… ونتحرى في ذلك كله أن نصون التاريخ — نصون ذمة الإنسانية — أن يملكها من يملك الجاه والسلطان في زمن من الأزمان … 
عباس محمود العقاد، في مقدمة كتابه (معاوية بن أبي سفيان)

لا ريبَ أن فترة خلافة معاوية بن أبي سفيان 41-60هـ من أخطر الفترات المؤسِّسة لما بعدها في تاريخ الأمة الإسلامية، ولا تزال بعض آثارها تلقي بظلالٍ على حاضرنا اليوم رغم مرور القرون والحُقَب وتباعد الأزمنة. ولا يمكن أن نتبيَّن حقيقة عصر دون أن نعرف رجالَه الذين صنعوا أبرزَ أحداثِه وصنعتهم.

بالطبع لا يسعُنا في هذه المساحة المحدودة أن نحيط بكل رجال عصر معاوية بن أبي سفيان الذي قضى أكثر من 20 عامًا واليًا على الشام، ومثلها ملكًا للعالم الإسلامي، ومنهم من يستحق تأثيرُه البالغ أن تُخصَّص له كتبُ وأبحاثُ ومجلَّدات، لكننا سنمر مرورًا سريعًا – نرجو أن يكونَ شافيًا ولو بالحد الأدنى – على تواريخ خمسة من أبرز القادة والساسة في عهد معاوية، ونضع بذورًا وجذورًا يمكن البناء عليها لمن يريدُ أن يتوسَّع أكثر حول تلك الفترة التاريخية الدسمة بالشخوص والأحداث.

اقرأ: تعظيم معاوية وشبهة إضفاء القداسة على الظلم

المغيرة بن شعبة: داهية الدواهي

كان لا يقع في أمرٍ إلا وجد له مخرجًا، ولا يلتبس عليه أمران إلا ظهر الرأي في أحدهما
ابن عبد البر في (الإصابة في تمييز الصحابة) ناقلًا رأي الطبري في المغيرة بن شعبة

كان من المعدودين بين دُهاة العرب وأصحاب المكر والحيلة فيهم، حتى قال عنه أحد المعاصرين له إنه لو كان هناك مدينة لها 8 أبواب لا يُفتَح أيٌّ منها إلا بالمكر والدهاء، لعبر المغيرة منها جميعُها. أسلم قبل صلح الحديبية عام 6 هـ، وشارك في فتوح فارس في عهد الفاروق عمر الذي ولاه إمارة البصرة ثم عزله عنها ثم ولاه الكوفة التي أقرَّه عليها الخليفة عثمان، ثم عزله. وذكر ابن الأثير في «أسد الغابة في معرفة الصحابة» أنه أول من دفع رشوة في الإسلام، وكانت لأحد غلمان عمر بن الخطاب لكي يسمح له بالدخول على الخليفة في مواعيد استثنائية مما أعطى انطباعًا بأن له مكانة خاصة عند الخليفة!

ظلَّ المغيرةُ ما بقي من عهد عثمان، وفترة الفتنة الكبرى كامنًا يُراقب ما تؤول إليه الأمور في نوعٍ من الحياد الإيجابي، وينقل الذهبي في «سير أعلام النبلاء» أنه نصح الإمام علي بعد بيعته بالخلافة ألا يتعجَّل في عزل معاوية، وأن يداهنه، ثم يعزله بعد أن يتمكَّن، فلما لم يستمِع إلى نصيحته، عاد إلى عزلته، فلما مالت الكفة إلى معاوية عام 41هـ بتنازل الحسن بن علي له، عرف أينَ يضع مراسيه، فأعلن ولاءه لمعاوية، وأوعز إليه بألا يجمع لعمرو بن العاص ولايتيْ الكوفة ومصر معًا، حتى لا يصبح بين فكيّ الأسد على حد قوله، فأوكل إليه معاوية إمارة الكوفة، ليعود إليها بعد سنواتٍ طوال من عزله.

لكن ردَّ عمرو بن العاص له جزءًا من مكره، بأن أوعز إلى معاوية بألا يجمع للمغيرة إمارتيْ السياسة والمال كما كان يفعل الخليفتان عمر وعثمان في أحيانٍ كثر، فاستجاب معاوية وكلَّف رجلًا آخر ببيت مال الكوفة وجمع خراجها.

