«ربك يحبهم والكرة تحبهم»، بتلك الكلمات صرخ المعلق التونسي «عصام الشوالي» تعليقًا على هدف الأهلي بالثواني العشر الأخيرة من الوقت بدل الضائع بالسوبر الأفريقي قبل ثلاثة أمام وفاق سطيف الجزائري، لم تفوت الفرصة على «الشوالي»، ليؤكد أن الأمر بات اعتياديًا للأهلي الذي يتقن التسجيل بملاعب شمال أفريقيا في الدقائق الأخيرة محولًا دفة المباراة لصالحه، التونسي ذكر بالاسم تلك الملاعب التي عاد منها الأحمر القاهري بالانتصار متحديًا بكل مرة ظروفًا صعبة؛ في مقدمة تلك الأسماء يأتي ذلك الملعب صاحب الوقع السحري والمفتاح الذهبي للأميرة الأفريقية: بطولة دوري الأبطال.

لا يمكن أن يقع اسم الملعب الأولمبي برادس على مسامع أي مشجع أهلاوي دون أن تمر برأسه سحابة ملونة من ذكريات الفرح، من الأغنيات الحماسية، من جنون اللحظات الأخيرة، من أصوات صراخ الاحتفال لمائة مشجع أحمر بمواجهة سكون خمسين ألفا بكل ألوان الدنيا، من منشور الفيس بوك لصديقك الذي يعيش الأجواء مباشرة داخل أركان الملعب.

قرابة الـ16 عاما والملعب الأوليمبي برادس لايزال يحتفظ للأهلي بعهده الذي يتجدد مهما تغيّر الطرف التونسي، رادس الذي أصبح تميمة الحظ الأولى للأحمر خارج الديار تحول لحكاية من حكايات الأهلي عبر سنواته التي جاوزت القرن، حكاية عنوانها الإثارة ومضمونها شخصية الأهلي التي تتألق بسماء القارة، وختامها هو قدرة المساندة الجماهيرية على تعديل الأمور؛ صدق من قال: من غير جمهورك مصيرك مجهول!


في الشدة أنا برضة ضهرك

يبدأ الأمر دومًا بتعثر بمباراة الذهاب في القاهرة، فمهما بدت الأجواء أكثر من مناسبة لقتل المباراة وإحراز أكبر عدد من الأهداف، إلا أن الطرف التونسي ينجح بالخروج بأقل الخسائر الممكنة ويؤجل الحسم لمباراة العودة.

يمكن إرجاع التعثر المتكرر بالقاهرة لعوامل عدّة، منها بالتأكيد الإحباط الذي يتسرب لنفوس لاعبي الأهلي بعد إهدار حزمة من الفرص السهلة أمام المرمى، عندها يتحول الوقت لعامل معاكس ويبدأ الخصم بامتصاص الضغط الحماهيري ويكتسب الثقة ليقلب الطاولة بفرصة أو أكثر مهددًا مرمى الأحمر.

فخلال مباراة ذهاب نصف نهائي دوري أبطال 2001 أمام الترجي أطلق «إبراهيم سعيد» تسديدة صاروخية ارتطمت بالعارضة ليجد أحد مهاجمي الأهلي الكرة لحسن حظه ولسوء حظنا تحت أقدامه منفردًا ليهرع بالتسديد بالزاوية الوحيدة التي يتمركز بها الحارس لترتد من جديد، فيسدد مرة أخرى ولكن بالقائم الأيسر، المعلق الراحل «حمادة إمام» ظل خلال عشرين ثانية يصرخ :«مش ممكن مش ممكن» ثم تنبأ بأن تتحول تلك الهجمة لفرصة تاريخية ستتناقلها الأجيال القادمة بالدهشة، صدقت نبوءته عندما نشرتها صفحة «Troll Football» ذات يوم من ضمن أغرب الفرص الضائعة؛ لو كنت بدأت التخمين حول اسم ذلك المهاجم الذي أهدر الفرصة علي مرتين فلا لم يكن «وليد أزارو»!

