شهدنا خلال العقدين الأخيرين وقائع مؤسفة وكارثية من التداعيات الخطيرة للانفصام السني/الشيعي الذي يكاد عمره يتجاوز 11 قرنًا -منذ تبلور المذهب الشيعي الاثنى عشري الذي يعتنقه أكثرية الشيعة المسلمين- لا سيّما في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003م، وسوريا بعد انقلاب ثورة 2011 الشعبية إلى ما يشبه حربًا أهلية ذات امتدادات إقليمية وتدخلات دولية. ورغم أن تلك الأحداث المؤسفة كانت بالأساس سياسية ميدانية، فإنَّ البُعد الديني الطائفي، والملفات التاريخية الملتهبة، كان حاضرة أو للدقة تُستَحضَر من أجل الحشد والحشد المضاد في تلك النزاعات والاقتتالات، وتلقى تلك الخطابات رواجًا خطيرًا، يُترجَم على أرض الواقع إلى دماءٍ وأحقاد طائفية لا يعالجُها الزمن.

وقد ثارث في الأسابيع الماضية ضجةٌ كبيرة عندما أعلنت قناة «البشائر» الشيعية العراقية أنها أنتجت مسلسلًا بعنوان «شجاعة أبو لؤلؤة النهاوندي» يُمجِّد أبا لؤلؤة الشهير بالمجوسي، قاتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب. وقد فاقم تلك الضجة تزامنُها مع أنباء عن إنتاج قناة «mbc» السعودية مسلسلًا عن حياة معاوية بن أبي سفيان، المذموم للغاية عند الشيعة، وامتلأت مواقع التواصل بنقاشات طائفية متبادلة بين الشيعة والسنة حول المسلسلين. كشفت تلك النقاشات أن شخصية القاتل أبا لؤلؤة ليس محلَّ اتفاقٍ على الإدانة بين السنة والشيعة، وأنَّ أبا لؤلؤة لا يزال يحظى بوضعٍ خاص لدى قطاعاتٍ عديدة من الشيعة، وهذا ما سنبحث عن جذوره وتمثلاته المعاصرة في هذه الجولة.

اقرأ: رجال حول معاوية: ظالمون ومظلومون في بلاط الملك.

لماذا يكره الشيعة عمر بن الخطاب؟

لا يمكن فهم مسألة تمجيد القليل أو الكثير من الشيعة لقاتلٍ غادرٍ – وهذا توصيف موضوعي لمن يطعن من الخلف آمنًا يصلي – مثل أبي لؤلؤة المجوسي، بمعزل عن الموقف السلبي الشائع بين الشيعة تجاه ضحيته الفاروق عمر بن الخطاب، الذي يحمله الغالبية العظمى من الشيعة، لا سيَّما الاثنى عشرية، وهم أكثرية الشيعة لا سيَّما في إيران والعراق ولبنان.

هذا الموقف السلبي يجعلهم بالتالي لا ينظرون إلى واقعة اغتياله تلك النظرة السلبية السائدة عند جمهور المسلمين من المذاهب الأخرى، بل تزعم بعض المصادر السنيةولهذا شواهد واقعية – أن بعض الشيعة يحتفلون بذكرى اغتيال عمر، ويعتبرونها عيدًا، يطلق عليه البعض عيد الزهراء، وعيد الشكر،  يزورون فيه مقامًا مزعومًا لأبي لؤلؤة – ويلقبونه بابا شجاع الدين – في مدينة كاشان الإيرانية، وأن تلك الاحتفالات بدأت قبل أكثر من 500 عامٍ في عصر الدولة الصفوية التي كان تغذي التطرف الشيعي لأغراضٍ سياسية في حربها الطويلة مع الدولة العثمانية السنية. وقد حظرت السلطات الإيرانية تلك الاحتفالات في السنوات الأخيرة منعًا للفتنة. 

يعتبر الشيعة – لا سيَّما الإمامية الاثنى عشرية – أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هو المتآمر الأكبر على حق الإمام علي، كرم الله وجهه، في ولاية أمر المسلمين بعد وفاة الرسول، عليه الصلاة والسلام، فهم يروْن أن آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول أكدت تلميحًا وتصريحًا أن الإمام علي هو الأحق بالولايتيْن الدينية والسياسية بعد وفاة الرسول، وأن عمر بن الخطاب كان مهندس الانقلاب في سقيفة بني ساعدة -التي وصفها بالفلتة التي وقى الله شرَّها- الذي منح الخلافة إلى أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وأصبح هو وزيره، ثم الخليفة من بعده. 

