تحل الآن الذكرى 1378 لواحدة من أبشع المآسي في التاريخ الإسلامي. في 10 من المحرم 61 هـ، كانت بلدة كربلاء وسط العراق شاهدة على استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنهما، حفيد الرسول عليه الصلاة والسلام، الذي قتل ومعظم رجال بيت الرسول، ولم تمضِ على وفاة جده (ص) 50 عامًا، بسيوف جيش من يدعي أنه «أمير المؤمنين»، وخليفة الرسول (ص)، وذلك عندما خرج الحسين بعد وفاة معاوية 60 هـ معترضًا على توريث الحكم لابنه يزيد بالترهيب والترغيب رغم إرادة الكثيرين.

كان رضي الله عنه من القلة القليلة التي لم يدفعْها سيف المعز ولا ذهبه لإعطاء البيعة بولاية العهد أيام معاوية، لكنه استقام لمعاوية حتى انقضاء أجله، التزامًا باتفاق الناس عليه في عام الجماعة 41هـ.


«القلوب معه.. والسيوف مع السلطان»

أرسل العراقيون للحسين يدعونه ليقودهم كما كان أبوه، وأنهم سيبايعونه بالآلاف، ليواجهوا الوريث المغتصب للخلافة، وليتخلصوا من الولاة الظالمين الذي كان ينتقيهم معاوية لقمعهم.

غادر الحسين الحجاز إلى العراق رغم تحذيرات الناصحين من تقلبات أهلها، وسبقه ابن عمه «مسلم بن عقيل» لأخذ البيعة، وحشد الأنصار في الكوفة. ظفر والي الكوفة «عبيد الله بن زياد» بمسلم، وقتله شر قتلة، وقمع الكوفيين.

لما وصل الحسين، وجد نفسه في كربلاء وليس معه سوى سبعين من أهل بيته، ولم يجسرْ على الانضمام إليه إلا ما يعد على أصابع اليد الواحدة من الكوفيين، وأمامهم جيش الوالي وعدته 4 آلاف جندي. لم يعطِ الحسين الدنيَّة، ورفض الاستسلام المذل، وآثر أن تكون دماؤه الزكية علمًا مدى الدهر للتضحية في سبيل الله وكرامة الأمة. ودليلًا أبديًا على دناءة السلطان.


كربٌ وبلاءٌ .. وفرقة أزلية

راياتٍ كثيرةٍ رُفعَت باسم ثارات الحسين على مر القرون، من أولياء وأدعياء. حقَّق بعضُها ما يراه ثأرَه لدم الحسين، وفشل أكثرها

انفتح في كربلاء على أمتنا بابٌ مشرعٌ على مصراعيْه للكرب والبلاء لم ينغلقْ أو يُوارَب، ولا يبدو أنه سينغلقُ قريبًا. فللآن – ورغم مرور 14 قرنًا – لا يزال أناسٌ يقتلون حقًا وباطلًا باسم كربلاء وشهيدها. وهيمنت شرعية السيف – مهما سفك من دماء وكرامة – على شرعية الشورى ورأي الأمة.

أحدثت الصدمة الدموية شرخًا عميقًا عبر الزمان والمكان في ذاكرة الأمة، وكيانها، وفهمها للإسلام، وثقتها في نفسها، وقدرتها على ردع الظالمين. فلمْ يكن غريبًا أن يُتوَدَّع منها في فترات تاريخية ليست بالقليلة، فيصبح بأسُها بينَها شديد، وقلوبها شتى.

كانت الملحمة الدموية هي البداية الحقيقية للصدع الأكبر بين المسلمين، ببروز التشيع، وتطوره من مجرد تأييد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حربي الجمل وصفين، بصفته صاحب البيعة الشرعية بعد اغتيال عثمان رضي الله عنه – ومعظم المسلمين على ذلك – إلى اعتبار أفضلية آل البيت، وأحقيتهم بخلافة الرسول أصلًا، وإلى الادعاء فيما بعد بعصمة بعض آل البيت، وأنهم أئمة الدين والدنيا لا يخلو الزمان منهم … إلخ.، إلى اختلافاتٍ في تعيين هؤلاء الأئمة.. وهكذا ظهرت الشيعة الزيدية، والإثنا عشرية، والإسماعيلية… إلخ.