كانت الكوفة أخطر الإمارات في دولة معاوية لأنها معقل الناقمين عليه من أنصار الإمام علي الذين لم يرضوْا بتنازل الحسن بن علي، رضي الله عنهما له، فاستخدم المغيرة في تأمينها كافة مهاراته في الدهاء والسياسة، ولعل أبرز مزاياه في الحكم أنه كان يتحفظ كثيرًا في سفك الدماء، وكان يميلُ إلى العفو، حتى لا يوغر الصدور ويزعزع الاستقرار بتنمية نوازع الثأر والانتقام، لكن على النقيض من تلك المهادنة، كان من أشدَّ ما أًُخِذَ عليه في ولايته أنه كان ينتقص من الإمام علي في خطبه على المنبر، ويوصي الخطباء بذلك، ولعل هذا كان ردًا على مناكفات أنصار الإمام له، وردهم عليه عند محاولته امتداح معاوية وحكومته مقارنة بحكومة الإمام علي.

وينقل الحاكم النيسابوري في «المستدرك» في خبرٍ صحيح على شرط الإمام مُسلم، أن المغيرة قد سبَّ الإمام عليّ في خطبة، فقاطعه الصحابي زيد بن أرقم وعاتبه بأن النبي، عليه الصلاة والسلام، نهى عن سب الأموات. وأشار مؤرخون آخرون إلى شيوع ذم الإمام علي على منابر الكوفة في عهد المغيرة، ومنهم شهاب الدين النويري في «نهاية الأرب». وهو ما تواتر في العصور الأموية التالية حتى أوقفه الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز مؤقتًا.

بعد وفاته عام 50هـ، جمع معاوية الكوفة مع البصرة تحت إمرة أخطر رجال عصره التي تحدَّى معاوية جميع أهل عصره من أجل كسب ولائه؛ زياد بن أبيه، الذي كان على النقيض من المغيرة في مسألة التحفظ في الدماء تحت شعار حفظ استقرار الدولة بأي ثمن.

زياد بن أبيه: من الضد إلى الضد

والدهاة أربعة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد
قولٌ مُشتهر عن التابعي عامر الشعبي

كان زياد من أشد رجال عصره قوةً ودهاء. وُلِدَ من علاقةٍ غير شرعية لأبي سفيان بن حرب في الجاهلية، فكان يُسمى زياد بن أبيه لكونه حُرِمَ من نسبٍ شرعي، ولذا أحدثَ استلحاق معاوية له عام 44هـ إلى نسبه، وتسميته إياه زياد بن أبي سفيان، ضجةً هائلة في العالم الإسلامي، إذ كان هذا من أبرز المآخذ على معاوية في خلافته لمخالفتها الثابت من الدين في تلك القضية. وقد لجأ معاوية إلى هذا لضمان ولاء هذا الرجل خطير الشأن، ونجح في ذلك تمامًا.

يذكر ابن الأثير الجزري في «أسد الغابة في معرفة الصحابة» أن نجمَ زياد بدأ في البزوغ في عهد الفاروق عمر بن الخطاب، حيث شارك في الفتوحات ضد الإمبراطورية الفارسية، ثم أصبح كاتبًا لأبي موسى الأشعري عندما تولى إمارة البصرة. وما لبث أن عزله الخليفة عمر خشيةً من أن يتحكَّم في المسلمين ويتلاعب بهم بدهائه الاستثنائي. يصفه الذهبي في «سير أعلام النبلاء» بأنه كَانَ مِنْ نُبَلاَءِ الرِّجَالِ رَأْياً، وَعَقْلاً، وَحَزْماً، وَدَهَاءً، وَفِطْنَةً.

إبان الفتنة الكبرى، انحاز إلى الإمام علي، فولَاه إمارة فارس، وكان يراه من أهل الكفاءة. ومن المفارقات أن زياد قد أغلظ الرد لمعاوية ووصفه بابن آكلة الأكباد عندما راسله يهدده ويطلبه منه تغيير ولائه والانضمام إليه، وأرسل زياد برسالة معاوية إلى الإمام علي ليؤكد ولاءه له، فحذَّره الإمام من مكر معاوية. وبعد تنازل الحسن لمعاوية عام 41هـ، ظلَّ زياد متمردًا على معاوية في فارس، حتى استطاع معاوية استغلال نقطة ضعفه الكبرى، قضية الأصل والنسب، فكسب ولاءه بها، وبما أغدقه عليه من المال والصلاحيات الواسعة.