ويرى هؤلاء أن المخطط المزعوم لابن الخطاب ضد ولاية علي قد بدأ قبل وفاة الرسول، عليه الصلاة والسلام، وتجلَّى فيما يُسمَّى بـ«رزية يوم الخميس» وهو الخميس الأخير في حياة الرسول عندما كان مريضًا على فراش الموت، وطلب أن يناولوه صحيفة ليكتب فيها كتابًا لا يضلون بعده أبدًا، فاختلف الحاضرون ومنهم عمر بن الخطاب الذي قال ما معناه أنه لعلَّ الحمى قد جعلت الرسول يقول ما لا يريد، وأن كتاب الله يكفينا، فغضب الرسول، ولم يكتب لهم شيئًا. يدعي الشيعة أن عمر فعل هذا لأنه كان يخشى أن يكتب الرسول، عليه الصلاة والسلام، الوصية إلى علي بالإمامة والخلافة. 

ثم ينسب الشيعة واقعة أخرى مأساوية إلى عمر بن الخطاب، تُعرف بحادثة الدار أو حادثة كسر الضلع، التي ترتكز على رواية يجتمع عليها السنة والشيعة مفادها أن عمر كان قلقًا للغاية من تأخر الإمام علي في بيعة أبي بكر الصديق بالخلافة، لا سيَّما عندما بلغه أن الإمام علي والزبير، رضي الله عنهما، يجتمعان مع بعض رموز بني هاشم ممن تأخروا عن البيعة في بيت السيدة فاطمة الزهراء، فزارها عمر، وهدَّدَ بأنه رغم مكانتها العظيمة في قلب كل مسلم، فإنه على استعداد أن يحرق بيتها إذا لزم الأمر لدرء الفتنة.

أضافت الروايات الشيعية الكثير من الإضافات الدرامية إلى تلك الرواية، فزعمت أن عمر بن الخطاب اقتحم بيت فاطمة بعد أن أحرق بابه، واعتدى عليها بالضرب وكانت حاملًا فأجهضت، ثم اقتادَ فارس الإسلام علي بن أبي طالب ليُبايع أبا بكرٍ مُكرَهًا!

وينكر جمهور علماء السنة تلك الواقعة جملة وتفصيلًا، وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يصفها بـ الإفك المفترى، ويصف من يصدقونها بأوصافٍ قاسية في كتابه «منهاج السنة النبوية».

.. إني مصرت لكم الأمصار ودونت لكم الدواوين، وإني تركتكم على الواضحة، إنما أتخوَّفُ أحدَ رجلين، إمَّا رجل يرى أنه أحق بالملك من صاحبه فيقاتله، أو رجل يتأول القرآن على غير تأويله
الخليفة عمر بن الخطاب على فراش موته مخاطبًا مع حضره من الصحابة، نقلًا عن كتاب «السيرة النبوية وأخبار الخلفاء» للمُحدِّث ابن حبَّان

ولسنا هنا في معرض نقاش مآخذ الشيعة تلك على عمر بن الخطاب، ومدى منطقيتها، فقد أُشبعت نقاشًا وردًا في كتابات علماء السنة القدامى والمعاصرين.

لكن ما أحب أن أسلط الضوء عليه أن ذلك الموقف السلبي من الشيعة تجاه الفاروق لا يزالُ يثير حساسيات طائفية كبيرة بين المسلمين، ويُسهم في تكريس القراءات السنية الأكثر تشددًا تجاه الشيعة -القراءات الوهابية المتطرفة-  التي تعتبرهم فرسًا مجوسًا يحقدون على الفاروق عمر لأن الجيوش الإسلامية في عهده دمرت الإمبراطورية الفارسية المجوسية، وتتحدث عنهم في المجمل كأنهم ملة أخرى غير مسلمة، يُعبَّر عنهم أحيانًا بوصف الدين الشيعي، لا سيَّما وأن جمهور أهل السنة يرون بنصوص صحيحة عندهم أن عمر بن الخطاب من المبشرين بالجنة، وممن توفى الرسول وهو عنهم راضٍ، وأنه من أهل بدر، ومن السابقين الأولين من المهاجرين ومن أهل بيعة الرضوان الذين نصّ القرآن الكريم على الرضا عنهم.

هل يمجد كلُّ الشيعة أبا لؤلؤة المجوسي؟

رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي نَقْرَتَيْنِ، فَقُلْتُ: يَسُوقُ اللَّهُ لِي الشَّهَادَةَ وَيَقْتُلُنِي رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، نقلًا عن «أنساب الأشراف» للبلاذري.

لا شكَّ أن الصورة السائدة عن أبي لؤلؤة عند الشيعة في المجمل مختلفة كثيرًا عن النظرة السنية إليه، لكن هناك تباينًا ظاهريًا كبيرًا بين الشيعة المعاصرين في حكمهم على أبي لؤلؤة المجوسي. من أبرز الممثلين المعاصرين لوجهة النظر الشيعية الأكثر تطرفًا في تمجيد أبي لؤلؤة، الداعيةَ الشيعي كويتي الأصل والمثير للجدل ياسر الحبيب، والمتهم من السنة وقطاع من الشيعة بالطائفية والتطرف. ففي رده على سؤال لأحد الأشخاص حول مسألة اغتيال أبي لؤلؤة للخليفة عمر، ذكر الآتي:

  • لم يكتفِ بتمجيد أبي لؤلؤة والترحم عليه، إنما أمَّن على الدعاء بأن يُحشَر معه يوم القيامة، تعبيرًا عن الثقة المطلقة في أنه من أصحاب المراتب العليا في الجنة.
  • أكّد أن الدافع الرئيس لأبي لؤلؤة لقتل عمر لم يكن احتجاجه على ما رآه عدم إنصاف الخليفة عمر له في شكايته من المبلغ اليومي الذي فرضه عليه سيده المغيرة بن شعبة من أجل نيل حريته، إنما رغبة أبي لؤلؤة في الانتقام للزهراء وآل البيت. 
  • جدّد ما يشتهر به هذا الطيف من متطرفي الشيعة من لعن عمر بن الخطاب وإلصاق تهمٍ خطيرة به، ومن بينها أنه ظلم السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول، عليه الصلاة والسلام، وقتلها (إشارة إلى واقعة الدار).
  • فسّر ما نقلته روايات المصادر السنية من مشاهد احتضار الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- التي بدا فيها خوفه من لقاء الله، واستغفاره الكثيف من الذنوب والخطايا، بأن هذا ليس من كمال إيمانه وعدم اغتراره بعمله، وهو ما يُمتَدَح دائمًا من منظور الدين، إنما كان ندمًا حقيقيًا على ما يزعم أنها جرائمه في حق الزهراء وآل البيت. 

في المقابل، هناك أصواتُ شيعية أقل تطرفًا تتناول تلك الواقعة بنوعٍ من الحيادية، فلا تُمجِّد ما فعله أبو لؤلؤة، وإن كانت تشير إلى أن الأمر في أساسه خلافُ شخصي عائد إلى إحباط أبي لؤلؤة المجوسي وحنقه على الخليفة لعدم إنصافه عندما اشتكى إليه من المبلغ المالي الذي كاتَبَه عليه سيده المغيرة بن شعبة.

يحاول هؤلاء حرفَ سياق النقاش إلى إلقاء اللائمة على المغيرة بن شعبة في واقعة اغتيال عمر بن الخطاب، فالمغيرة كان مشهورًا بالدهاء والمكر، وهو رمز مكروه للغاية عند الشيعة لتحالفه مع معاوية بن أبي سفيان، فيستريبون من طلبه في رسالة أرسلها من مقر ولايته بالكوفة إلى الخليفة عمر أن يستثني غلامَه أبا لؤلؤة من حظر دخول المشركين إلى جزيرة العرب، لأنه ماهر للغاية في صناعاتٍ يدوية مختلفة يحتاجها المسلمون. ويتوقف أصحاب تلك النظرية في كون أبي لؤلؤة كان مسلمًا من عدمه، لكنهم يقرون بضعف الروايات التي تعده من أنصار آل البيت، وأنه قتل عمر انتصارًا للزهراء .. إلخ.

ويذهب الشيخ اللبناني علي الكوراني العاملي إلى رأيٍ غريب يتحدث عن مؤامرة يهودية – أموية ضد الإسلام، وأنهم هم من دفعوا بأبي لؤلؤة -الذي يرى أنه كان مسلمًا- ليقتل عمر بن الخطاب لكي يفسحوا المجال لوصول عثمان بن عفان الأموي إلى الخلافة، ليستأثروا بها وينقلبوا على الإسلام.

بينما يتفق الأكاديمي والشيخ اللبناني الشيعي حسين الخشن -في مقالٍ على موقعه الرسمي– مع الرؤية السنية السائدة في أن أبا لؤلؤة لم يكن مسلمًا، ويرجح أنه كان مجوسيًا أو نصرانيًا. وبالتالي فهو ينفي تمامًا ما يذكره آخرون من أنه كان من شيعة آل البيت، ويؤكد الشيخ الخشن أنه لا يوجد رواية واحدة صحيحة منسوبة إلى أئمة آل البيت المُعتبرين تمتدح أبا لؤلؤة أو تثمِّن ما فعله. ويُنكر الشيخ أيضًا صحة المقام الكائن في إيران، فقد قتل أبو لؤلؤة نفسه بعد قتله عمر وبعض من طاردوه من الصحابة أو قتَلَهُ من طاردوه، وبالتالي فهو لم يغادر المدينة المنورة، ولم يصل بتاتًا إلى إيران.

ومن أكثر المواقف الشيعية المعاصرة وضوحًا في إدانة ما ارتكبه أبو لؤلؤة المجوسي، ما صرَّح به عام 2007م المرجع الشيعي آية الله محمد علي تسخيري (توفي عام 2020م) الذي كان يرأس مجمع التقريب بين المذاهب في طهران، بأنَّ أبا لؤلؤة مجرم قاتل، وأن نسبة قبرٍ ومقامٍ له في إيران هو ادعاءُ وتزوير، إذ يرى تسخيري أنه أقيم عليه الحد ودُفِنَ في المدينة المنورة.