في تطور مفاجئ وافقت موسكو على عقد صفقة صواريخ «S-400» مع تركيا، أحدث أنظمة الدفاع الجوي الروسي، ليثور المزيد من التساؤلات حول مستقبل العلاقات بين البلدين؛ فمثل هذا النوع من الأسلحة لم تمنحه روسيا أحدًا رغم طلب الكثيرين إياه، فهو ليس مجرد صفقة يجني من ورائها الروس أرباحًا طائلة بقدر ما هو سلاح سياسي واستراتيجي بامتياز، خافت منه دول حلف الناتو، وحذرت تركيا من هذه الصفقة مرارًا.


لماذا لجأ الأتراك إلى الـ S-400

شباب أتراك من مختلف الانتماءات السياسية يتظاهرون رفضًا لمحاولة الانقلاب العسكري – أنقرة – تركيا 16 يوليو/تموز 2016. (مصدر الصورة: Güven Yılmaz – Anadolu Agency)

كشف مساعد الرئيس الروسي لشئون التعاون العسكري والتقني «فلاديمير كوزين» يوم 29 يونيو/حزيران عن موافقة موسكو على تسليم أنقرة نظام الدفاع الجوي والصاروخي المتقدم من طراز S-400، ولم تمنع عضوية تركيا في حلف شمال الأطلنطي، الخصم الأول لروسيا، من الموافقة على مثل هذه الصفقة، فالرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» أبدى موافقته من قبل عليها ليدق إسفينًا جديدًا بين أنقرة والناتو، وليكسب الأتراك إلى جانبه في خصومته مع الأوروبيين، في ظل الشقاق المتعاظم ابتداءً بين الجانبين على خلفية محاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس أردوغان في يوليو/تموز 2016.

ونظرًا لأن منظومة S-400 أحدث أنظمة الدفاع الجوي المتطور لدى روسيا، فهي ذات تكلفة عالية، إذ يبلغ ثمن القطعة الواحدة من النظام حوالي 800 مليون دولار، ولهذا بحثت أنقرة عن تمويل هذه الصفقة من خلال قرض تقدمه لها روسيا لشرائه من الشركة المصنعة، لكن يبدو أن هناك مشكلة في تمويل الصفقة، إذ أعلن وزير الصناعة والتجارة الروسي، «دينيس مانتوروف»، يوم 30 يونيو/حزيران الماضي، أنه ليس هناك مباحثات حاليًا لتقديم قرض لتركيا من أجل شراء S-400.

ومسألة التمويل ليست المعضلة الآنية، فالأهم هي الموافقة السياسية على مثل هذه الصفقات النوعية، فقد اتفق الجانبان منذ بداية يونيو/حزيران الماضي على كل المسائل التقنية، لإبرام العقد، وقد سبق أن ناقش الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أبريل/نيسان الماضي، تفاصيل الصفقة مع نظيره الروسي، خلال لقائهما في سوتشي.

لجوء الأتراك إلى صواريخ الروس لحمايتهم ليس مفاجئًا، وإنما سبقته أحداث أثبتت وجود مخاطر على تركيا بسبب أنظمة دفاعها الجوي، فقد أعلنت الولايات المتحدة وألمانيا، في يوليو/تموز 2015، سحب بطاريات صواريخ باتريوت من تركيا بعد إعادة تقييم للتهديدات الناجمة عن الصراع في سوريا، والذي كان وقتها في ذروته، ما وضع تركيا في موقف صعب لحماية نفسها، فلم تكن خلال هذه الفترة على توافق مع روسيا.

ولم يكن أمام أنقرة وقتها ملجأ لشراء أنظمة دفاع جوي لحماية نفسها إلا الصين، وكانت على وشك إتمام الصفقة، لكن تدخل الناتو وأفشل الصفقة، بزعم وجود صعوبات في ربط المنظومة الصينية بالأنظمة الدفاعية التابعة للحلف، كما أن ربطها يهدد أمن المعلومات الاستراتيجي للحلف.

وبالفعل أوقفت أنقرة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، مناقصة ربحتها شركة CPMIEC الصينية لإنشاء نظام دفاعي صاروخي بالستي، بقيمة 3.4 مليار دولار، استجابةً لضغوط الحلف الذي لم يفِ بوعوده مع أنقرة بشأن منحها صفقة صواريخ باتريوت، إلى جانب نقل التقنية إليها، حتى الآن، وهذا يفسر سر توجه أردوغان في أبريل/نيسان الماضي إلى روسيا وطلبه S-400، ملتفًا على الخداع الأوروبي بحق بلاده.

واستمرارًا في تخلي الغرب عن تركيا قررت الحكومة الألمانية، مطلع يونيو/حزيران الماضي، سحب قواتها الموجودة بالكامل في قاعدة أنجرليك التركية، وإعادة نشرها في الأردن، وذلك بسبب التوتر المتزايد بين البلدين، وهو ما سيُعجل بدفع تركيا إلى محاولة سد الثغرات لديها، والضغط على الناتو الذي غدر بها.


