تعجّبَ بعض متابعي الشأن المصري، خاصة من شباب الإسلاميين، من التصريحات الأخيرة للشيخ «ياسر برهامي»، الشخصية الأبرز في الدعوة السلفية السكندرية. تلك التصريحات امتنَّ الرجل فيها على المصريين بوجود السيسي، وعزا تأييده له، لأن مصر في عهده أقل سوءًا من سوريا والعراق، وأنه إن رحل، فسيندم الناس عليه كما ندموا على مبارك من قبل، وسيصبحون مثل البلاد الفاشلة الأخرى التي انتشر فيها الليبراليون والحوثيون والاشتراكيون، على حد قوله.

صراحةً، فإن أكثر ما يثير التعجب، هو أنه ما زال البعض يتعجب من مواقف ياسر برهامي ومن على شاكلته! الرجل متسِّقٌ تمامًا مع أساسيات فكره، التي قضى عشرات السنين في دراستها وتدريسها، وهذا هو النتاج الطبيعي للوعي الإسلامي الذي تلوّث على مدار قرون، من التدجين تحت ظلال سيوف حكام الجور وذهبهم.


عودة إجبارية إلى التاريخ

سنعود الآن إلى الجذور التاريخية لهذا التشوه الفكري الذي يمثله برهامي وأمثاله، وذلك لأهمية التاريخ في تأسيس فكر هؤلاء. فتنظيراتهم المعاصرة مشحونة دائمًا بالتاريخ، أو للدقة، إما بالرواية الرسمية للتاريخ، الممهورة بختم السلاطين وخلفاء الملك العضوض، أو بمقاربات سطحية تبريرية، تتجنب الطرح الشجاع للقضايا التاريخية الشائكة، بحجة عدم الخوض في الفتن، رغم أن كثيرًا مما نعاني منه الآن تشكّل في رحم تلك الأحداث، فيسوّقون لطلاب علمهم بضاعة هزيلة، لا تسمن ولا تغني من جوعٍ للحقيقة، وللنقد الفعّال الذي يمثل أول خطوة في أمل الإصلاح.

يمتلئ فهم البرهاميين السياسي بفكرة الحاكم الأب شيخ القبيلة، الذي يأمر فيطاع مهما بغى. نعم نزل الإسلام في بيئة قبليةٍ بسيطة – كنموذجٍ أوّلي للبناء عليه – فيها الحكم الفردي الأبوي هو السائد. لكن لم يكن المراد إيقاف نهر الزمن والإنسان عند هذه النقطة، بل كان الإسلام – ما قبل التدجين – ثورة على هذا. والدليل أن جيل الصحابة كان يراجع الرسول عليه الصلاة والسلام في كل شئون الحياة، وهو الذي يصلُهُ الوحي بالسماء. ولهذا شجع الراشدان الأولان المسلمين على ألا يطيعونهما في ظلم، وتقبّلا انتقادات الكبير والصغير والرجل والمرأة !وخطبة بيعة الصديق بالخلاف ة دستورٌ في هذا.

فإذا ذُكرت الفتنة الكبرى، يكون همّ البرهاميين إلقاء كل تبعاتها على شخصية اليهودي «عبد الله بن سبأ»، الذي يشكك البعض في وجوده أساسًا، أو يحاولون إغلاق باب النقاش فيها، خوفًا من الطعن في «معاوية» وحزبه خصوصًا، أو بحجة عدم الخوض فيما لا يفيد! مع أن الانشقاق الأكبر في تاريخ الإسلام (الشيعي- السني) والذي لا يزال يقتل باسمه الآلاف قد بدأ منها، ولا يمكن محاولة علاجه أو تسكينه دون التطرق لهذه الفترة بموضوعية، تتجافى عن تعصب القرون، وعن محاولات التسطيح والتكميم.

بدأ الخلل بعد الشيخيْن في عهد ذي النورين «عثمان بن عفان»، والذي بلغ من العمر عتيًا، ولم يستطِع إدارة التغييرات المتسارعة في الأمة، والتي انضم إليها عشرات الآلاف من سكان البلاد المفتوحة، بثقافاتهم، وعقولهم المختلفة عن الجيل الأول. انفتحت على الأمة أبواب القوة والسطوة والثروة على مصراعيْها، وسمحت سياسته اللينة المتساهلة – مقارنة بالفاروق – ببروز المطامع، خاصة من بيته الأموي الذين ولاهم معظم الإدارات. وهكذا تألّب على الرجل بأخطائهم ومطامعهم من تألّب في الفتنة المشهورة، حتى انتهت بكارثة قتله بيد مسلمين.

أحدثت الواقعة هزة عنيفة ما زالت توابعها مستمرة إلى اليوم، ما بين أولويّتي الثأر من قتلة عثمان، أو الحفاظ على الدولة بإمرار بيعة علي بن أبي طالب المتعجلة وتأخير مسألة الثأر، حدثت أول – ولن تكون للأسف آخر – حرب أهلية في تاريخ الأمة، في موقعة الجمل، التي كان وقودها من خيار الصحابة. ما كاد علي يحقق انتصارًا بطعم الهزيمة، ويبدأ في لملمة الدولة المتفككة، حتى رفض بيعته أخطر الأمويين، «معاوية بن أبي سفيان» أمير الشام منذ 20 عامًا، و حشد الشاميين حوله باسم أخذ الثأر من قتلة ابن عمه عثمان.

