شهر عسل لم يدم طويلا

لم تكن هناك علاقات أمريكية-روسية عقب اندلاع الثورة البلشفية 1917 حتى بدأها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت 1933م على استحياء وباعتبار أن أعداء أعدائي أصدقائي؛ فقد تحالفت الدولتان في مواجهة النازية الألمانية في الحرب العالمية الثانية. وحتى قبل هذا التحالف المُعلن، قدمت الولايات المتحدة المساعدات لنظيرتها الروسية لتقاوم المد النازي في أراضيها.

ثم لم يلبث هذا التحالف أن تفكك مع نهاية الحرب العالمية، واشتعل فتيل ما يعرف بـالحرب الباردة 1947 وبدأت مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية بينهما كانت أشبه بسباق نفوذ وتصارع أيديولوجيات؛ تلك التي رفعها كلا الطرفين (الديموقراطية الليبرالية مقابل الشيوعية).


السبت الأسود وأزمة الصواريخ الكوبية

«ستكون سياسة هذه الأمة إزاء أي صواريخ نووية تنطلق من كوبا ضد أي دولة في النصف الغربي هجوما على الولايات المتحدة، وستكون ردة الفعل الانتقامية كاملة على الاتحاد السوفيتي»بهذه الكلمات صدر الرئيس الأمريكي جون كينيدي خطابه للأمة الأمريكية فى الثاني والعشرين من أكتوبر 1962، في بيان تحذيري ألقاه عقب التقاط طائرة استطلاع أمريكية صورا لصواريخ متوسطة المدى تحمل رؤوسا نووية. هذه الصواريخ تم تهريبها إلى كوبا بمعاونة الاتحاد السوفييتي وكانت بعد محاولة انقلاب فاشلة أدارتها المخابرات الأمريكية CIA على الحكومة الكوبية المتحالفة مع الاتحاد السوفييتي.

أغلب الأراضي الأمريكية باتت في مرمى الصواريخ الكوبية، وكان العالم بحق على حافة حرب نووية مدمرة لن تكون عواقبها مدينة أو مدينتين كهيروشيما وناجازاكي، بل ستذهب على الأغلب لإحراق دول بأكملها.

يروى روبرت كينيدي شقيق الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت: “الشعور السائد كان الصدمة وعدم التصديق”. وبالفعل كانت الصدمة كاملة، فوكالات التجسس الأميركية عجزت عن رصد أي إشارات تحذيرية مسبقة.

وعلى الرغم من حصول وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA على عدة تقارير من مخبرين كوبيين حول مواكب مشبوهة تتحرك خلال الليل، إلا أن الوكالة استبعدت هذه التقارير المبهمة والتي تناقض الفرضية السائدة لدى الأمريكان بأن موسكو لن تجرأ على نشر قنبلة ذرية على مسافة قريبة إلى هذا الحد من الولايات المتحدة. (بحسب ما نشره المؤرخ مايكل دوبز)

حاصرت الولايات المتحدة كوبا من البحر لقطع أي إمدادات عسكرية سوفييتية، وطالبت السوفييت بسحب كافة الصواريخ الهجومية من كوبا، إلا أن الاتحاد السوفييتي رفض علانية كل الطلبات الأمريكية. واتخذ الجانبان طريق المفاوضات بشكل سري أسفر عن موافقة الاتحاد السوفييتي على سحب كافة الصواريخ على أن تتعهد الإدارة الأمريكية في المقابل بسحب صواريخها من تركيا، وأن تلتزم أيضا بعدم توجيه ضربة عسكرية لكوبا. وكان هذا الاتفاق في الجمعة 26 أكتوبر.

وفي صباح اليوم التالي، أُسقطت طائرة تجسس أمريكية من الأجواء الكوبية وبات يعرف هذا اليوم بـالسبت الأسود لأن الأمر بدا فيه خارج السيطرة. واعتزم البنتاجون بدء الحرب بقصف جوي مكثف على كوبا يليه غزو بري بـ 120 ألف جندي. وسبقت حكمة الرئيس الأمريكي ونظيره الروسي غضبهما وتوصلا أخيرا لاتفاق سلمي يجنبهما ويجنب العالم بأسره جحيم الحرب النووية التي كانت على وشك الاندلاع.

