سَأَمْضِي وَمَا بِالْمَوْتِ عَارٌ عَلَى الْفَتَى :: إِذَا مَا نَوَى خَيْرًا وَجَاهَدَ مُسْلِمَا
وَوَاسَى رِجَالًا صَالِحِينَ بِنَفْسِهِ :: وَخَالَفَ مَثْبُورًا وَفَارَقَ مُجْرِمَا
فَإِنْ عِشْتُ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ مُتُّ لَمْ أُلَمْ :: كَفَى بِكَ ذُلًّا أَنْ تَعِيشَ وَتُرْغَمَا
أبياتٌ من الشعر تمثَّلها الحسين في كربلاء

في تاريخ كل أمةٍ، لحظاتٌ شديدة الوطأة، ينوء بها كتاب التاريخ، والذاكرة الجمعية، رغم أنهما من أولي القوة. في الكثير من تلك الأيام المشهودة، تنهال صدمات الأقدار من فوق الرؤوس، وتنشق عنها الأرض من تحت الأقدام، وتبلغ القلوب الحناجر، ويظن أكثر الناس – إلا من رحم الله، وقليلٌ ما هم – بالله، وبالوجود، الظنون.

في الرحلة العاصفة للأمة الإسلامية، توجد لحظاتٌ عديدة تستحق الأوصاف السابقة. لكن إن أردنا أن نعقد استفتاء واسعًا بين أجيال المسلمين الحالية والسابقة – وحتى اللاحقة – لاختيار واحدة من تلك اللحظات، لتكون الأجدر بالحصول على مرتبة الصدارة، فسيكون النصر الساحق لواقعة استشهاد الحسين بن علي (رضي الله عنه) في كربلاء عام 61هـ، والتي  كانت فاصلًا حادًا وقاطعًا، بين زمنين في تاريخ أمتنا. الأول كان الغالب عليه اللون الأبيض، على ما تخلله من بقع سوداء من مختلف الأحجام، أما الثاني، فقد جعل سوادَه – خاصة على أصعدة العدل والشورى، السياسة والحرب ووحدة الأمة – من الأيام البيضاء التي تناثرت فيه، كالجزر في المحيط الهادر.

ولم لا يستحق تلك الصدارة، مصرع سيد شباب أهل الجنة، حفيد الرسول – عليه الصلاة والسلام – في كربلاء – التي أصبحت مضربًا للمثل في الكرب والبلاء – بعد أقل من 50 عامًا من وفاته – صلى الله عليه وسلم- وما شهدته تلك الواقعة الأليمة أيضًا، من إبادة جماعية شبه كاملة لشباب آل البيت الذين قاتلوا مع الحسين، فلم يسلمْ منهم إلى علي بن الحسين، والنساء؟!

ما تزال -وستظل- تلك الحادثة حاضرة في ذاكرة الأمة، ملخصةً إلى أي حدٍّ يمكن أن يصل الاستبداد والطغيان لفرض سطوته على الأمة.

الحسين الذي ظلم ظالميه

إن من أقسى ما يمكن أن يعذب به المرء عقلَه، وقريحتَه، أن يُجبَرَ على طرح ومناقشة قضايا من المُفتَرَض أنها مسلَّمات أخلاقية، وبدهيات عقلية وقلبية. لكن للأسف كثيرًا ما تفرض علينا أيام زمن السقوط الحالي، أن نحاول إعادة اختراع العجلة من حينٍ لآخر، وأن نسردَ الحجج، ونقارعَ بالمنطق، أهل اللاشيء، وسدنة معابد القُبح.

صحفي مصري يكتب مقالًا يتحدث فيه الحسين بن علي، رضي الله عنهما، ذاكرًا تغير وجهة نظره من التعاطف الكامل مع قضية الحسين واستشهاده، إلى عتاب مباشر وغير مباشر للمجني عليه، لعدم استسلامه للجناة مبكرًا، ومحاولة خدمة الإسلام في ظلال حكمهِم – الرشيد –  وعصمة دمائه – لا كرامته، ولا شرف بيته، ولا حق الأمة – ودماء الكثيرين ممن حاولوا الأخذ بثأره من بعده.