كان انضمام زياد إلى معاوية نكبة كبيرة على من بقي من أنصار الإمام علي، فقد كان زياد عليمًا بهم، وبأصحاب الشأن والخطر فيهم، فكانت شدته عليهم وبطشه بهم أضعافًا، ومن أشهر الوقائع في ذلك السياق في ولاية زياد بن أبيه استشهاد الصحابي أو التابعي حُجر بن عدي وستة من أصحابه بحكم إعدامٍ أصدرَه معاوية عام 51هـ، وكان أبرز أنصار الإمام علي في العراق، ومن المعترضين على تنازل الحسن لمعاوية، وكانت تلك هي السابقة الأولى في تاريخ الإسلام لقتل معارضٍ سياسي بعد اعتقاله دون أن يخرج على الحاكم مقاتلًا بالسيف.

وقد ورَّط زيادُ معاويةَ في تلك الواقعة بدهاءٍ، فقد ضاقَ بمواجهة حُجر له، وإنكاره المتكرر عليه تأخير الصلاة عن مواعيدها، وبطشه بالمعارضين، وتهاونه في سفك الدماء، لكنه خشيَ أن يبطش هو بحجر، وقبيلته كندة من أكبر قبائل العرب، فتضطرب الأمور ويطيح به معاوية لتسكين الأمور، فبعث لمعاوية يحذره من أن العراق قد يضيع منه إذا لم يضع حدًا لحُجر، وهوَّلَ له من شأن ما يفعله حُجر ورفاقه، فطلب منه معاوية أن يرسله إلى الشام مع أصحابه، وأمر بقتلهم كما أسلفْنا، وسجل المؤرخون صدمةً كبيرة في العالم الإسلامي عندما ذاعت أنباء ما حدث لحُجر ومن معه، فبكاه رموز المسلمين آنذاك مثل عبد الله بن عمر، واستنكرت أم المؤمنين عائشة تلك القضية في مواجهة لها مع معاوية لاحقًا عندما جاء إلى الحجاز حاجًا.

وكانت واقعة حجر بن عدي خلافَ ما ساد في عهد معاوية من ميله إلى ما يشبه الأسلوب الحديث المعروف بـ(Good cop and Bad cop) إذ كان يعتمد على ولاة قُساة أشداء، بينما يوازن هو بطشهم بما اشتهر عنه من الحلم والمداورة والمداهنة والعفو، حتى أنه كان يحمي في الشام من يفر إليه من بطش بعض ولاته لا سيَّما في العراق!

وكانت شدة سطوة زياد وبطشه، والخشية منها، قد طارت إلى الآفاق خارج العراق، فينقل ابن خُلَّكان في موسوعته «وفيات الأعيان» رواية مفادُها أن زياد كتب إلى معاوية يطلب منه ضم إمارة الحجاز إليه إلى جانب العراق قائلًا:

قد ضبطت لك العراق بشمالي، وفرغت يميني لطاعتك، فولني الحجاز

فبلغ خبر تلك الرسالة الصحابي الشهير عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، وكان يعيش في مكة المكرمة، فاغتمَّ، ودعا الله ألا تنجح مساعي زياد في الحصول على إمارة الحجاز قائلًا:

اللهم اشغل عنَّا يمين زياد

وتكمل الرواية أن زيادًا أصيب بمرضٍ عُضال وهو الطاعون، وأراد الأطباء قطع يمينه لينجو، لكن تردَّد في الموافقة، فتفاقم المرض، ومات إثر ذلك. وكانت وفاته عام 53هـ.

وينقل الذهبي في «سير أعلام النبلاء» عن التابعي الشهير الحسن البصري، أن الحسن بن علي كان يدعو على زياد بالهلاك عندما جاءته أخبار تتبعه لأنصار أبيه واستهدافهم.

اقرأ: بُسر بن أبي أرطأة: رجل المهام القذرة للأمويين.

