محتوى مترجم
المصدر
aeon
التاريخ
2018/8/21
الكاتب
بيتر أتكينز

أثبت العلم أنه الطريقة الصحيحة لمعالجة كافة الأسئلة المُتعلقة بالعالم المادي. وبوصفي عالمًا، أجد نفسي مدفوعًا للتساؤل حول قدرته غير المحدودة على توفير الفهم والمعرفة. هل يستطيع العلم فعلاً الإجابة على جميع الأسئلة الكبرى؟ أعني الأسئلة الوجودية الكبرى التي تواجه البشرية؟

لنبدأ أولاً بتحديد تلك الأسئلة الكبرى، والتي يمكن تقسيمها في رأيي، إلى فئتين:

الفئة الأولى

تشمل الأسئلة الخيالية/المُختلَقة، والتي تستند إلى تكهنات وتخمينات البشر غير المُبرَرة. وتشمل، إجمالاً، التساؤلات المتعلقة بالعلّة أو الغاية والقلق من اندثار الذات، مثل: لماذا نحن هنا؟ وما هي خصائص الروح؟

إنها تساؤلات غير حقيقية، لأنها لا تستند إلى دليل. وحيث إنه لا يوجد إثبات أو دليل على أن للكون غاية، فإن محاولات إثبات هذه الغاية المزعومة هي ضربٌ من العبث، ولأنه لا دليل على وجود الروح (إلا في التعبيرات المجازية)، فلا جدوى من إنفاق الوقت في التساؤل عن صفاتها ما لم نكن قد أقمنا دليلاً على وجود هذا المفهوم.

إن الانشغال بمعظم تساؤلات هذه الفئة مضيعة للوقت، ولأنها ليست مفتوحة للخطاب العقلي، يتم حلها في أسوأ الأحوال بالسيف أو بالقنابل أو بالحرائق.

الفئة الثانية

تتعلق بالأسئلة حول سمات الكون، التي يمكن الاستدلال عليها بالدليل المادي، عوضًا عن التخمينات المُشبِعة للرغبة والانفعال الناتج عن دراسة النصوص المقدسة. حيث تتضمن هذه الفئة التقصي عن نشأة الكون، وبخاصة كيف يوجد شيء بدلاً من اللا شيء، كما تشمل التحري عن بنية الكون (وبخاصة القوة النسبية للقوى التأسيسية، وماهية الجسيمات الأولية)، وكذلك طبيعة الوعي. إنها أسئلة حقيقية قابلة للشرح العلمي.

من الأمور الشائعة وغير الثابتة، أن تبدأ الفئة الأولى، فئة الأسئلة المُختلَقة، بـ «لِم أو لماذا». في حين تبدأ الثانية بـ «كيف»، ولكن يتم تحويلها إلى أسئلة «لماذا» تسهيلاً للخطاب وتجنبًا للتخبط. وبالتالي فإن السؤال: لماذا يوجد شيء بدلاً من اللا شيء؟ (وهو سؤال يحمل في طياته تلميحات إلى الغاية/العلّة) هو في الحقيقة أحد الأشكال التنكرية لسؤال: كيف يظهر شيء من اللا شيء؟

ومن الممكن دائمًا تفكيك تلك الأسئلة إلى سلسلة مترابطة من أسئلة «كيف»، وهي أسئلة جديرة بأن تُوضع في الاعتبار -من حيث المبدأ- وحريّ بأن يُجاب عليها.

أتفهَّم أن يتهمني البعض باستخدام المنطق الدائري، فما أقوله هو: أن الأسئلة الكبرى الحقيقية هي تلك التي يمكن إجابتها بشكل علمي، وبالتالي فإن العلم وحده هو الذي يستطيع الإجابة عليها، وأن علينا أن نضع جانبًا الأسئلة المُختلَقة باعتبارها هُراءً فكريًا.