السلاح الروسي يزيح الآلة الغربية

لجأت تركيا لشراء النظام الصاروخي S-400 لقدراته وإمكانياته المتطورة، إلى جانب تحسن علاقتها بموسكو، حيث تستطيع S-400 تدمير أنواع الأهداف الجوية كافة، بما في ذلك الصواريخ المجنحة التي تحلق بمحاذاة سطح الأرض، وكذلك الطائرات من دون طيار والرءوس المدمرة للصواريخ ذات المسار الباليستي، التي تصل سرعتها إلى 5000 متر في الثانية، كما تستطيع المنظومة التصدي لجميع أنواع الطائرات الحربية.

ومن المواصفات الفنية التكتيكية لـ S-400 مدى اكتشاف الأهداف، إذ يبلغ 600 كم، فيما يمكنها تتبع عدد من الأهداف في آن واحد حتى 300 كم، وتستطيع أيضًا تدمير الأهداف الجوية على مدى يبلغ 400 كم، فيما يصل مدى تدمير الأهداف الباليستية من 5- 60 كم، والارتفاع الأقصى لإصابة الهدف يبلغ 27 كم، وكذلك الارتفاع الأدنى لإصابة الهدف يصل إلى 100 متر.

ويمكن للمنظومة الروسية أن تدمر 36 هدفًا في وقت واحد، كما تتميز بسهول الإعداد والتجهيز، فزمن نشر المنظومة من الحركة يستغرق فقط 5 دقائق، ويمكن لها أيضا أن تطلق 72 صاروخًا موجهًا في آن واحد، ولم يقف التطور الروسي عند هذا الحد، إذ تعمل الآن على تطوير نسخة S-500، وهي ستفوق في مواصفاتها منظومة الباتريوت الأمريكية، كما يُرَوَّج لها.

ومثل هذه الإمكانيات ستخرج تركيا من ضغوطات الناتو والاتحاد الأوروبي، كما تستطيع حماية نفسها من هجمات الأكراد الصاروخية، الذين قد يحصلون على أسلحة متقدمة من واشنطن، وقد يحصلون أيضًا على دعم السعودية والإمارات في ظل الاصطفافات الحدّية على هامش الأزمة الخليجية.


S-400: هل تُخرج تركيا من الناتو؟

منظومة S-400 هي أحدث أنظمة الدفاع الجوي الروسي، ويبلغ ثمن القطعة الواحدة من النظام حوالي 800 مليون دوﻻر

عارض الناتو من قبل الصفقة الصينية لإنشاء نظام باليستي لتركيا، خوفًا من اختراق الصينيين لأمنه، والأمر نفسه ينطبق على روسيا، العدو الأكبر لهم، لذا من المؤكد أن الناتو سيضغط على أنقرة لإلغاء الصفقة، لكن قد لا يتراجع أردوغان هذه المرة إلا إذا حصل على ما يريده، وهو صفقة باتريوت، إلى جانب نقل خبرات التدريب والتصنيع إلى بلاده.

تدفع الظروف الإقليمية والدولية تركيا إلي التعجيل بصفقة S-400، وذلك علي خلفية توتر علاقتها مع الاتحاد الأوروبي وخاصة مع ألمانيا

ويتخوف الغرب من غزو الأسلحة الروسية لمناطق نفوذه ومصالحه، حيث تتخلى هذه الدول عن السلاح الأوروبي، إلى جانب تهديد حلفاء وشركاء لها بالمنطقة، كما عارضت من قبل صفقة صواريخ S-300 بين روسيا وطهران، والتي تمثل تهديدًا لدول الخليج.

ولعدم امتلاك تركيا لأنظمة دفاع جوي متقدم وضعها تحت دائرة الابتزاز السياسي من قبل الناتو، وذلك على خلفية توتر علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، والتي ما زالت مستمرة، وخاصة مع ألمانيا التي زادت في خصومتها مع أنقرة، وسحبت قواتها التابعة للحلف من هناك بالكامل.

تدفع الظروف الإقليمية والدولية تركيا الآن إلى التعجيل بصفقة S-400، ومن المحتمل أن تدخل الآن في مواجهة صعبة ستحتاج إلى أسلحة ردع وحماية في الوقت عينه، فمن ناحية بدأت واشنطن تدعم بشكل مباشر الأكراد وقدمت لهم أسلحة ثقيلة، رغم اعتراض تركيا، إلى جانب توفير الحماية الجوية.

والآن تقف تركيا إلى جانب قطر في أزمتها مع دول الخليج التي فرضت حصارًا عليها وطلبت منها أشياء لا يمكن للدوحة تنفيذها، وكان من بين المطالب طرد القاعدة التركية من أراضيها، ولم تكتف تركيا بالتضامن مع قطر، بل وافق البرلمان التركي على الفور على الاتفاقية الدفاعية الموقعة بين البلدين، وأرسلت قوات عسكرية إلى قطر لدعمها.

ونتيجة للموقف التركي الداعم للدوحة تحاول الخليج إثنائها عن ذلك، فبعثت بوزير الخارجية البحريني إلى أردوغان، لكن يبدو أن ذلك لم يفلح، إذ استمرت تركيا في إرسال دفعات متتالية من الجنود إلى قطر، ولهذا قد تلجأ الإمارات والسعودية إلى الضغط على أردوغان بورقة الأكراد، إلى جانب دفع حليفهم الأمريكي ترامب إلى الضغط على تركيا بورقة الناتو وأسلحته.