اخترنا من بين كل الأزمات التي خلفتها الحرب الباردة هذه الحادثة لأن العالم على إثرها بالفعل كان على وشك حرب نووية مدمرة لولا تعقل قادة الجانبين في الوقت المناسب.


محاولات رأب الصدع

في السبعينات، رغم أنه لم تكن نهاية الحرب الباردة، إلا أن ثمة محاولات تمت للحد من حدة التوترات بين البلدين بفضل رئيس الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون ومستشاره للأمن القومي هنري كيسينجر، وليونيد بريجنيف السكرتير العام للحزب الشيوعي.

وكانتأهم الإنجازات التي خرجت بها هذه المحاولات:

1. اتفاقية للحد من استخدام الأسلحة النووية وُقعت 1992م.

2. تطورت العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وبدأت الولايات المتحدة في تصدير كميات كبيرة من الحبوب لنظيرتها الروسية لسد حاجتها الغذائية.

أحد أهم نقاط التوتر التي استطاع الطرفان فيها إدارة الأزمة (ولاحظ أننا دائما ما نتكلم عن إدارة الأزمة لا تجنب وقوعها من البداية): الحرب العربية ضد إسرائيل؛ حيث دعم الاتحاد السوفييتي مصر وسوريا، بينما دعمت الولايات المتحدة إسرائيل. وبحكمة الطرفين لم تتسع الحرب لتضم بلادا أخرى؛ بل انتهت بجهود دبلوماسية ساعد في إيجادها بعض الثقة التي باتت بين موسكو وواشنطن.

بالحديث عن أبرز المعضلات التي كانت فى الطريق لرأب الصدع نذكر منها:

1. فشل الطرفين في التوصل لمعاهدة تفرض مزيدا من الرقابة على الاستخدامات النووية العسكرية.

2. بعض حالات حقوق الإنسان كانت مثار جدل وتوتر بين البلدين: أشهرها قضية المنشقين السوفييت، أمثال أندريه ساخاروف الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل للسلام، وألكسندر سولجنيتسين الروائي الروسي المعارض الحائز على جائزة نوبل للأدب.

3. كان هناك صراع بينهما في إفريقيا؛ صحيح أنها لم تكن مواجهات مسلحة مباشرة، إلا أنهما دعما أطرافا متحاربة ضد بعضها لبسط مزيد من النفوذ وكسب عدد أكبر من الحلفاء.


بداية النهاية

الغلاسنوست والبيريسترويكا. بهذه الكلمات الروسية سطّر الاتحاد السوفييتي بداية النهاية. ابتدعها ميخائيل غورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي، وأقرها كنظام لإدارة الاتحاد؛ وتعني المكاشفة وإعادة البناء، وله كتاب بهذا المعنى.

وقد حرص غورباتشوف على طرح هذه الرؤية لإدخال إصلاحات اقتصادية وسياسية على بنية الحزب الشيوعي والجهاز الإداري للاتحاد السوفييتي، وفتح المجال أمام الشباب لشغل مناصب قيادية بالحزب، والسماح بعودة المنفيين خارج البلاد.

هذه الرؤية أفضت إلى جدل واسع داخليا وخارجيا انتهى بانفلات الأوضاع وانسحاب الاتحاد السوفيتي تدريجيا من المشهد الدولي مفسحا المجال للولايات المتحدة. وانهار الاتحاد السوفييتي نهائيا 1991م.

بالنظر لأسباب هزيمة الاتحاد السوفييتي بنهاية الحرب الباردة فلدينا عوامل كثيرة:

أولا: أسباب تتعلق بالجانب الأمريكي كصلابة الرئيس رونالد ريغان وجاذبية المبادئ التي ترفعها الإمبراطورية الأمريكية، أضف أيضا أن الرأسمالية بطبيعتها جاذبة للأموال والاستثمارات. إضافة إلى سياسة الاحتواء التي انتهجتها أمريكا لعشرات السنوات.