الأمر لم يختلف بمباراة ذهاب نهائي دوري أبطال 2006 عندما التقى الأهلي بالصفاقسي إلا بأن رفاق «فلافيو» كانوا قد أمطروا مرمى «الجوّاشي» بسلسلة من الفرص الخطيرة، نجح الأخير بإنقاذها أو علت قليلًا عن مرماه، ليأتي الحل أخيرًا عن طريق ضربة ثابتة نفذها «تريكة» بسهولة ضربات الجزاء.

من المفارقات الغريبة أن الفرق التونسية تجيد دومًا استغلال رتم مباريات الذهاب، فيعرف كل فريق نقاط قوته وضعفه أمام الأهلي، ثم يذهب لتقسيم المباريات لمراحل، وأخيرًا يضرب بأوقات الغفلة وانعدام التركيز بين خطوط الأهلي، هذا بالضبط ما نجح به رفاق «أمير حاج مسعود»، لتنتهي المباراة 1/1 وسط أجواء حزينة ازدادت حزنًا بتزامنها مع وفاة الراحل «محمد عبدالوهاب» !

لا تحتاج لأحد كي يذكرك بذهاب نهائي دوري أبطال 2012 بإستاد برج العرب أمام الترجي، فقد كان سيناريو شبيهًا من لقاء نصف نهائي هذا العام علي الملعب ذاته، نفس الفرص التي أهدرها بسهولة لاعبو الأحمر، نفس الكرة الركنية/الثابتة التي سجل منها الترجيون، بل نفس أخطاء «شريف إكرامي» إلا بأن النسخة الماضية من «عبدالله السعيد» كانت أجود وأكثر تأثيرًا، وتنفيذه للكرات الثابتة كان أقل غرابة!

والنتيجة باللقاءين واحدة: غناء واحتفال لأنصار الأحمر والأصفر، ووعيد بما سيلاقيه نسر الأهلي بتونس قبل أن يكفوا لحظة عن الغناء، ليتذكروا أن المباراة ستقام برادس؛ نعم الأهلي في عيون البعض كابوس ليس إلا!

والقاسم المشترك بين كل ما سبق يبقى هو تضاؤل الفرص قبل مباراة العودة، ومن ثم يسكن خليط من المشاعر نفوس جمهور الأهلي، فالنتائج والأرقام لا تمنحهم سوى القلق والتشكك واليأس، لكن الأمل بالتفوق التاريخي للأهلي لايزال يراود تلك النفوس، بل يدفع ببعضهم للحاق بالأراضي التونسية لتقديم الدعم النفسي وبث الحماس عبر حناجرهم؛ هي الحالة التي أبدع فيها جمهور الأهلي أنفسهم بوصفها عبر هتافهم «في الشدّة أنا برضة ضهرك».


ثلاثة مشاهد في نوفمبر

كانت شمس رادس تستعد للغروب فيما استعد «أنيس بوجلبان» لاستقبال أبهى لحظات مجده المهنية كقائد للصفاقسي، فقد مرت أغلب دقائق نهائي العودة باتجاه زملائه، رتم الأهلي ممل وبطيء في غياب «بركات وشوقي» والأداء السيئ لـ«تريكة»، وساعة الملعب بدأت تستبد بكل ما هو أحمر!

مذاق المرارة يتسلل من القاهرة نحو دكّة الأهلي ثم إلى الملعب، لكن البرتغالي وحده يبدو بعالم آخر يراجع حساباته كمن يلعب الشطرنج، على رقعة رادس يقرر عساكره أن وقت تحضير الهجمة والنقل السليم للكرة قد فات لذلك لجأوا للكرات العالية تفاديًا للاشتباك مع التوانسة بوسط الملعب ولاحتمالات إهدار الوقت أو لارتداد عكسي يغتال كل شيء.

لابد أن عشرات السيناريوهات كانت تدور برأس «تريكة»، أقربها للتحقق هو الأسوأ، فالتعادل الآن يعنى خسارة اللقب التي تعني نقطة تحول لصحوة جيل كامل من الموهوبين، قد يفكر بالاستفادة من ضربة ثابتة أو ركنية.

