هدفي من ما وراء الطبيعة ليس إفزاع الشباب؛ بل تشويقه ودفعه للتأمل والتفكير

أزعم أن وجدان القطاع الأكبر من القراء الشباب، مواليد أجيال الثمانينيات والتسعينيات لا يرتبط بسلسلة قصصية بقدر ما يرتبط بتحفة العرّاب «د.أحمد خالد توفيق» التي ظل سنوات يبدع بكتابة فصولها ويطلق العنان لخياله بمغامرات تتجدد مع الشخصية الأهم «رفعت إسماعيل».

ولمن لا يعرف «رفعت» فهو بطل أسطورة «ما وراء الطبيعة»، الذي تكاد تنعدم فيه صفات البطولة الظاهرية حتى يشبهه العرّاب نفسه بـ«زجاجة زيت التموين» سوى أنه يتمكن من القيام بأفعال مدهشة تتخطى حاجز المظهر والكهولة إلى قدرات تكفى لهزيمة الشر؛ هو ببساطة فن أدبي يسمى anti-hero، لا يمنح البطل صفات الوسامة، الشجاعة الملحمية، قيادة الجموع، لكنه على الجانب الآخر يمنحه صفة واحدة تحول مصيره تمامًا!

كثيرًا ما تمكن الأدب والسينما من شغل مساحات للالتماس مع كرة القدم، فتارة يعبران بشكل مباشر عن قيم اللعبة والغوص في أسرارها المعقدة، وتارات أخرى يلقيان بظلالهما على عالم المستديرة بتقديم وقائع أو شخصيات تتشابه مع تلك بكرة القدم.

لم يكن أمر البحث عن المعادل الأدبي والدرامي لـ«نجولو كانتي» صعبًا، بل إن الفرنسي قد يمتلك كل الصفات التي تؤهله بطلًا تندرج حكايته تحت تصنيف الـ«anti-hero»، وتنتهي حتمًا بالتتويج بالبريمرليج للعام الثاني وسط إشادة بالغة.


(كانتي * كانتي) + درينكواتر

يوما ما كانتي سيمرر الكرة وسيركض لاستقبال التمريرة
كلاوديو رانيري، المدير الفني السابق لليستر سيتي.

في ظروف عادية، لم يكن أحد لينتبه للاعب كرة قدم ضئيل الحجم، أقصر من 170 سم، لا يمتلك مهارة مراوغة خارقة، لا يطلق تسديدات صاروخية، لا يحب التمريرات عابرة الخطوط، لا يجيد التفاعل مع الجمهور، قليلًا ما يفتح فمه للكلام ناهيك عن الاعتراض، فضلًا عن عدم تسجيل رقم خرافي من الأهداف، وأخيرًا لا يمتلك بالطبع رفاهية الاستعراض بقصات شعر جديدة، تمامًا هو الحال مع «رفعت إسماعيل» الطبيب الكهل، غير الوسيم، الذي يعيش وحيدًا ولا يكف أحيانًا عن السعال بسبب شراهة التدخين.

لكن ظروف الثنائي لم تكن يومًا عادية، بل شديدة الاستثناء، فمع سطوع حلم «ليستر سيتي» لقمة الدوري بدا حتميًا أن شخصية اللاعبين وقدرتهم على مضاعفة الجهود المبذولة بالمباريات سوف تلعب دورًا مهمًا بتتويج أسطوري لـ«رانييري».

يقول «ستيف ويلش» المدير الرياضي السابق لـ«ليستر سيتي» عند سؤاله عن سبب التعاقد مع الفرنسي: «الشخصية، والمسئولية»، يري «ويلش» أن تقييم اللاعب لا يكون فقط عند امتلاك الكرة، بل الأهم بأوقات عدم الاستحواذ؛ بتلك المعايير تبدو استحالة فوز «ليستر» باللقب بدون «كانتي»!

فيما أضاف «درينكواتر» العمق لوسط ملعب الثعالب، كان «كانتي» يمنح حيوية غير محدودة تشكيلة «رانيري»، تمامًا كمحرك السيارة الذي لا يمل ولا تنفد طاقته، حتى أن «ويلش» نفسه يعتقد أن «ليستر» امتلك غالبية الوقت أفضلية عددية بوجود لاعبين وليس واحدا فقط بجانب «درينكواتر»!

حيلة الفرنسي كانت بسيطة للغاية، الانتشار على امتداد وسط الملعب عرضًا إما بالضغط على الخصم أو الظهور فجأة بزاوية تمرير لأحد زملائه الذي يعاني من الضغط المضاد، بجانب التهام المساحات الطولية على الأطراف بالمرتدات.

الحيلة البسيطة أنتجت رقمًا صعبًا على كل فرق إنجلترا، فبينما يشتهر البريمرليج بالنزعة البدنية، تحول الشاب ضئيل الحجم الذي أتى لتوه من فرنسا لشبح يعاقب من يخطئ باستلام أو تسليم الكرة منتزعًا الاستحواذ، وينجح بالخلاص من الحصار الضاغط مهما كان حجم أو خبرة الخصوم؛ «كانتي» يعامل الكرة كالجوهرة التي تزداد قيمة وبريقًا كلما تحملت الضغط.