ثانيا: على الجانب الروسي حضرت بعض الأسباب التي يُعزى إليها التراجع السوفييتي. أولها وأهمها قيادة الرئيس ميخائيل غورباتشوف وسياساته الجديدة؛ ثم خضوعه للمطالب الأمريكية في البؤر الخلافية رغبة منه فى تجاوز التفوق الأمريكي في ذلك الوقت.


أمريكا وروسيا ما بعد الحرب الباردة

سقط الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينات، وتحديدا 1991م، ونشأ عن تحلله مجموعة دول مستقلة أكبرها روسيا ثم أوكرانيا وكازاخستان واستونيا ولاتفيا وليتوانيا، ودول منها انضمت للاتحاد الأوروبي كبولندا والمجر.

“I looked the man in the eye. I found him to be very straightforward and trustworthy, I was able to get a sense of his soul.”

بالضبط هذا ما قاله الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بعد لقائهما الأول عام 2001م.

ورغم اندحار الأيديولوجيا كثيرا بعد الحرب، والتي كانت عنوان الصراع بين البلدين طوال فترة الحرب الباردة، أصبحت المصالح الجيوبوليتيكة وموازين القوى الدولية العنوان الأبرز للتنافس والصراع الثنائي.

أما العداوة فتتركز غالبا في رغبة الولايات المتحدة في إقامة علاقات ثنائية وثيقة مع الدول الغربية مبنية على الهيمنة والحلول أحادية الجانب، دون أي اعتبار للجانب الروسي.


التكاتف في مواجهة الانتشار النووي المدمر

كونهما أكثر وأقدم دول العالم امتلاكا للأسلحة النووية، فإليهما يعزا انتشار هذه الأسلحة، والمعروفة بأسلحة الدمار الشامل. وعليهما أيضا يقع عبء الحد منها ومنع انتشارها لمنع المزيد من الخراب والدمار. ودائما ما كان الحديث عنها يستحضر إلى الأذهان مأساة هيروشيما وناجازاكي، وكذلك الأزمة الكوبية التي كانت على وشك إحراق الولايات المتحدة.

الخطوة الأولى فى هذا الاتجاه اتخذها جورج بوش الأب ونظيره غورباتشوف 1991م، بتقليص الأسلحة النووية لـ 6000 قطعة لكل منهما. (هذا العدد كبير جدا لكن بالنظر لكونه أول اتفاق بهذا الشأن. وجاء مباشرة مع انتهاء الحرب الباردة فهو يعد إنجازا كبيرا للبلدين اللتين كانتا تملكان 13,000 قطعة للجانب الأمريكي و11,000 قطعة للجانب الروسي)

الاتفاق الثاني كان بين الرئيس يلتسن ونظيره الأمريكي كلنتون 1993م، لتقليص القدرات النووية العسكرية لـ 3000 قطعة. وفي 2002م وصل الاتفاق لـ 1700 قطعة.

وأخيرا الاتفاق الذي تم بين الرئيس الحالي أوباما ونظيره بوتن عام 2010م، بتقليص القدرات النووية العسكرية لكلا الطرفين إلى 1550 قطعة لكل منهما بحلول 2017م.


الجغرافيا السياسية تحل محل الأيديولوجيا!

اندحرت الأيديولوجيا بشكل كبير كسبب رئيسي في الصراع وحلت محلها الجيوبوليتيك أو الجغرافيا السياسية.

تولي روسيا اهتماما كبيرا في سياستها الخارجية لدول الاتحاد السوفييتي المستقلة -والتي تعتبرها روسيا داخل محيطها وتحت وصايتها- وهو ما بدا واضحا في عدد من التحركات؛ أبرزها التدخل الروسي في الإنتخابات الأوكرانية 2004م، حين دعمت روسيا بأساليب معلنة وغير معلنة مرشحها الخاص، ودعمت المنظمات المدنية الموالية للمعسكر الغربي ومعها الحكومة الأمريكية المرشحين المنافسين، وشهدت تلك الانتخابات توترا حادا في حينها.