لكن «شادي» يقطع وصل استغراقه ويرسل كرة طولية، بلمح البصر يهرب «عماد» بنموذجية ليمهد لـ«فلافيو» الذي بدوره يحمل قدم الماجيكو اليسرى أصعب مسئولية ممكنة حينها.

يقرر الماجيكو أن التعامل بمنطق لن يفك أبدًا طلاسم الموقف الورطة، وأن احتمالات الخطف والمفاجأة الأن أقوى من أي منطق في محاولة المراوغة أو الحصول على ضربة الجزاء، يطلق العنان لقدمه لتقلب الطاولة في بعض الثواني التي توقف أثناءها العالم، فلم يسمع أحد كلمات «رؤوف خليف»، لم يكتشف أصحاب المقاهي حجم التلفيات التي نتجت عن الاحتفال، لم يدرك أي من القابعين بمنازلهم كم أقدموا على أفعال هيستيرية، وبالطبع لم ينتبه أحد لاحتفال «أحمد السيد» الذي كاد أن يكسر رقبة الماجيكو، حتى جمهور الترجي فشل بكتمان الشماتة، وبدأ الهتاف: «يا..يا..يا..يا..يا تريييييكة»!

هل لازلت تتذكر صاروخية «إبراهيم سعيد» أمام الترجي؟! حسنًا، فقبل خمسة أعوام من مشهد «تريكة» كان «سيد عبدالحفيظ» يرسم مشهدًا آخر من لمحة فريدة أيضًا على عشب تونس، فخلال عودة نصف نهائي البطولة نجح الترجي بافتتاح التسجيل لتبدو المهمة أصعب لكن البلدوزر كان يتحين فرصة مناسبة للدغة قاتلة!

لم يصدق أحد أن يسدد «عبدالحفيظ» الكرة المشتتة من تلك المسافة البعيدة بهذه الطريقة، فقط ليفاجئ المعلق «الشوالي» بأن الكرة سكنت فعلًا مرمى الترجي كالكرباج على حين غفلة.

مشهد الاحتفال التاريخي بالهدف كان شديد الرمزية، وكأن العبور من رادس مثّل مفتاح الانطلاق لجيل من أبناء الأهلي لحصد اللقب الغائب، جيل ظهر بين صفوفه «الحضري، جمعة، غالي، عبدالحفيظ، بيبو»؛ لهواة البكاء على الأطلال «إبراهيم سعيد» قدم مباراة مدهشة فائزًا بأغلب الالتحامات الأرضية والجوية.

على الأقل «جمعة، غالي، عبدالحفيظ» كانوا جميعًا حضورًا بموقعة نهائي 2012، الموقعة التي فاجأ فيها «البدري» الكل عندما دفع بـ«تريكة، بركات» على الدكّة مراهنًا على «جدو، السيد حمدي»، لكن حقيقة الرهان كانت على القائد «حسام غالي»!

من دون المبالغة الجزم بأن صاحب الرقم 14 لم يترك أي مهمة فنية من مهام صانع الألعاب المتأخر إلا وأداها بشكل مُرضٍ، من شاشة التلفاز تبدو أحجام لاعبي الترجي أكبر، مما يعني أن الضيوف سيعانون بالالتحامات البدنية، لكن أمرا من ذلك لم يحدث على دائرة الملعب.

فقد فاز «حسام» بأغلب الالتحامات الهوائية والأرضية حتى أن لاعب الترجي لم يجد إلا الدفع بكوعه في وجه «غالي» محاولًا خطف الكرة، ليفاجأ بأن الأخير كان قد سقط ونهض قبل أن يعرف هو كيف استولى الأهلاوي على الكرة!

كالعنكبوت بالضبط؛ نسج خيوطه منتشرًا بكل أرجاء الملعب، موفرًا لزملائه زوايا لتمرير الكرة للتخلص من الضغط وموزعًا عشرات الكرات الخطيرة التي أرهقت دفاع الخصم، كل ما كان على «جدو، حمدي، وليد» هو الحركة والتهام المساحة لأن «حسام» كان دومًا قادرًا علي ضرب الخطوط.

