لمحة عن أزمة اليونان

لن نعود إلى الوراء كثيرا في سرد الأحداث، بل سنبدأ من النقطة التي أصبحت فيها اليونان غارقة في الديون وبحاجة إلى ديون جديدة لكي تسدّ هذه الديون القديمة، اليونان هي أحد الاقتصادات الصغيرة التي انضمت لمنطقة اليورو في عام 1981، وفي الواقع فإن أزمة اليونان ليست وليدة اليوم فقد بدأت الشرارة الأولى لها في عام 2004 عندما تم الإعلان بأن اليونان لم تكن مؤهلة منذ البداية لتكون ضمن المصرف النقدي الأوروبي الموحد، وذلك لأن البيانات الاقتصادية التي أُعطيت للجهات الأوروبية المسؤولة آنذاك تم تزويرها وأعطيت عوضًا عنها معلومات خاطئة عن صحة أداء الاقتصاد اليوناني.

وفي عام 2008 فرضت الأزمة الاقتصادية التي ضربت أسواق النقد العالمية على اليونان سياساتٍ تقشفية، وفقدت حكومة اليونان القدرة على اقتراض المزيد من اﻷموال لتغطية العجز في ميزانياتها أو لسداد ديونها وفوائدها المستحقة الدفع، وفي أكتوبر عام 2009 اعترفت الحكومة اليونانية الجديدة بأن الحكومة السابقة قد زيفت الحسابات القومية، وأن الحكومة الحالية تعاني من عجز في الميزانية، ثمّ تخطت الأزمة ذروتها مع وصول عجز الموازنة في اليونان إلى 13% من الناتج المحلي وهذا يمثل خمسة أضعاف ما هو مسموح به في منطقة اليورو.

نتيجة لسياسات التقشف تحول الغضب الشعبي إلى احتجاجات ومظاهرات في جميع أنحاء اليونان، ورغم التزام الحكومة بخطة التقشف لكن النتائج كانت كارثية، حيث أفرز تطبيق اتفاقية الإنقاذ الثانية تداعيات جديدة، منها: استمرار ارتفاع الدَّيْن العام الخارجي، الفشل في تحقيق الواردات المطلوبة نظرًا لعدم قدرة شرائح كبيرة من الشعب على تسديد ضرائبها والاستمرار في عملية التهرب الضريبي، ارتفاع مؤشر البطالة ليصل إلى مليون عاطل عن العمل، الاستمرار في تطبيق عدم المساواة في عملية توزيع الثروات، ارتفاع العجز بالميزانية الحكومية في عام 2013 إلى 8,8% بعدما كان 7,8% عام 2012، وأخيرًا استمرار البنوك المحلية في عدم منح قروض للمواطنين والشركات الخاصة لتسهيل صعوباتهم.

وفي 25 يناير 2015 تمكن “سيريزا”، الحزب اليساري الراديكالي، من تحقيق اﻷغلبية في الانتخابات البرلمانية ببرنامج انتخابي يعد اليونانيين بالتخلص من خطة التقشف، ومنذ تشكيل الحكومة اليونانية اليسارية الجديدة، أخذت المفاوضات بين الترويكا(الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي) وبينها شكلًا جديدًا، ولم يكن أمام الاتحاد الأوروبي إلا تقديم المساعدات إلى اليونان، لأن عجزها الاقتصادي سيتسبب في خروجها من الاتحاد الأوروبي، وخروج اليونان من المنطقة الأوروبية سيهدد الاتحاد الأوروبي بأكمله، بانخفاض عملته “اليورو” إضافةً إلى ما يمكن أن يسببه من اختلالات أمنية وعسكرية في أوروبا بأسرها.

بعد جولات شاقة من المفاوضات، توصلت كل من الـ”ترويكا” والحكومة اليونانية لاتفاق يتم بموجبه تمديد خطة اﻹنقاذ لمدة أربعة أشهر إضافية، مقابل تعهد الحكومة بالالتزام بمعايير التقشف وخفض اﻹنفاق التي تم الاتفاق عليها مع الحكومة السابقة.