كما خاضت روسيا حربا ضد جمهورية جورجيا، فقط لدعم جمهورية أوسيتيا الجنوبية الانفصالية ضد جمهورية جورجيا. صحيح أن الحرب دامت فقط لـ 6 أيام إلا أنها عبرت عن نية روسيا الواضحة لحماية حلفائها وكل ما يدعم الفخر الروسي الذي اهتز أواخر القرن الماضي.


الأزمة السورية في حلبة الصراع

(
الرئيس الأمريكي جورج بوش برفقة نظيره الروسي فلاديمير بوتن)

دعنا في البداية نعود لمارس 2011م، حيث كانت الشرارة الأولى للأزمة والتي خرج فيها المحتجون يطالبون فقط بإصلاحات سياسية واقتصادية، ولم يكن الأمر في البدايات بمثابة ثورة لاقتلاع النظام كما كان الأمر في تونس ومصر وليبيا، إلا أن الرد العنيف من نظام الأسد جعل من الأمر مأساة غير قابلة للتصديق.

فقد مثلت سوريا الأسد آخر القلاع الحصينة للنفوذ الروسي في الشرق الأوسط. وبالنظر إلى ولاء بيت الأسد التاريخي للحلف الروسي، ومقاومتهم للتيار العربي الجديد الذي اتخذ، منذ عهد السادات، من واشنطن قبلة له. فقد كان من الصعب على موسكو أن تنحني لرياح التغيير القادمة من دمشق لا سيما بعد أن اعتبرت أنها قد خُدعت حين قبلت –أو بالأحرى لم ترفض– تدخل الناتو في ليبيا؛ الأمر الذي ترى أنه سلم ثروات الأخيرة على طبق من ذهب للأمريكيين وحلفائهم الأوروبيين.

في المقابل كانت واشنطن حذرة دوما في تعاملها مع المسألة السورية، حتى حين حسم أوباما أمره وطالب صراحة بتنحي الأسد، فقد ظل متوجسا من دعم غير محدود للثوار المسلحين خشية أن يقع ذلك الدعم في أيدي الجهاديين، وهو الأمر الذي حدث بالفعل في غير مرة.

تدرج الدعم الروسي للأسد لكنه كان كافيا لبقاء الأخير في سدة الحكم، فشكل الفيتو الروسي في مجلس الأمن درعا سياسيا ظل يحمي حكام دمشق من أي قرار قد يؤثر على مجريات المعارك الدائرة في البلاد.

وحتى حين ظهر عزم واشنطن على التحرك بمفردها خارج إطار الأمم المتحدة –عقب مجزرة الكيماوي التي قامت بها قوات الأسد في غوطة دمشق- فإن اقتراحا روسيا بوقف الحملة المفترضة في مقابل تسليم دمشق لمخزوناتها من الأسلحة الكيماوية قد شكل طوق النجاة للأخير من عقاب أمريكي بدا حتى وقت قريب قدرا لا مفر منه.

ومع تطور المعارك وهزيمة قوات النظام في عدة مناطق وانسحابها من العديد من المناطق الأخرى، وفي وقت بدا فيه حكم الأسد مهددا بالزوال قبل أي وقت مضى، تدخل الدب الروسي -في خطوة غير معتادة- عسكريا هذه المرة. وأقرت موسكو في لهجة بدت مليئة بالزهو بصحة التقارير الغربية التي تحدثت عن نقل الأخيرة قطعا عسكرية متطورة إلى داخل الأراضي السورية.

وتوالت التقارير والصور التي تتحدث عن إقامة قواعد عسكرية جديدة على الساحل الروسي أو توسيع وتعزيز القائم منها بالفعل، وهو الأمر الذي ردت عليه الولايات المتحدة برد وصفي تحليلي ينتقد الخطوة ويعتبرها تزيد المشاكل تعقيدا ولا تحل شيئا.

بدت واشنطن عاجزة أكثر من أي وقت مضى على الرد على تلك الخطوة في ظل خوفها من رد يضعف الأسد فيقوي داعش، أو السكوت فيعزز هذا من الدعاية القائلة بالعجز الحقيقي لواشنطن في مقابل بوتين الذي لم يجد من يردعه في أوكرانيا فكرر استفزازاته على سواحل المتوسط.