة، تبديلاته كانت العنصر الرئيسي والأساسي في هذا الانتصار، تأهل اليوفي ليكون أحد الثمانية الكبار وتنتظره قرعة ليست سهلة بعد أسابيع، تُرى هل يمكن لـ«أليجري» بقيادة تحولات أخرى؟ أم أن كابوس برشلونة 2015 وريال مدريد 2017 سيلاحقه دائمًا؟