رغم مرور أشهر على نشر تلك المقالة، فإنها عادت لتثير الضجة، مؤخرًا، على مواقع التواصل الاجتماعي. سنتخذ تلك الضجة فرصة، لنسلط الأضواء على بعض جوانب حادثة كربلاء المفصَلية، والتي تعتبر أسبابها، وأحداثُها، وتوابعُها، من جذور محنتنا المعاصرة.

ولا غرابةً في أن يظل استشهاد الحسين في تلك الواقعة المزلزلة، صداعًا مؤرقًا في أذهان حاشية المُلك، وبطانة الاستبداد، ودعاة الخنوع والاستسلام لكل طاغيةٍ متغلب، من فقهاء السوء، ونُخَبُ السوأة، في أول الزمان وأوسطه وآخره. لقد وُصِم للأبد، حزبهم المتغلب بدماء حفيد الرسول الكريم، وسيد شباب أهل الجنة، وأبطال أهل بيته، ممن آثروا بطن الأرض، عن ظهرها الذي دنَّسَتْه ظلال رايات الطغاة المتجبرين، وسيظل هؤلاء الطغاة حانقين على تلك الجذوة النبيلة التي لا تنطفئ تحت الرماد، والتي  أغرتْ، وتغري، وستُغري، الثوار والأحرار باقتباسها إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

اقرأ أيضًا: «وكل أرض كربلاء»: دم الحسين الذي سال عبر العصور

من معاوية إلى يزيد: «حنانيْك، بعض المُلكِ أهونُ من بعض»

وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: حُسَيْن بن علي، وعبداللَّه بن عمر، وعبدالله ابن الزُّبَيْرِ، فأما ابن عمر فرجل قَدْ وقذه الدين، فليس ملتمسًا شَيْئًا قبلك. وأما الْحُسَيْن بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيكه اللَّه بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن لَهُ رحمًا ماسة، وحقًا عظيمًا، وقرابة من محمد (صلى الله عليه وسلم)، وَلا أظن أهل العراق تاركيه حَتَّى يخرجوه، فإن قدرت عَلَيْهِ فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزُّبَيْر فإنه خب ضب، فإذا شخص لك فألبد لَهُ، إلا أن يلتمس مِنْكَ صلحًا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك مَا استطعت.
من وصية معاوية بن أبي سفيان لابنه يزيد

سنعود في إيجازٍ، إلى الخلفية التاريخية التي رسمت تفاعلاتها مشهد كربلاء المفجع. يحاول البعض – خاصة من أصحاب السرد التاريخي التقليدي السني كالسلفيين المعاصرين – إضفاء الكثير من القداسة على لحظة عام الجماعة 41هـ، والتي أعادت شمل الأمة الإسلامية بعد 5 سنواتٍ من الفتنة الكبرى، عندما بايع الحسن بن علي -رضي الله عنهما- الذي تولى بعد اغتيال الخوارج أباه علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – معاويةَ بن أبي سفيان، خليفةً للمسلمين جميعًا، على أن يعدل بينهم، ويسير سيرة الراشدين فيهم.  وسلّم له العراق، أهم قواعد المعارضة للأمويين.

بالفعل توحّدت الأمة، وحوفظ على هذا الاتفاق لحوالي 20 عامًا، لكن لم يكن الأمر بتلك السهولة. فمن البداية، لم يكن الحسين بن علي راضيًا عن تنازل أخيه لمعاوية، لعدم ثقته في التزام الأخير، وأثبتت الأيام صحة مخاوف الحسين، فرغم ما اشتهر به معاوية من دهاء سياسي، وحنكة، وأناة، جعلت من «شعرة معاوية» مضرب المثل في ذلك، فإنه كان قاسيًا مع العراق، معقل شيعة آل البيت، إذ خصّص له أشرس ولاته، وأبطشهم، والذين كان بعضهم يجهر بسب علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه.