عبيد الله بن زياد: ابن أبيه لفظًا ومعنىً

قَدِمَ عَلَيْنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، أَمَّرَهُ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ، غُلامًا، سَفِيهًا، يَسْفِكُ الدِّمَاءَ سَفْكًا شَدِيدًا
الذهبي في «تاريخ الإسلام» نقلًا عن التابعي المشهور الحسن البصري.

لم يكُن عجَبًا أن يرثَ أحد أبناء زياد مكانه في دولة معاوية، وشراسته، وبعض دهائه، لكن بالتأكيد كان عبيد الله هذا أكثر من أبيه اندفاعًا وتهورًا وبطشًا، ويكفي للتدليل على هذا اقتران اسمه واسم يزيد بن معاوية إلى أبد الآبدين بجريمة قتل الحسين بن علي، رضي الله عنهما، المدوية في كربلاء عام 61هـ بعد أسابيع من وفاة معاوية.

اقرأ: الحسين الذي ظلم الظالمين.

ولَّاه معاوية إمارة البصرة عام 53هـ أو 55هـ، على اختلافٍ في الروايات، وكان يميلُ إلى القبضة الحديدية ويقتل لأهون شبهة، وكان غشومًا في الرد، فأهان أحد الصحابة – عبد الله المُزَنيّ – الذي دخل عليه ينهاه عن الظلم والبطش، وقال له إنمَّا أنت من حثالة أصحاب محمد- عليه الصلاة والسلام- لم يكن عبيد الله بن زياد محبوبًا على الإطلاق بين أهل العراق، فينقل الذهبي في «تاريخ الإسلام» أن عبد الله بن مغفل، وكان من كبار فقهاء البصرة، كان مريضًا، فجاء ابن زياد لزيارته وحاول التودد إليه فقال له اطلب ما تشاء وأجيبك إليه، فقال له ابن مغفل إذا متُّ فلا تصلِّ عليّ!

في عام 58هـ، شنّ عبيد الله حملة أمنية عنيفة في البصرة تحت شعار «الحرب على الخوارج» قتل فيها العشرات من الخوارج القعدة «اعتزلوا القتال، لكن كانوا ينكرون المظالم بلسانهم» ومن أبرزهم عروة بن أدية الذي وقف لابن زياد أثناء أحد سباقات الخيل، وأنكر عليه البطش والمظالم، فأمر ابن زياد باعتقاله، ثم قطعه يديه ورجليْه وقتل ابنته، وقتل امرأةً من الخوارج كان اسمها الثبجاء لجهرها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقطعت يديها ورجليْها وألقيت تنزف في سوق البصرة حتى فارقت الحياة. وملأ السجون بالخوارج على حد تعبير النويري في «نهاية الأرب».

وكان من أبرز من سجنهم ابن زياد من الخوارج أبي بلال مرداس، الذي يعتبر من أكثر الخوارج اعتدالًا في مذهبه في التاريخ الإسلامي، والذي بعد خروجه من سجن ابن زياد عام 60هــ، اعتزل بعيدًا عن البصرة مع أربعين من أصحابه رفضًا للظلم دون خروج بالسيف، فأرسل إليه ابن زياد جيشًا كبيرًا، بدأهُم بالقتال، فدافعوا عن أنفسهم، وهزموا جيش ابن زياد، فأرسل إليهم جيشًا أضخم منه هزمهم وقتلهم جميعًا.

اقرأ: أبو بلال مرداس .. خارجي عارضَ الأمويين والخوارج.

بعد سنواتٍ، لعب ابن زياد دورًا كبيرًا في استعادة سلطة الأمويين بعد تضعضعها إثر وفاة يزيد، واستقالة ابنه معاوية بن يزيد، وفي إنجاح تمرد الأمويين في الشام ضد الخليفة عبد الله بن الزبير الذي بايعته عام 64هـ معظم الأقطار الإسلامية. لكن قُتل عبيد الله مع الآلاف من جند الشام الموالين للأمويين عام 67هـ بعد هزيمتهم الساحقة في وقعة الخازر عام 67هـ على يد جيش إبراهيم بن الأشتر قائد قوات المختار الثقفي الذي كان متمردًا في العراق آنذاك ضد كلٍّ من الزبيريين والأمويين رافعًا شعار الثأر لدماء الحسين التي سالت في كربلاء.