راياتٍ كثيرةٍ رُفعَت باسم ثارات الحسين على مر القرون، من أولياء وأدعياء. حقَّق بعضُها ما يراه ثأرَه لدم الحسين، وفشل أكثرها، أو أخذ ثأره ممن لو رآه الحسين يأخذ منهم الثأر، لانتقم لهم الحسين! ومع كل فصلٍ دموي جديد يزداد تخندق الأمة ضد بعضها البعض، وتتعمق الشقوق. ولم يدخر الطغاة الذين تعاقبوا على حكمنا وُسعًا في إضافة المزيد من هذه الفصول إلى كتاب الأمة المُثقَل بالفواجع.


العراق 65هـ إلى 71 هـ .. بعد فوات الأوان

شعر أهل العراق بالعار لتقاعسهم عن الحسين. ولذا فما إن هلك يزيد بن معاوية 64 هـ، واضطربت أمور الأمويين، بعد خلع معظم الأمصار سوى الشام طاعتهم، وبيعتها لعبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-. حتى خرج آلافٌ منهم بقيادة سليمان بن صرد (وهو صحابي) عام 65 هـ، وسمُّوا أنفسهم «التوابين»، لأخذ الثأر من قتلة الحسين، خاصة الوالي ابن زياد، وقائد جيشه عمر بن سعد.

كان ابن زياد حينها في الشام يعاون مروان بن الحكم الأموي في أخذ البيعة لنفسه خليفة. فلما علم بخروجهم، بادرَهُم بجيش كثيف من الشاميين في عين وردة في طريق الشام. فدارت الدائرة عليهم لكثرة الشاميين، واستشهد سليمان وعدد كبير من التوابين بعد استبسال.

أضيفت آلاف الثارات إلى حلقة الدم المفرغة، ولم يهدأ العراق، رغم استمرار الأمويين في رميه بأعنف الولاة أمثال الحجاج.

خرجَ بالكوفة في العام التالي 66 هـ المختار الثقفي ينادي بثارات الحسين. وكان مخادعًا، فادعى أن محمد بن علي بن أبي طالب «محمد بن الحنفية» أمره بالخروج. فاجتمع إليه آلاف من الشيعة، واستولوا على الكوفة. وتتبَّعوا من شارك في قتل الحسين كبيرًا أو صغيرًا، فقتلوا الكثيرين.

جهز مروان بن الحكم، ابنَ زياد بجيش كبير، وأمره باسترداد الكوفة واستباحتها 3 أيام. فخرج المختار لمواجهة الشاميين، وانتصروا عليهم في غير موقعة غرب العراق. ثم نجح إبراهيم بن الأشتر 67 هـ الذي أرسله المختار لحرب ابن زياد، في هزيمة الشاميين قرب الموصل، و قُتِل ابن زياد، وطيفَ برأسه بالكوفة. وممن قتل معه الحصين بن نمير، أحد قادة الجيش الشامي الذي استباح المدينة في وقعة الحرة 63 هـ.

لم يكن المختار على قدر نبل القضية، وكان مخادعًا متقلبَ الولاء، وبالغَ في حق نفسه، وادَّعى كرامات، وقتل بعض الناس بالشبهة، فاصطدم به مصعب بن الزبير والي العراق من جهة أخيه عبد الله. وقتله عام 67 هـ.

ظل العراق والحجاز لسنواتٍ تحت حكم ابن الزبير، حتى خرج عبد الملك بن مروان من الشام وقتل مصعب بن الزبير 71 هـ في موقعة مسكن، ثم أرسل سيئ الصيت الحجاج الثقفي، فقتل أخاه عبد الله رضي الله عنه الذي كان متحصنًا بالكعبة للمرة الثانية. وهكذا أضيفت آلاف الثارات إلى حلقة الدم المفرغة، ولم يهدأ العراق، رغم استمرار الأمويين في رميه بأعنف الولاة أمثال الحجاج.