الديون اليونانية

وخلال الشهور اﻷربعة اﻹضافية، استمرت مفاوضات شاقة بين الطرفين وفي النهاية لم يتمكن الطرفان من حسم المفاوضات، وفي شهر يونيو 2015، عرضت الجهات الدائنة متمثلة في مجموعة الترويكا، على أثينا اقتراحاً ينصّ على تمديد برنامج المساعدة لخمسة أشهر، مع حزمة من القروض بقيمة 15.5 مليار يورو في مقابل إصلاحات وإجراءات تقشّف مالية.

وبدورها، مارست الحكومة اليونانية سياسة حافة الهاوية وأعلنت رسميا عجزها عن سداد ديونها، وفي خطوة مفاجئة وغير مسبوقة منذ 40 عاما دعا رئيس الوزراء اليوناني أليكسيس تسيبراس لاستفتاء عام وطالب الشعب اليوناني، بالتصويت بـ “لا” في الاستفتاء، مهددًا بالاستقالة في حالة كانت نتيجة الاستفتاء نعم. وتظاهر عشرات الآلاف من اليونانيين، في العاصمة أثينا دعمًا لـ”أليكسيس تسيبراس” رئيس الحكومة، وتنديدا لإجراءات التقشف التي طالبت بها الترويكا، وفي خطوة غير متوقعة بعد نتائج الاستفتاء قدمت الحكومة اليونانية اقتراحاتها الجديدة للدائنين، في نص من 13 صفحة بعنوان “الإجراءات ذات الأولوية والالتزامات”، وتتلخص الاقتراحات اليونانية في:

  • تنظيم الدين العام البالغ حالياً 180 في المئة من إجمالي الناتج الداخلي.
  • تمديد برنامج الإنقاذ المالي الدولي والحصول على تمويل لمدة ثلاثة أعوام وإعادة جدولة ديونها.
  • زيادة ضريبة القيمة المضافة: تحدد ضريبة القيمة المضافة التي شكلت نقطة خلاف بين أثينا والدائنين خلال الأشهر الأخيرة من المفاوضات، بنسبة 23 في المئة بما يتضمن كذلك قطاع المطاعم حيث كانت ضريبة القيمة المضافة بمستوى 13 في المئة.
  • تعرض الحكومة إلغاء الامتيازات الضريبية للجزر (أي التخفيض بنسبة 30 في المئة لضريبة القيمة المضافة المطبق منذ عدة سنوات) بدءاً بالجزر الأكثر ثراء والتي تلقى أكبر قدر من الإقبال السياحي.
  • يحدد سن التقاعد ب67 عاماً أو 62 عاماً بعد أربعين سنة من العمل ويتم رفعه تدريجياً حتى العام 2022.
  • يتم تخفيض سقف النفقات العسكرية بمقدار 100 مليون يورو عام 2015 و200 مليون يورو عام 2016، بالمقارنة مع اقتراح الدائنين تخفيضاً بقيمة 400 مليون يورو.
  • توافق الحكومة على بيع الحصة المتبقية للدولة في رأسمال مؤسسة الاتصالات اليونانية التي تعتبر شركة دويتشه تيليكوم المساهم الرئيسي فيه.

ألمانيا بصفتها أكبر اقتصاد في أوروبا لا تريد لأي دولة الخروج عن الخطة المحكمة للتقشف واستغلال كل الموارد المتاحة للتقدم على أساس الديمقراطية الاقتصادية وليس على أساس الاشتراكية الديمقراطية التي تطلبها الحكومة اليسارية في اليونان، فكان الخيار الأخير للألمان ما يمكن أن يسميه البعض “معاقبة اليونانيين على اختيارهم” وتخلت المستشارة أنجيلا ميركل عن موقفها الرافض لإخراج اليونان من منطقة اليورو، وعادت لاتباع سياسة العصا والجزرة: “جزرة” جديدة قيمتها عشرون مليار يورو (27 مليار دولار) و”عصا” اتفاقية دين جديدة. وتضمنت المقترحات الأوروبية، التي لم تقبل، خطة إنقاذ جديدة، بالإضافة إلى تقديم مساعدات طارئة، على أن تتبنى أثينا في المقابل إجراءات تقشف صارمة منها:

  • تخفيض مستوى المعاشات.
  • طرد آلاف من موظفي الدولة مع خصخصة ممتلكاتها، بالرغم من أن نسبة البطالة تتجاوز ال 50%.
  • رفع سن التقاعد إلى 67 سنة.
  • زيادة ضريبة القيمة المضافة على المواد الغذائية.