سيقود هذا في النهاية إلى حرب صفين المهولة، والتي تجاوز معاوية الهزيمة فيها بأعجوبة من بوابة التحكيم، ثم أخذ يحرز النقاط ضد علي بالسيف والمال تدريجيًا، وتحول ثأر عثمان لطلب الخلافة. بينما انشغل علي بالخوارج، وتخاذل العراقيين، حتى استشهد بطعنة غادرة عام 40 هـ.

تولى «الحسن بن علي» بعد أبيه، فلم يجد همة من العراقيين للحسم مع معاوية، فتنازل للأخير عن الخلافة بدلًا من استمرار حرب لا تنقضي. وهكذا سقطت الخلافة في حجر الأمويين، ودخلت الأمة نفق الملك الاستبدادي العضوض.


الأمويون الذين علّموا الأمة الخوف!

الحق أن معاوية وازن طمعه وحبه للسيادة، بحكمةٍ وكياسةٍ واقتصادٍ في البطش، افتقدها أغلب خلفائه، فاستقرت حكومته 20 عامًا. لكنه ارتكب أكبر أخطائه وسنَّ سنة التوريث، فقدم ابنه «يزيد» على أكابر المسلمين.

اقرأ أيضا:تعظيم معاوية وشبهة إضفاء القداسة على الظلم

كانت حصيلة سنوات حكم يزيد 60 هـ: 64 هـ مفجعة؛ قتل الحسين، و استباح مدينة الرسول عندما انتفضت عليه، ثم قصة الكعبة للمرة الأولى لما تحصّن بها «ابن الزبير» ثائرًا.

كادت ثورة ابن الزبير تنتزع الدولة خالصة من الأمويين بعد اضطراب صفوفهم عقب وفاة يزيد. لكنهم تحصنوا بالشام، وعلى مدار سنوات، تقدموا بقيادة «عبد الملك بن مروان» تدريجيًا بالسيف وبالمال، حتى انتزعوا العراق من الزبيريين 72 هـ، ثم أرسلوا «الحجاج الثقفي» ليقصف الكعبة للمرة الثانية في سجل الأمويين، حتى قتل ابن الزبير متحصنًا بها 73 هـ.

هكذا فرض الطغيان الفردي نفسه بالسيف، وبدأت تتبلور أفكار الكثيرين في هذا المناخ بين سيف الطاغية وذهبه. ولم يكن للأمويين سقف في الدفاع عن سلطتهم، فقمعوا الثورات بوحشية، وأطلقوا يد ولاتهم كالحجاج وغيره في القتل بالشبهة، وقطع ألسنة المعارضين على اختلاف مشاربهم.

هذا المصير الفاشل لأغلبية الثورات، واستشهاد الآلاف من العظماء دون نصر، أحاط فكرة الثورة بنظرة سلبية. وشيئًا فشيئًا، تشكل الفقه السياسي السني التقليدي الذي يأمر بالصبر على الحاكم مهما بغى، خوفًا من الفتنة بلا جدوى.

اقرأ أيضًا: سعيد بن جبير: الرجل الذي قتل طاغية العراق بدمائه

رغم ما أحدثه الطغاة الأمويون، يصر الكثيرون من مدرسة برهامي الفكرية على الترحم عليهم – نكاية في الشيعة – واعتبارهم خلفاءً فاتحين، يمثلون بنسبة كبيرة مبادئ الحكم الإسلامي!


بين سلفيَّتَين

سنفرق بين مدرستين في الفقه السني التقليدي بخصوص الاستبداد. الأولى من العلماء العاملين، كأعلام التابعين «سعيد بن المسيب»، و«الحسن البصري».. إلخ، الذين وإن لم يخرجوا بالسيف على الطغاة لأنهم اعتبروا ضرر هذا أكثر من نفعه، فكأنه دفع المنكر بمنكر أشد، فإنهم قاوموا بالكلمة، وبالعلم. لم يقفوا أبدًا مع الظلمة ضد الثائرين، وإن اختلفوا مع طرائقهم. واعتزلوا دنيا الطغيان، وحرّموا صحبة السلاطين، وافتراش موائدهم، وأخذ عطاياهم.

أما المدرسة الأخرى، فهي التي فصّلت الفقه السياسي على مقاس الطغيان، بحسن نية أو بسوئها. فشرعنتْ التوريث، وحكم المتغلبين بالسيف، باسم الحفاظ على الاستقرار، حتى تواطأت القرون على التسليم بها مصادر للشرعية. وشتان بين الإذعان الاضطراري لأمرٍ واقع، مع توطئة النفس على مقاومته بالمتاح، وبين منحه الشرعية باسم درء الفتنة.. ذلك العنوان الفضفاض الذي أوقع الأمة في ألف فتنة وفتنة، وحبسها في العصور الوسطى إلى الآن.