اقرأ أيضًا: ياسر برهامي: التطور الطبيعي للفقه الاستبدادي

وصل الأمر كذلك إلى تنفيذ عقوبة الإعدام ببعض شيعة علي، وأشهرهم حجر بن عدي، لكثرة اعتراضه على سب ولاة معاوية لعلي، وعلى بطشهم بالمعارضين. ثم كانت الطامة الكبرى، بمصادرة رأي الأمة في اختيار حاكمها، عندما فرض معاوية ابنَه يزيد، بالعصا وبالجزرة، وليًا للعهد من بعده، دونما مؤهلاتٍ يستحق بها تلك المسؤولية، سوى أنه ابن الخليفة، في سابقةٍ كسروية قيصرية هي الأولى في تاريخ الإسلام.

أُخذَت البيعة في حياة معاوية، رغبًا ورهبًا، من عامة المسلمين وخاصتهم، سوى ثلة من الشخصيات القوية الرافضة، وفي مقدمتهم الحسين بن علي – رضي الله عنهما – (توفي الحسن منتصف عهد معاوية، وتنقل بعض الروايات التاريخية أنه مات مسمومًا بتدبيرٍ من معاوية)، ولم يحاول معاوية إلزام هؤلاء الكبار بالبيعة عنوة، لكيلا تضطرب الأمور.

رغم المثالب السابقة، غلب الاستقرار على عهد معاوية، لقدراته القيادية، وقوة شخصيته، والتوسع المطرد في الدولة، وتوافر الحد الأدنى من شرعية الحكم، الكافي ليعض خصومُه النواجذ صابرين على عدم الخروج عليه. 

لكن بمجرد تولي ولي العهد الأرعن يزيد خلفًا لأبيه، كان لابد أن تأخذ الأمور منحىً آخر، خاصة وقد بدأ عهدَه بأن أمر واليه على الحجاز بأخذ البيعة عنوة من باقي الممتنعين، وعلى رأسهم الحسين – رضي الله عنه.

اقرأ أيضًا: تعظيم معاوية وشبهة إضفاء القداسة على الظلم

هل كان الحسين طامعًا في الحكم كالأمويين؟

أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّكُمْ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ وَتَعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ يَكُنْ أَرْضَى لِلَّهِ، وَنَحْنُ أَهْلُ الْبَيْتِ أَوْلَى بِوِلَايَةِ هَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُدَّعِينَ مَا لَيْسَ لَهُمْ، وَالسَّائِرِينَ فِيكُمْ بِالْجَوْرِ وَالْعُدْوَانِ، فَإِنْ أَنْتُمْ كَرِهْتُمُونَا وَجَهِلْتُمْ حَقَّنَا وَكَانَ رَأْيُكُمْ غَيْرَ مَا أَتَتْنِي بِهِ كُتُبُكُمْ وَرُسُلُكُمُ انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ.
الحسين بن علي (رضي الله عنهما) في خطبةٍ لمقدمة جيش العراق التي اعترضت طريقه

كما ذكرنا للتو، فقد سكن الحسين طوال عهد معاوية على مضض. ولذا، فعندما وصلته رسائل أهل العراق بعد وفاة معاوية، يدعونه لاستكمال ما انقطع بوفاة أبيه قبل 20 عامًا، لم يتردد في القبول، ورحل إليهم بأهلِه وولده، رغم تحذير بعض المخلصين له من تقلب أهواء أهل العراق، وأنهم ما إن تدهمهم الجيوش الشامية شديدة الولاء للعرش الأموي، فسينصرفون عنه، وهو ما تمَّ – للأسف – فعلًا على أرض الواقع.

سيطر ابن زياد، والي الأمويين على العراق، على المشهد بقبضةٍ حديدية، وقتل ابن عم الحسين ومبعوثه مسلم بن عقيل، بشكلٍ وحشي، بعد أن تخلى عن نصرته العراقيون. وهكذا وصل الحسين – الذي لم تكن قد بلغته الأنباء الصادمة بعد – إلى العراق، ليجد جيوش الأمويين في استقباله، وليس أصحاب الكتب الحماسية التي جاءته بالحجاز.

لو كان الحسين كمعظم المغامرين السياسيين، الذين تحدوهم الأطماع، وتسوقهم البراجماتية، دون مواقف مبادئية، لقبل عرض قادة الجيش الأموي بالذهاب معه لمقابلة ابن زياد، والي العراق، أو حتى يزيد، والتفاوض معهم على الخضوع، مقابل تحقيق بعض المكاسب الشخصية. لكن لم يكن هو الحسن، ولا كان يزيدُ معاوية، ولا كان اليوم كالبارحة، ولا بالطبع كما سبقها.