نجولو كانتي مع نادي ليسترسيتي الإنجليزي.

فيما انشغل العالم بسلسلة أهداف «فاردي» وتألق «محرز»، لم يسعَ الفرنسي لجذب الأضواء أو الصراخ بأنه الأفضل، ولولاه لما كان الحفاظ على قمة الدوري بموسم 2016 بهذه السهولة، بل استمر في الركض وإفساد هجمات الخصم التي تتحول سريعًا لأهداف عكسية.

هذه الصفات تتقاطع بشكل مباشر مع حالة «رفعت إسماعيل» الذي يستثمر عقله لتخطي المصاعب، لم يفضل أن يملأ العالم ضجيجًا عن قيمة وجوده أو أهمية إنجازه، بل تابع إبهار القارئ مع كل فصل، بل إن العرّاب نفسه يعترف بأن «رفعت»، صنيعته الأدبية، يمتلك القدرة على إبهاره!


كيف كان يومك؟

كانتي غادر، الآن سيفوز تشيلسي بالدوري
جاري لينكر، تويتر- يوليو 2016.

كان الجميع يظن أن نبوءة «لينكر» والعدم سواء بعد الأسابيع العشر الأولى من بداية الدوري، فبعد غياب بصمة الإدارة الفنية وأداء باهت ونتائج مخيبة تسببت في ابتعاد البلوز عن المنافسة، كان لـ«كونتي» أن يثبت للمالك الروسي أن استثماراته لم تذهب هباء، انطلق غول التكتيك الإيطالي ليعيد جدولة أوراقه مع «تشيلسي» بأسلوب لعب 3/4/3 الذي يعتمد على صلابة قلب الملعب وخطورة الأطراف الهجومية.

أدرك «كونتي» حقيقة إمكانياته لاعبيه ودرس أفضل الطرق التي تناسبهم، وحسنًا فعل مع لاعب مثل «كانتي» عندما لم يفضل تحجيم إمكانياته أو تقليص أدواره في الركض والانتشار واستعادة الكرة، بل منحه الإطار الذي يمكنه خلاله للفرنسي تقديم الأداء الأفضل وعمل على تطوير رؤيته للملعب ودقة وأهمية تمريراته ناهيك عن إحداث حالة من الانسجام مع «ماتيتش» وكأن الثنائي لم يلعبا معًا موسمهما الأول!

خلال أربع مرات فائتة تمكن «تشيلسي» من الفوز بالبريمرليج بعد حفاظه على القمة بعد أعياد «الكريسماس»، هذه المرة كان بانتظارهما اختبار صعب بشهر فبراير بملعب «الأنفيلد»، بدا خلاله «كلوب» عازمًا على قلب الطاولة وممررًا شحنة من الحماس للاعبيه تضاعفت باستضافة الملعب التاريخي لأجواء المباراة، المباراة كانت اختبارًا حقيقيًا لقدرة «كونتي» على المواصلة محافظًا على القمة.

الغريب هو عظمة الأداء الذي ظهر به الشاب الفرنسي بمباراة بتلك الصعوبة، فقد قام بـ14 تدخلا ناجحا ومؤثرا على لاعبي الخصم واستعاد للبلوز الكرة أكثر من 9 مرات، استطاع تأمين نقطة غالية رفقة زملائه مهدت لهم الطريق لمزيد من التأكيد على أحقيتهم بالبطولة.

كانتي حوّل تشيلسي لأبطال الموسم، هازارد وكوستا فقط استعادا مستوياتهما، لكن كانتي هو السبب
كارلو أنشيلوتي.

تصريح «أنشيلوتي» يمنحنا نقطة مهمة للتأمل، لقد ذكر الاسمين اللذين ينافسان «كانتي» على لقب الأفضل بالموسم، لكن الاسمين سبق لهما المرور بتجارب أضعاف الفرنسي الذي لم يظهر أصلًا على الساحة سوى العام الماضي، لقد أراد «كارلو» أن يقول إن أداء «هازارد، كوستا» هو نتاج سنوات من التطور والتدريب تحت أسماء كبيرة، لكن «كانتي» الذي يراه العامل الأهم للفوز بالبريمرليج مازال يمتلك المزيد وستضاعف خبراته لاحقًا.