وكان أشد ما خرج على الحجاج هو ثورة ابن الأشعث 81 هـ، ولم يكن كل من خرجوا فيها من الشيعة، إنما كان الدافع الأكبر بطش الحجاج واستهانته بالدماء. لكن كسرها الحجاج في موقعة دير الجماجم 82هـ الدموية، وقتل الآلاف ممن اشتركوا فيها صبرًا بينَ يديْه.

اقرأ: سعيد بن جبير .. الرجل الذي قتل طاغية العراق بدمائه.


الكوفة 122 هـ .. كربلاء كلاكيت ثاني مرة

جاء موعد «زيد بن علي بن الحسين» ليسقط شهيدًا بسيناريو جده قبل ستين عامًا. أغرى الكوفيون زيدًا بالخروج، ووعدوا بنصرته بالآلاف – أين شاهدت هذا من قبل؟- ثم تخلى عنه أكثرهم عندما رفض أن يسب أبابكر وعمر، وقال إنه يفضل جده عليًا عليهما، لكنه يوقرهما كما وقرَّهما آباؤه وأجدادُه لقيامهما بالعدل.

من هنا، نشأت الشيعة الرافضة التي ترفض الصحابة، وتتهمُهم بمخالفة وصية الرسول لآل البيت، ونشأت الزيدية نسبة لزيد وأفكاره. خرج زيد بالمئات الباقية معه، عندما علم أن يوسف بن عمر والي العراق كشفهم. واستبسل في قتال جيوشه، وهزمهم غيرَ مرة، حتى أصابه سهم وسقط شهيدًا، فانهزم أصحابه. أخرج يوسف بن عمر جثة زيد، وظلت مصلوبةً في الكوفة أعوامًا.


الكوفة 132 هـ .. الظالمين بالظالمين

يا أهل الكوفة ! أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا .. فاستعدوا، فأنا السفاح الهائج والثائر المبير
جزء من خطبة أبو العباس السفاح الخليفة العباسي الأول، على منبر الكوفة بعد مبايعته في العراق وخراسان.

تمتد جذور الثورة العباسية ضد الأمويين 30 عامًا قبل هذه الخطبة. وكانت دعوة سرية لحُكمِ من ترتضيه الأمة من آل البيت، فلما توفي إمامها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية، ادعى ابن عمه علي بن عبد الله بن عباس أنه أورثه الدعوة، التي استمرت في التقدم البطيء سنواتٍ في خراسان «فارس» لبعدها عن الشام. وكلما ضعفت الدولة الأموية، اشتدت الدعوة وكثر أنصارها من الموتورين من جرائم الأمويين.

اندفعت رايات الثورة السوداء كالسيل، فجرفت حكم الأمويين من خراسان والعراق في سنواتٍ معدودات، ثم هزموا مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين، واستولوا على دمشق حاضرة الأمويين.

تتبع العباسيون الأمويينَ قتلًا وتشريدًا، وأخذوا العاطل بالباطل، ولم ينجُ منهم إلا القليل. لم تجنِ الأمة شيئًا من هذا الانقلاب. فقد استُبدِل الطغيان الأموي بالعباسي، وأعطى العباسيون أبناء عمومتهم الطالبيين كتفًا قانونيًا وغيرَ قانوني، واستأثروا دونهم ودون الأمة بالحكم ووراثته.

قمع العباسيون ثورات الطالبيين – و غيرهم – بمنتهى الغلظة، وأشهرها ثورة محمد النفس الزكية الذي استشهد بالحجاز 145 هـ. وهكذا ألقي المزيد من الحطب في لهيب المظلمة. وزاد التشيع تطرُّفًا، واشتهاءً للانتقام.