هل كان للحسين خيارٌ آخر؟

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «مَنْ رَأَى سُلْطَانًا جَائِرًا مُسْتَحِلًّا لِحُرَمِ اللَّهِ نَاكِثًا لِعَهْدِ اللَّهِ مُخَالِفًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَلَمْ يُغَيِّرْ مَا عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مُدْخَلُهُ» .
أَلَا وَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ وَتَرَكُوا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ وَحَرَّمُوا حَلَالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ غَيَّرَي.
من خطبة الحسين يوم كربلاء

يلوم الكاتب – صاحب المقال المعنون بظلم الحسين – شهيدَ الأمة التاريخي، لأنه جعل من نفسِه قدوةً للفقراء والمظلومين، للاستشهاد، بدلًا من محاولة استمرار العيش في كنفِ الظالمين، فهو بهذا لم يجعل حياتهم أفضل، إنما ساقهم إلى الموت. كيف يُمكن أن نجعل هذا الكاتب وأمثالهم يفهمون أن الموت هو الحياة، إذا كانت الحياة تساوي موت الدين والكرامة والحرية والمعنى؟ لا جدوى من محاولة ذلك مع من اختتم مقالته بنصيحتنا بأن منطق يزيد في الحياة، أجدى من منطق الحسين. لكن  في المقابل، هل كان الحسين متصلبًا متهورا؟

لم يترك الطغاة وجُندَهُم يومَ كربلاء من سبيل أمام الحسين سوى الاستشهاد، وهو الذي رفض أن يبدأهم بالقتال.  فقد حاصروه ومن معه، وحجزوهم عن الماء والزاد، لإجبارهم بالعطش والجوع والتخويف على شروط استسلام مذل.

عرض عليهم الحسين إما أن يتركوه يعود للحجاز، أو أن يذهب إلى أحد الثغور الإسلامية، أو حتى يذهب إلى دمشق ليتواجه مع طاغيتها يزيد مباشرةً، فأبوْا إلا أن ينزل على حكم ابن زياد، ـويُبايِعَ يزيد أولًا.

ثم ما هي أرضية الحد الأدنى من التوافق التي يمكن أن تجمع الحسين، بقية رسول الله عليه الصلاة والسلام، ووارث الحكم الراشدي، بهؤلاء الطغاة، مغتصبي الشرعية، العابثين بأرواح الناس وأموالهم، ومنعدمي المروءة إلى حد هجوم 4 آلاف منهم -قوام جيش الكوفة الذي اعترض موكب الحسين- على 70 رجلًا محاصرًا، والمتجرئين على حدود الله إلى حد استئصال ذرية نبيهم، من أجل طاغية أخرق؟

في الشهور والسنوات التالية لاستشهاد الحسين، أثبتت جرائم الأمويين صواب اختيار الحسين للموت الكريم، عن التهادن معهم. على سبيل المثال لا الحصر، بعد عامين من كربلاء، وفيما عُرِفَ تاريخيًا بوقعة الحرة عام 63 هـ، استباحت جيوش الأمويين مدينة الرسول – عليه الصلاة والسلام- عندما تمرَّدَت على حكم يزيد، ولم يراعوا شرعًا ولا قرابةً ولا سياسة، في أبناء الصحابة، وأحفادهم، والأنصار، فقتلوا منهم المئات، وأذلوا الناجين بإجبارهم على بيعةٍ مذلةٍ للخليفة الذي دنَّس مدينة الرسول. ثم انصرف الجيش الأموي لمحاصرة الثائر عبدالله بن الزبير في مهبط الوحي مكة المكرمة، والتي نالت نصيبها من الإجرام، قبل أن يدهم الغزاة نبأ وفاة خليفتهم يزيد المفاجئة عام 64 هـ.

رحم الله الحسين بن علي، وكل من اتبعوه بإحسانٍ إلى يوم الدين، ودام صداعًا للطغاةِ مؤرّقًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.