بقاء اليونان في اليورو…جدل المؤيدين والرافضين

كان يوم (الأحد 5 يوليو 2015) يوما استثنائيا لليونان، إذ شهد استفتاء ليس فقط على الخطة الأوروبية الإصلاحية من أجل الخروج من الأزمة والخضوع لشروط الدائنين، وإنما مثل استفتاء على بقاء تسيبراس أو عدمه، وقد أظهر الاستفتاء رفض اليونانيين لحزمة الإصلاحات، بنسبة 61.31%، مقابل 38.69% لمؤيدي مقترحات الدائنين، وبلغت نسبة المشاركة في الاستفتاء 62.5% من أصل 9 ملايين و855 ألفاً و29 مواطناً يحق لهم المشاركة في التصويت.

بما يعنيه ذلك من فتح الباب أمام خروج اليونان من منطقة اليورو وعودتها إلى عملتها السابقة “الدراخما”، وما يمكن أن يتركه ذلك من تداعيات على اليونان ومنطقة اليورو بأكملها.

مما لا شك فيه، أن النتيجة الإيجابية الأهم للاستفتاء أنها تصب في صالح حكومة اليسار، فالتصويت بـ”لا” لم ولن يعني القطيعة مع أوروبا، وإنما يشكل وسيلة ضغط جديدة على الدائنين الدوليين لمنح أثينا اتفاقا قابلا للتطبيق لا يتسبب في عبء أكبر على الاقتصاد اليوناني، ويمكن أن يكون فرصة لرئيس الوزراء اليوناني تسيبراس للحصول على شروط أفضل لهذه الصفقة.

وهناك فريق يدعم سيناريو الانفصال ويرى أنه سيكون مجدياً، ويستند مؤيدو هذا الفريق إلى عدد من المؤشرات، أبرزها:

  • خروج اليونان من اليورو سيمكنها من استعادة قدرتها التنافسية تدريجيا عبر إعادة تقييم عملتها.
  • الانفصال عن اليورو ولو مؤقتا هو الإستراتيجية المثلى ريثما يتم الوصل لنقطة التوازن الاقتصادي على المدى البعيد.
  • خروج اليونان من المنطقة لن يكون أكثر كلفة مما كان قبل سنوات، ولن يؤدي لتحقيق نظرية الدومينو القاضية بتتالي خروج دول جنوب أوروبا المأزومة نتيجة خروج إحداها.
  • عدم تخلي اليونان عن جزء من سيادتها الوطنية لصالح الترويكا التي تعتبر الحاكم الفعلي لليونان، فأي قانون يُسنّ أو أمر إداري صادر عن الحكومة تتمّ دراسته أولاً من قِبل الترويكا لإقراره.

أما الفريق الاَخر فيذهب إلى أن سيناريو الانفصال سيكون كارثيا، ويستند مؤيدو هذا الفريق إلى عدد من المؤشرات، منها ما يلي:

  • الفوضى السياسية التي ستعم كافة أرجاء اليونان ومن حولها، نتيجة انهيار كافة قطاعات الدولة وعجز الدولة عن القيام بوظائفها.
  • أن اليونان المصنفة كثانية دولة بالعالم -بعد اليابان- من حيث ارتفاع دينها العام مقارنة بناتجها المحلي الإجمالي ستواجه خطر الإفلاس بديون تبلغ حاليا 318 مليار يورو (359 مليار دولار) وستتكبد بمجرد انتهاء حزمة الإنقاذ دون تمديدها خسارة بقيمة ثمانية مليارات يورو (تسعة مليارات دولار) دفعة واحدة، والعجز عن توفير مبلغ 18 مليار يورو (عشرون مليار دولار) لسداد رواتب موظفيها ومعاشات المتقاعدين، كما سيطلب منها رد كل المساعدات الأوروبية التي حصلت عليها لمنع نظامها المصرفي من الانهيار.
  • مع نهاية الدعم الأوروبي وما يعقبه من إغلاق للمصارف، ومشكلات في الائتمان، سوف يزداد التقشف سوءا في اليونان، ومن المرجح أن تصبح اليونان دولة فاشلة مما يؤدي إلى إلحاق الضرر بالشعب والقيادة.
  • مخاطر عدم الاستقرار الاجتماعي التي يمكن أن تصاحب انخفاض الأجور الحقيقية وارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى هجرة الشباب اليوناني باتجاه الدول الأكثر غنىً مثل دول أوروبا الشمالية وأميركا وكندا وأستراليا ودول الخليج العربي وتركيا، ومغادرة عدد كبير من الأجانب المقيمين في اليونان إلى أوطانهم أو بلاد أخرى.
  • التأثير على الميزان العسكري لأثينا، كنتيجة لتقليص النفقات العسكرية اليونانية.