القيادة الفنية لفريقه التقت مع حفاظه على حالة التركيز بين زملائه، فقد خابت الظنون التي خشيت أن يخرج «غالي» عن انتباهه وينساق لمناوشات مع الخصم، خاصة بعد أن كان ضمن الكتيبة التي خسرت من الفريق ذاته بمساعدة يد المهاجم «إينرامو» والحكم «جوزيف لامبتي»الموقوف حاليًا بالمناسبة.


مفارقات على العشب

يقول «إسلام الشاطر» إن «مانويل جوزيه» كان قد جمعهم قبل لقاء العودة بنهائي الصفاقسي ليخبرهم بداية بأن الأهلي سيفوز بالبطولة، ثم بدأ البرتغالي برسم سيناريو للمباراة وبالتبديلات التي سيجريها، بل إنه تنبأ بأن يتأخر الهدف لنهاية المباراة حتى لا يتمكن التوانسة من إدراك الصدمة، يظن «الشاطر» أن البرتغالي شاهد المباراة قبل أن تُلعب!

هذا النسق الذي تحدث من خلاله لاعب الاهلي السابق يبدو أنه سمة ثابتة لتفوق فني أحرزه مدربو الأهلي على مدربي الخصوم كلما التقوا برادس، أمر التفوق تحول لمفارقة غريبة بحيث تمكن الفريق القاهري من تحييد عوامل الجمهور والملعب والأفضلية النفسية بكل مرة، ثم فرض مجريات المباراة بما يناسب إمكانياته ليتمكن من ضرب الخصوم وضمان أن يتلقى أقل عدد من الهجمات الخطيرة.

مدربو الأندية التونسية؛ من اليمين «نبيل معلول»، «مراد محجوب»، «فوزي البنرزتي»

الأغرب أن التكتيك الذي يلجأ الأهلي له في رادس لا يبدو إعجازًا شديد التعقيد، بل أحيانًا لا يعدو أن يكون أبرز عوامل الفوز خدعة معروفة للكل تنطلي على مدربي الخصوم، وينصب الاهتمام الرئيسي على ضرورة تنظيم الصفوف والتحرك ككتلة واحدة تفاديًا لأخطاء فردية كارثية.

بالمباراة الأخيرة مثلًا اعتمد «حسام البدري» على الضغط العالي بشوط المباراة الأول بهدف استغلال هفوات دفاع الترجي، لكنه ما لبث أن تراجع عنه بالشوط الثاني مستدرجًا لاعبي وسط ودفاع الترجي لحدود وسط الملعب، الأمر الذي خلق مساحة شاسعة للمرتدات مانحًا الحرية أطرافه بالانطلاق، ومشددًا على وسط ملعبه بضرورة الوقوف أمام الاختراق العكسي، أحسن حينما دفع بـ«أجاي» الذي قدم موسمًا بديعًا، و«معلول» تكفل بالباقي!

معدن اللاعب الكبير إذن هو ما يصنع الفارق، مهما ظهرت كلمات «الروح، العزيمة، الجرينتا» بشكل كلاشيهي أو مبتذل إلا أنه واقعيًا لا يوجد فريق يحول هزيمة لانتصار وموقفا صعبا لعبور بدون تلك القيم.

تأمل موقع «معلول»، الذي ينال أصلًا انتقادات حادة بسبب تباين مستواه بين منتخب تونس والأهلي، تسبب بخطأ فادح بشوط المباراة الأول، لكنه حول دفّة الملعب بالشوط الثاني، لا أعرف حتى الآن كيف فاز بالتحام مع «فرانس كوم» بالهدف الثاني.

أمر معدن الكبار ينعكس أيضًا في موقف «تريكة» عندما رحب بجلوسه بنهائي 2012، بل باحتفاله الاستثنائي بهدف «وليد سليمان» الذي أنهى أي أمل للترجي وكأنه هو الذي سجل؛ كبير يا ماجيكو طول عمرك.