اقرأ: إبراهيم بن الأشتر: أمير الانتقام الحسيني

الحكم بن عمرو الغفاري: مغارم الغنائم

.. بلغني ما ذكرت من كتاب أمير المؤمنين، وَإِني وجدت كتاب اللَّه تعالى قبل كتاب أمير المؤمنين، وَإِنه والله لو أن السماء والأرض كانتا رتقًا عَلَى عبد، ثم اتقى اللَّه تعالى، جعل له مخرجًا، والسلام ..
من رسالة الحكم الغفاري إلى زياد بن أبيه رافضًا تغيير توزيعة الغنائم عما رآه التوزيع الشرعي

لا تنقل لنا كتب التاريخ الكثير من التفاصيل حول حياة الحكم الغفاري، لكن يُخصص الحاكم النيسابوري في كتابه الشهير «المُستَدرَك على الصحيحيْن» فصلًا عن مناقب الصحابي الحكم بن عمرو الغفاري، ويذكر منها اعتزاله أثناء اندلاع أحداث الفتنة، حتى عندما جاء إليه رسولٌ من قبل الخليفة علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، يدعوه إلى الانضمام إليه. وكذلك ورعه وإنصاته للصحابي عمران بن حصين وهو يذكّره في دار الإمارة في أواخر حياته بأن الرسول، عليه الصلاة والسلام، أمر بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

كما نُقِل عن الحكم الغفاري -وكان متدينًا ورعًا- أنه كان يخشى أن يطول به العمر فيشهد ما حذَّر منه الرسول، عليه الصلاة والسلام، من فتنٍ وانحرافات لاحقة مثل سفك الدماء، وإمارة الصبيان، وكثرة الشُّرَط – رجال الأمن والشرطة – وقطيعة الرحم، والتغني بالقرآن دون وعيه.

كانت المفارقة، أن أبرز المشاهد في حياة هذا الصحابي، هو مشهد الختام. فقد ولَّاه زياد بن أبيه إمارة خراسان (إيران وأفغانستان حاليًا، وكان من صلاحيات والي العراق أن يعيّن واليها) عام 50هـ، فقاد غزوةً ناجحة ضد قبائل التُرْك في المنطقة، وغنم غنائمَ هائلة. لكنَّه فوجئ برسالة من زياد إليه يأمره بألا يقسم غنائم الذهب والفضة بين المحاربين وفق التقسيم الشرعي، لأن الخليفة معاوية قد طلبها لنفسه، فرفض الحكم، وأرسل الخُمس فقط إلى زياد، وقسَّم الباقي، فاشتاط منه زياد غضبًا وعاتبه عتابًا غليظًا.

يذكر ابن حجر العسقلاني في «الإصابة في تمييز الصحابة» أن الحكم بن عمرو اغتمَّ لعتاب زياد له، فدعا على نفسه بالموت – لعلَّ هذا كان خشيةً منه من فتنة السلطة وضغط من هم فوقه – وبالفعل توفاه الله بعد وقتٍ قصيرٍ من الواقعة، وكانت وفاته -رضي الله عنه- على أشهر الأقوال عام 50هـ أو 51هـ.

 لكن يذكر الحاكم في «المستدرك» روايةً أخرى، مفادُها أن معاوية غضب عندما رفض الحكم توزيع الغنائم كما أراد، فأرسل من قيَّده وألقى به في السجن، فمات في السجن بعد وقتٍ قصير، وقد اعتمد الذهبي تلك الرواية في موسوعته «سير أعلام النبلاء».

عبد الرحمن بن خالد بن الوليد: ضريبة «الكاريزما»

.. وكان من الشجعان المعروفين والأبطال المشهورين كأبيه، وكان قد عظم ببلاد الشام كذلك حتى خاف منه معاوية، ومات وهو مسموم، رحمه الله وأكرم مثواه ..
ابن كثير الدمشقي. وفيات عام 46هـ، كتاب «البداية والنهاية»