بعد مرور 60 عاما من اجل تحقيق حلم الوحدة الأوروبية ستناضل أوروبا من أجل هذا الحلم مهما بلغت تكاليف الإنقاذ، لأن هذه التكاليف لا تقارن بالمكاسب التي يحققها الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو على المدى الطويل. في ضوء ذلك، من غير المنطقي أن تنفصل أوروبا واليونان لعدة اعتبارات:

أولا: إن بقاء اليونان في الاتحاد الأوروبي ومنظومة النقد الموحدة هو خيار استراتيجي لا تستطيع أية حكومة يونانية التخلي عنه، وكذلك هناك رغبة شعبية تصل إلى 60 بالمائة لبقاء اليونان في منطقة اليورو رغم الاعتراض على الإجراءات التقشفية القاسية. ورئيس سيريزا يدرك أن بلاده ليس لديها أي مقومات لتحمل كلفة هذا الخروج بسبب استمرار العجز الكبير في ميزانيتها، والمستويات المرتفعة لديونها والبطالة، وعجز صادراتها عن المنافسة من دون أوروبا.

ثانيا: المكانة الجيوبوليتيكية لليونان: تقع اليونان في جنوب شرق أوروبا وتعتبر بوابة أوروبا على البحر المتوسط، وأي فشل لليونان سيصب لصالح تصاعد نفوذ التيارات الشعبوية والمتطرفة في اليونان، وسيؤدي إلى تفاقم التوترات المتزايدة في جنوب شرق أوروبا.

ثالثا: إذا خرجت اليونان من دائرة النفوذ الألماني وعادت للتعامل بالعملة اليونانية القديمة “الدراخما”، ستبحث عن حلفاء آخرين مثل روسيا والصين، خصوصًا أن أوروبا كانت قدمت هذه المساعدات لتجنب ميل اليونان لروسيا والصين، بعد خسارة ألمانيا لجزء من نفوذها في أوكرانيا لصالح روسيا.

رابعا: في حالة انسحاب اليونان من منطقة اليورو ستواجه أوروبا أزمة ثقة كبيرة بين دولها، ستؤدي الأزمة إلى: خروج المستثمرين إلى أسواق أخرى مثل الولايات المتحدة واليابان، وستخسر أوروبا ما قيمته 160 مليار يورو من السندات، وستخسر ألمانيا وحدها من 60 إلى 80 مليار يورو، ستسحب الكثير من الشركات والقطاع الخاص رؤوس أموالها من اليونان، وهذا سيؤدي إلى إفلاس بعض البنوك اليونانية؛ وبالتالي إفلاس بعض البنوك الأوروبية.

خامسا: انسحاب اليونان من الاتحاد الأوروبي سيقود إلى فوضى وأزمة في النظام البنكي ليس فقط الأوروبي، وإنما العالمي، كذلك فإن عجز اليونان عن تسديد ديونها سيؤدي إلى تقليص قدرة البنوك الأوروبية على الإقراض، ما يعني أنه سيقود إلى كساد اقتصادي كبير في السوق الأوروبية.

سادسا: وصول أحزاب راديكالية يسارية إلى الحكم بسبب فشل النموذج الاقتصادي الحالي في أوروبا خاصة وأن جميع هذه الأحزاب يرفضون الترويكا الأوروبية وسياساتها الاقتصادية بشكلٍ عام في أوروبا. فوصول حزب سيريزا في اليونان سيعقبه صعود أحزاب يسارية أخرى في أوروبا، خصوصًا أن أكثر من دولة أوروبية قد نالت مساعدات من الاتحاد الأوروبي، وبشكل عام فإن اليسار الراديكالي في أوروبا خلال السنتين الماضيتين شاهد صعودًا واضحا: حصل التيار اليساري في أيرلندا على نسبة 20% وفي البرتغال 17% وفي السويد 11% وفي هولندا 10% و9% في ألمانيا وفنلندا، ونسبة 8% في الدنمارك.