الشيعة على الكراسي

قامت دعواتٌ شيعية كثيرة، مختلفة المشارب والآراء. وكلٌّ يدعي وصلًا بليلى، وليلى لا تقرُّ لأكثرهم بذاكا ! ولما ضعفت الخلافة المركزية، بدأت بالدعوة وبالسيف تسيطر على أطراف الدولة، ثم مراكزها.

من الأدارسة الذين استقلوا بالمغرب نهاية القرن الثاني الهجري إلى منتصف الرابع، إلى القرامطة شديدي البطش الذين استولوا في أواخر القرن الثالث، على شرق الجزيرة العربية وجنوب العراق، واستباحوا مكة 317 هـ. إلى البويهيين الذين انتزعوا سلطات الخليفة العباسي الضعيف، وتسلطنوا ببغداد من منتصف القرن الرابع إلى الخامس. إلى العبيديين الإسماعيليين الذين نسبوا أنفسهم لآل البيت، وحكمت خلافتهم الفاطمية في أوجها – أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس – من الحجاز إلى المغرب. إلى الحشاشين الذين تحصنوا بقلاعهم في فارس والشام، ونشروا الاغتيالات والرعب ضد مخالفيهم لقرون، حتى قضى عليهم هولاكو في طريقه لبغداد 656هـ. ثم الصفويون في فارس، والذين كان شغلهم الشاغل محاربة العثمانيين السنة لأكثر من قرنين، من العاشر إلى الثاني عشر.. إلخ.

استمرت رحى الدم دائرة عبر العصور، في سبيل السلطان قبل الله. وقتل تحتها مئات آلاف المسلمين، وتجذَّرت الكراهية. وعلى هامش هذا الجنون الطائفي السياسي، انتزع الصليبيون سواحل الشام مائتيْ سنة، وسُحق الوجود الإسلامي في الأندلس على مدى 4 قرون (من الخامس للتاسع )، ودمر المغول بغداد عاصمة الخلافة !


المشهد حديثًا

لما نجحت الثورة الشعبية في إيران 1979م مستلهمة ذكرى الحسين، وأعلنت دعمها المستضعفين في كل مكان. استبشر الكثيرون خيرًا، بأن تعاقب الأزمان، والاتحاد ضد عدونا المشترك (إسرائيل ومن وراءها)، قادران على إذابة جليد القرون الغابرة، وفتح صفحاتٍ جديدة. لكن كان لهذا بالمرصاد من زجوا بالعراق وإيران في حرب الثماني سنوات الدموية 80-1988، والتي تركت ملايين الموتورين، وأحيت ما ظنناه سيموت من الطائفية.

ثم سقط العراق عام 2003م، وحدثت الفتنة الطائفية فيه برعاية المحتل. وما كدنا نستبشر بتجربة حزب الله ضد إسرائيل، والتفاف الأمة حول نضاله. حتى فجعنا بالمجزرة السورية من 2011 إلى الآن، والتي مازال يقتل الآلاف فيها حلف يزيد، ولكن براية الحسين! وتُدفع الأمة كلها دفعًا لحرب طائفية مجنونة، يُرادُ لها أن تكون شاملة ساحقة، تترك ما سوى إسرائيل وحلفائها قاعًا صفصفًا.


فهل من سبيل؟

استمرت رحى الدم دائرة عبر العصور، في سبيل السلطان قبل الله. وقتل تحتها مئات آلاف المسلمين، وتجذَّرت الكراهية.

لن تنكسر الحلقة المفرغة إلا بانتزاع الطغيان السياسي والاستبداد من فكر الأمة وواقعها. فالطغاة هم من أحدثوا هذه الصدوع، وفاقموها. فأول الطريق أن تسترد الأمة إرادتها وكرامتها ورشدها. وأن يبحث الجميع عن المشترك وهو كثير ليلتفوا حولَه. بغير هذا، سيكون القادم أشد وبيلا من الفائت!