خلال الأسابيع القادمة سيتنافس مراسلو القنوات والمواقع الرياضية على الحصول على تصريحات من «كونتي» ولاعبي البلوز، ربما يسعد أحدهم بموافقة «كانتي» لكن عليه ألا يتوقع إجابات استثنائية من الفرنسي تصلح كمنشتات صحفية، على العكس ستقع أغلب إجاباته معتادة ومتوقعة فسيتحدث خلالها بصفة الجمع وسيبدو ممتنًا لمدربه ولزملائه، وسيتجنب بالتأكيد المديح، ربما سيسأله أحدهم خلال أحد حفلات توزيع الجوائز التي اكتسح أغلبها: «كيف كان يومك؟»، سيبتسم الفرنسي ابتسامته المعتادة ويرد بهدوء: «بخير، أنا سعيد»، فقط بدون أي إضافات.


على رقعة العرّاب: إلى أين؟

نجولو كانتي مع نادي ليسترسيتي الإنجليزي.

خلال الفترة الماضية، نشرت شبكتا «بليتشرريبورت وهوسكورد» ثلاث إحصائيات مرعبة خاصة بـ«كانتي»، فيما تعالت دعوات المقارنة بينه وبين مواطنه الآخر الرائع «ميكاليلي»، تبدو إحدى نقاط المقارنة هي متوسط التمريرات بالمباراة الواحدة، فيما يمتلك الأخير 15 تمريرة فإن «كانتي» يمتلك 60، بل إن الشاب الفرنسي بموسمه الأول مع البلوز يقترب من معادلة عدد تمريرات «ميكاليلي» كلها خلال 5 مواسم قضاها بالستامفورد بريدج!

الإحصائية الثانية لا تقل رعبًا، بمنتصف ديمسبر الماضي كان «كانتي» يلعب مباراته رقم 52 بالدوري الإنجليزي محققًا الفوز بـ35 مناسبة، ونسبة فوز إجمالية تتخطي 67%، متفوقًا بذلك على أسماء كـ«جون تيري، يايا توريه، بيتر تشيك، أجويرو».

أما الإحصائية الأخيرة تلك التي نشرت خلال ديسمبر الماضي عن أكثر لاعبي البريمرليج تحقيقًا للتدخلات والعرقلات الناجحة، أتي فيها الفرنسي بالمركز الثالث محققًا 401 محاولة ناجحة بعد كل من «مونريال وبيترز» بثلاث محاولات ومحاولتين، كان ذلك بديسمبر وحتمًا قد انفرد حاليًا بصدارة تلك القائمة، ناهيك أصلًا عن كونه كان قد لعب حينئذ موسما ونصف الموسم فقط مشاركًا بمباريات أقل كثيرًا منهما.

نجولو كانتي مع نادي تشيلسي الإنجليزي في موسم 2016/2017.

بعد كل تلك الأرقام ذات الدلالة الواضحة، يبدو مؤكدًا أن خطوة «كانتي» بالخروج مبكرًا من «ليستر» كانت هي الأصح بخلاف ما فضلّه «محرز وفاردي» بالبقاء لموسم آخر، لقد قرأ الفرنسي سريعًا أن ملحمة الثعالب قد انتهت وسوف تتصاعد المشاكل والخلافات ناهيك عن موسم حافل بالتعاقدات لصالح الأندية الكبيرة، وبناء عليه فإن تأجيل استغلال الفرصة بالانتقال قد يكون له أثر سلبي على مسيرته، والنتيجة أن «كانتي» هو بطل الدوري فيما نجج بالكاد “فاردي، محرز” بالهروب من شبح الهبوط.

وحسنًا فعل باختياره للبلوز، فيما قد ترحب كل أندية الدوري الإنجليزي بوجوده، فإنه فضل اللعب للنادي الذي يعيد إحياء مشروعه مع مدرب له باع مع تطوير اللاعبين ويعرف طريق البطولة.

إن السؤال الآن هو عن الخطوة القادمة لـ«كانتي»، أحد أهم ملامح أسطورة الدكتور «رفعت» هي قدرته على المواصلة والاستمرار، لم تستنزف التجربة إمكانياته سريعًا، بل ظل لسنوات يتجاوز المصاعب، من المرجح أن العرّاب يعرف عامًا معينًا هو الأهم بمسيرة بطله «رفعت إسماعيل»، وبناء عليه كان للأخير أن يحافظ على لياقته الذهنية، الأمر ذاته مع «كانتي» الذي سيمر خلال الموسم القادم باختبار مركب يبدأ بمحاولة التوغل الأوروبي بجانب المحافظة على العرش المحلي، وينتهي بالمونديال رفقة كتيبة مدججة بالنجوم!

بالعودة لعنوان المقال، لا يوجد أي إشارة عن متابعة د.«أحمد خالد توفيق» لأجواء الكرة العالمية والمحلية، وبذلك يكون أغلب الظن أن العرّاب لا يعرف الكثير عن «كانتي»، لكني أظن أنه إذا اختار إضافة تحفة ما جديدة بجانب «السنجة، في ممر الفئران» تتعلق بعالم المستديرة، فإنه سيعجب بقصة اللاعب العظيم «نجولو كانتي».

المراجع
  1. تقرير شامل من بليتشرريبورت عن إحصائيات كانتي
  2. مقارنة كانتي وميكاليلي