سابعا: خروج اليونان من منطقة اليورو، سيعد سابقة تثير قلق حكومات أوروبية أخرى تئن تحت وطأة الديون، كإسبانيا وإيطاليا والبرتغال، بما يعنيه ذلك من إمكانية أن تحذو حذوها، وستتخلى الدول التي تتطلع للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، عن طموحهم نتيجة فقدان الثقة في المشروع الأوروبي وجدوى الانضمام له.

السيناريوهات المحتملة لمستقبل اليورو

نتيجة استفتاء اليونان

أخذت الأزمة القائمة بين أثينا والدائنين مسارًا خطيرًا للغاية لم يعرفه الاتحاد الأوروبي قبلا، واعتقد كثير من المراقبين أن انهيار اليورو بات مسألة وقت، ففي مقابل فرص استمرارية اليونان داخل اليورو، هناك فرص أخرى قد تؤول إلى الانهيار، وسط احتمال خروج اليونان من المنطقة وإمكانية أن تتبعها أيضا دول أخرى، ومنها:

أولا: أصبح حتما على أوروبا أن تكون مستعدة لتوفير المساندة المالية، نتيجة الأزمات المتتالية التي يواجهها أعضاؤها، والتي تدفعهم واحدا تلو الآخر إلى طلب المساعدة المالية أو الدخول في مفاوضات من أجل تأمين حزمة للإنقاذ المالي حتى لا تتعرض لمخاطر الإفلاس. فقائمة الدول التي تحتاج إلى المساعدة المالية، والتي ترتفع تكاليف الاقتراض بالنسبة لها على نحو واضح تميل نحو التزايد، وهي البرتغال وايرلندا وإيطاليا(صاحبة ثالث أكبر دين سيادي في العالم) واليونان وإسبانيا، وإن كانت حدة مشكلاتهم المالية تتفاوت، غير أن الجميع يشترك في خاصية الحاجة إلى خطط مكلفة جدا للإنقاذ المالي، وأن هذا الإنقاذ هو السبيل الوحيد لاستمرار الاتحاد النقدي واليورو، وربما لأوروبا الموحدة بأسرها.

ثانيا: خروج مجموعة الدول المضطربة ماليا من الاتحاد النقدي الأوروبي، على الأقل بصورة مرحلية، على أن تعود تلك الدول لاحقا بعد أن تستقيم أوضاعها المالية بما يسمح بإعادة اندماجها في الاتحاد النقدي الأوروبي، وهنا يثور الحديث عن التكلفة المالية المرتفعة للإنقاذ المالي التي ستتحملها الدول الرائدة مثل ألمانيا ستدفع كثيرا من الألمان إلى المطالبة بالخروج من اليورو، ذلك أن كثيرا من دافعي الضرائب الألمان غير راضين عن رؤية مليارات اليورو من حصيلة الضرائب التي تفرض عليهم تذهب لعمليات الإنقاذ لدول لم تكن تتمتع بالمصداقية في توجيه سياساتها الاقتصادية على النحو الذي يضمن متانة أوضاعها المالية، ومن المؤكد أن كثيرا من الألمان لا يرغبون في أن يروا ألمانيا تلعب دور المنقذ لمنطقة اليورو بتكلفتها المالية الرهيبة، مثلما فعلت من قبل عندما تم توحيد شطري ألمانيا.