الفقه السياسي الاستبدادي: الدين في خدمة السلطان

والآن نوجز أهم منابع الخلل الفكري السياسي الذي يمثله برهامي وحزبه، وبعضها أفكار عمرها بالقرون:

1. تثبيت فكرة أن الخروج على الحاكم لا يكون إلا بالكفر، مهما بغى وظلم. ولم نعلم أن سلفنا الصالح في القرن الأول، الحسين بن علي أو عبد الله بن الزبير.. إلخ، قد كفرّوا الأمويين قبل أن يجابهوا مظالمهم بالسيف. أم وصلتنا نحن المتأخرين سُننٌ لم تصلهم وهم عاصروا الرسول (صلى الله عليه وسلم) والجيل الأول. كذلك تتطوع هذه المدرسة كثيرًا بوصم كل ثائر بنعت الخروج الذميم، فيخصمون من شرعية طلب الحق، ويشرعنون الظلم القائم.

2. اعتبارُ شكلٍ تاريخي معين، الغايَة الكبرى من السياسة الإسلامية، وهو خلافة الفرد مطلق السلطات، وإغفال ما تراكم عبر القرون من تجارب البشر ومنجزاتهم في الحكم، التي قدمت نماذج أكثر حداثة وعدلًا ونجاحًا، وتتفق تمامًا مع روح الإسلام، وحكومة الراشدين، كالديموقراطية البرلمانية إلخ.

3. إنكار أن الأمة مصدر السلطة، احتجاجًا بمبدأ الحاكمية لله، مع أنه لا تعارض أبدًا بينهما، والله سبحانه وتعالى هو من أنزل في سورة التوبة: «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون». فما بديلهم عن سيادة الأمة؟ سيادة السيف أو التوريث أو كليهما!

4. تعميم وصف الصحابة على كل من رأى الرسول ولو لمامًا، والدعوة لاحتذائهم جميعًا كجيل راشد، وهم بعشرات الآلاف، مع أن منهم من أراد الدنيا على حساب الآخرة بنص القرآن، ومنهم الفئة الباغية في الفتنة كمعاوية وابن العاص.. إلخ. ونجم عن هذا الكثير من التشويش.

5. استسهال ادعاء الإجماع على كثير من آرائهم، رغم الصعوبة الشديدة الأقرب للاستحالة في إثبات اتفاق عموم مجتهدي عصرٍ ما على قضية واحدة. كما سطّروا – ولا يزالون – عشرات آلاف الصحائف لادعاء انتفاء الخلاف، ومصادرة الآراء الأخرى لصالح ما يرون، مما يسبب إشكالات كبيرة في مجال سائل ومتشابك كالسياسة. وهم عمومًا أشداء على عموم المسلمين، رحماء على طغاتهم وخاصتهم.

6. شغلوا الصحوة الإسلامية المعاصرة بالهوس بقضايا فرعية كالموسيقى واللحية.. إلخ، على حساب قضايا أوْلى كمجابهة الطغاة الذين أفسدوا تاريخ الأمة قرونًا، فإذا تعرضوا لهذه الأمور، كان نقاشًا نظريًا تبريريًا سطحيًّا، يزيد الخبال، وهكذا جعلوا الصحوة كطالب في امتحان عسير، يطيل في إجابة جزئية من سؤال اختياري، على حساب الأسئلة الإجبارية.

7. محاولة التصدر للفتيا في كثير من القضايا المعاصرة الشائكة بعقلية وفتاوى فقهاء القرون الماضية التي لا شك كانت أبسط من واقعنا المعقد، مما يوسع الفجوة بين الناس وبين دينهم.

9. التعصب الطائفي خاصة ضد الشيعة، وهذا بالطبع على هوى حكام نجد الذين يبنون جزءًا من شرعيتهم على كونهم حماة السنة، حتى أوصلوا كثيرين لاعتبار الشيعة أخطر من الصهاينة، ولا يخدم هذا إلا مشاريع تدمير المنطقة وتعزيز أمن إسرائيل. فمثلًا في الثورة السورية، يختزلون كل جوانبها المعقدة في البعد الطائفي وحده، وهي بالأساس قضية طاغية مجرم – يشبه الحكام الذين يدور هؤلاء في فلكهم – يستعين بالأجنبي لذبح شعبه الثائر، والبقاء في السلطة بأي ثمن.

سؤال: ماذا لو كان بشار بنفس أفعاله سنيًا، والثائرين في غالبيتهم شيعة؟ الإجابة كانت في البحرين! – مع الفارق المهول إجراميًا لصالح بشار وداعميه .

ختامًا، إن كان لسنواتنا العجاف الحالية من مزية، فهي ابتلاءاتها المتتابعة التي كشفت الكثير من الحقائق، والمواقف، والشخوص، وأسقطت مسلمات كاذبة لا تحصى. وهذا إن أخذناه بقوة، وبنينا عليه، فقد يكون لنا جولة أخرى.