هو ابن سيف الله المسلول خالد بن الوليد، لحق الرسول عليه الصلاة والسلام صغيرًا، وكان فارسًا شجاعًا كأبيه، وقد أوكل إليه الخليفة عثمان بن عفان ولاية الجزيرة الفراتية، وبعد استشهاده، انحاز عبد الرحمن إلى معاوية، وكان من كبار قادة جيشه في وقعة صفِّين الشهيرة. علا نجمُه كثيرًا في العالم الإسلامي، وفي بلاد الشام – معقل الحكم الأموي – بوجهٍ خاص في السنوات الأولى من خلافة معاوية بعد قيادته لعدة غزواتٍ ناجحة ضد الروم، وتذكر بعض المصادر التاريخية أنه أغار في إحدى الغزوات على القسطنطينية عاصمة الروم، كما أسند إليه معاوية ولايةَ حمص الشام، فأحبه أهلها كثيرًا، وقال عنه أحد أعيانها:

كان يُدني شريفَنا، ويغفرُ ذنبَنا، ويجلس في أفنيَتنا، ويمشي في أسواقنا، ويعود مرضانا، ويشيع جنائزَنا ويُنصف مظلومَنا من ظالمنا

ينقل ابن حجر العسقلاني في موسوعته «الإصابة في تمييز الصحابة» أن معاوية عزَله فجأة عن منصبه، وأن عبد الرحمن قد غضب، وتوعَّد معاوية بما معناه أنه لولا مقام الخلافة لانتصف لنفسه منه. وينقل ابن الأثير الجزري في كتابه «أسد الغابة في معرفة الصحابة» رواية أخرى تؤكد مكانة عبد الرحمن التي خشيَها معاوية، تذكر أن معاوية أراد أن يجسَّ النبض بين قادة الشام عمود دولته في مسألة ولاية العهد من بعده، لأن سنه قد كبرت، فوجد الكثرة الكاثرة بينهم تميل إلى عبد الرحمن بن خالد، فشُقَّ عليه ذلك.

تجتمع الروايات التاريخية في أن عبد الرحمن بن خالد مرض، فطُلبَ له طبيب مسيحي معروف في حمص هو ابن أثال، فسقاه دواءً، فمات فورًا، فأُدينَ بتسميمه، واتهم ابن أخيه خالد بن المهاجر بن خالد معاويةَ بأنه أوعز إلى ابن أثال بقتله، واقتصَّ من ابن أثال وقتَلَه.

ولم يكن عبد الرحمن بن خالد هو الوحيد الذي حامتْ حولَه وفاته بالسم في عهد معاوية الشبهاتُ، فقد قيل مثل هذا لاحقًا عام 49هـ على وفاة الإمام الحسن بن علي، رضي الله عنهما، المفاجئة، وثارت التكهنات حول دورٍ لمعاوية في التخلص منه لكونه منافسًا محتملًا له على السلطة في كل حين، وكذلك ليتحلل من اتفاقه مع الحسن عام 41هـ على أن يعيد الأمر شورى بين المسلمين بعد انقضاء خلافته. وفي إبَّان تمرد معاوية على خلافة الإمام علي، قُتلَ الأشتر النخعي والي مصر الجديد لعليّ مسمومًا، وكان من أصلب رجال الإمام علي وأشدهم بأسًا، ولو تمكَّن من ولاية مصر لمثَّل تهديدًا خطيرًا لاستقرار حكم معاوية بالشام آنذاك، ولذا أشارت أيادي الاتهام إلى معاوية وعمرو بن العاص في واقعة الاغتيال تلك. وعلى تلك الظاهرة المثيرة للتساؤل يعلقُ عباس محمود العقاد في كتابه «معاوية بن أبي سفيان» قائلا:

وشاعت الشوائع بمثل ذلك عن آخرين من أعداء معاوية ومنافسيه، يملي للناس في تصديقها أن هؤلاء الأعداء ماتوا بغير علة موصوفة في الموعد الذي يبغيه معاوية، وتترتب عليه سياسته التي كان يرجئها إلى مواعدها

ولكن بالطبع يتعذَّر علينا الوصول إلى نفي أو إثبات جازم لصلة معاوية بوقائع التسميم تلك، لكن ما لا يحتاج إلى كثير من الجهد للتدليل عليه كما أشار العقاد في الاقتباس المذكور آنفًا، أنه قد أحسن الاستفادة بشدة من تلك الأحداث، وعزَّز من سلطانه بعد أن أُفرِغَت الساحة من العديد من المنافسين المحتمَلين الذين كانوا يمثلون تهديدًا ماثلًا أو محتمَلًا لعرشه ولطموحاته.