يبدو أن التطورات تشير إلى كثير من مكامن الخطر التي تحيط باليورو حاليا، وبناء على ذلك، يرى المحللون أن هناك إجراءات لابد منها للتعامل مع مخاطر انهيار اليورو:

  • ضرورة وضع نظام للتحويلات المالية Fiscal Transfers بين الدول الأعضاء، وهو يمثل أحد الشروط الأساسية لمنطقة العملة المثلى Optimum Currency Area، خصوصا في أوقات الأزمات، بما يساعد الاتحاد النقدي على التخفيف من أثر أي أزمة سيولة طارئة تلحق بالدول الأعضاء في الاتحاد، وتمكين هذه الدول من التكيف مع مثل هذه الأزمات من خلال الدعم المالي الذي يقدم إليها.
  • على الرغم من الحديث عن نجاح الوحدة النقدية الأوروبية إلا أن الكيان الحالي ما زال يفتقد إحدى الخصائص المهمة للاتحاد النقدي؛ وهي عدم وجود نظام صارم للانضباط المالي بين الأعضاء في الاتحاد.
  • خلق عملة موحدة بين 19 دولة، تقوم كل واحدة منها بفرض الضرائب التي تناسبها وتبني برامج الإنفاق المالي التي ترغب فيها، أمر لا يتماشى مع سلامة واستدامة أي اتفاقية للاتحاد النقدي، حيث إن مثل هذه الخاصية قد تعمل على خلق الحوافز لدى الدول الأعضاء على غش النظام، وتشجع بعض الحكومات على أن تنفق أكثر من إمكاناتها المالية، لاطمئنانها بأنها ستحصل في المقابل على الحماية من الدول الأخرى الأعضاء الأقوى ماليا في النظام.(كما هو الحال مع أزمة اليونان).
  • إقامة خزانة أوروبية، لتمول جهود التعامل مع الدين العام الأوروبي والتشارك في مسؤولية القروض، من خلال السندات باليورو، وضرورة قيام نظام مالي مشترك، أو اتحاد مالي مشترك Fiscal Union على غرار الاتحاد النقدي، ومجمع ضرائب مشترك، وسياسات مشتركة للميزانيات العامة، حيث يتم تسليم السياسات المالية إلى إدارة مالية مركزية، إلا أن يرى البعض أن هذا المقترح الخاص بالوحدة المالية بين دول أوروبا سيعني نتيجة واحدة، وهي أن الديون السيادية الأوروبية ستكون ديونا ألمانية.
  • لا بد أن يدرك اليونانيون أن أزمتهم ليست فقط أزمة اقتصادية وإنما هي أيضًا أزمة سياسية واجتماعية تحتاج إلى إعادة هيكلة الخطط المستقبلية الحكومية. فالحزمة الثالثة من المساعدات ستعني المزيد من إجراءات التقشف التي أرهقت اليونانيين وتسببت بتراجع دخولهم وهجرة الآلاف من شبابهم إلى الخارج، وستذهب المبالغ الجديدة لخدمة الدين العام، ومع نسبة النمو الصفرية للاقتصاد اليوناني يصبح من المستحيل الوفاء بمستحقات الديون، وبالتالي لا بد من تشجيع السياسات التي ترتكز على تحقيق النمو بدلاً من الدخول في دوامة الإجراءات التقشفية، فأقصى ما يمكن أن تقدمه الترويكا هو خفض نسبة الفائدة على ديون أثينا أو تسديد هذه الديون على أقساط لفترات زمنية طويلة.

أما في المرحلة الراهنة، وفي ظل الغموض المحيط بمستقبل منطقة اليورو، وقدرة الأوروبيين على الخروج من الأزمة بأقلّ ضرر ممكن، فإن احتمال تعافي اليورو يغلب احتمال تدهوره رغم التقلبات المستمرة التي تعصف به لأن هذه الأزمة الأوروبية المتصاعدة أزمة وجودية لمنطقة اليورو، فالمؤسسات التي تعتمد عليها ألمانيا لحماية أسواقها التصديرية هي نفس المؤسسات التي يجب عليها محاربتها من أجل حماية الثروة الوطنية الألمانية.

يمكن القول، أن مستقبل العلاقات بين اليونان ومنطقة اليورو، هي مسألة ستكشف عنها الفترة القادمة، فرغم توافر مؤشرات عديدة تدعم من خيار الانفصال، ثمة شواهد واعتبارات أخرى ترجح استمرار اليونان في منطقة اليورو.

إقرأ المزيد

ستراتفور: الاستفتاء اليوناني والتقديرات الأوروبية الخاطئة ستراتفور: ما بعد المأزق اليوناني؛ من سيربح ومن سيخسر؟