لعل هذا صحيح، فوجود دليل مُعلَن ومُتاح للجميع هو في النهاية مصفاة رائعة بلا شك للتمييز بين فئتي الأسئلة الكبرى، كما أن الدليل هو الركيزة الأساسية للعلم.

إن العلم يُشبِه «مايكل أنجلو»، الذي أظهر مهارته في النحت في صغره بنحت رائعته «بيتا» في الفاتيكان، وفي شبابه عمل على اكتساب وإظهار مهارتِه بكسر كل التقاليد الفنية السائدة وخلق فنه شبه التجريدي الذي تميز بتفرده.

قطع العلم طُرقًا مُشابهة، خلال أربعة قرون من السعي الجاد، بداية من «جاليليو» فصاعدًا، عندما امتزج الدليل بالرياضيات، وظهرت سلسلة استثنائية من المفاهيم والإنجازات العلمية، اكتسب العلم نضوجه، وبدلاً من الاكتفاء بشرح الملاحظات الأولية البسيطة، بات الآن قادرًا على التعامل مع الإشكاليات العلمية الأكثر تعقيدًا.

لقد أدى ظهور الحِساب بوصفه أحد عناصر التطبيقات العملية للنظريات العلمية، بالإضافة إلى اكتشاف الأنساق/الأنماط الموجودة في المجموعات الهائلة من البيانات، إلى مدّ قدرتنا على الوصول إلى المنطق، مما أثرى المنهج العلمي على نحو هائل، وعزّز الجانب التحليلي.

بات سلاح العلم ذي الثلاث شعب (الملاحظة، والتحليل، والحِساب) مُستعدًا الآن لمهاجمة الأسئلة الكبرى، والتي تترتب زمنيًا كالآتي:

  • كيف بدأ/نشأ الكون؟
  • كيف صارت المادة الموجودة في الكون حيّة؟
  • كيف اكتسبت المادة الحيّة الوعي؟

وبفحص وتمحيص كل سؤال على حدة، نجد أنه يحتوي على عديد أسئلة أخرى. كما في السؤال الأول الذي يتضمن تساؤلات حول القوى والجسيمات الأساسية التي شكّلت الكون، وبالتالي معرفة ما سيصير إليه في المستقبل البعيد. إنه يتضمن التوحيد بين نظرية ميكانيكا الكم والجاذبية وهي مشكلة غير هيّنة.

لا يتضمن السؤال الثاني عملية الانتقال من غير العضوي إلى العضوي فقط، ولكن عملية تطور الأنواع المختلفة أيضًا بالتفصيل ونتائج البيولوجيا الجزيئية. وكذلك السؤال الثالث الذي لا يشمل القدرة على التفكّر والإبداع فحسب، بل القدرة على إصدار الأحكام الجمالية والأخلاقية كذلك.

ولا أرى سببًا يدعونا إلى عدم استخدام المنهج العلمي في إجابة -أو على الأقل إلقاء الضوء على- سؤال: «كيف يجب علينا أن نحيا؟» الذي طرحه سقراط، وذلك بمساعدة أنصاف العلوم (العلوم الاجتماعية) بما فيها الأنثروبولوجيا، وعلم سلوك الحيوان، وعلم النفس والاقتصاد.

هنا يطل المنطق الدائري برأسه من جديد، فمن الجائز أن يَحول قصور الوعي الإنساني دون الفهم الكامل لبنية نسيج الواقع. لذا يجد السؤال الأول نفسه مُقيدًا في الثالث. ويمكننا أن نلحظ إشارة على هذا في نظرية «ميكانيكا الكم» التي أُبعدت عن الممارسة العامة، بحيث لم يعد هناك من يفهمها حقًا (إلا أن هذا لم يحد من قدرتنا على الاستفادة منها).

إن التفاؤل هو المُحفِّز للعلم، علينا أن نتفاءل بأن الصبر والجهد والتعاون سوف يقودنا في النهاية إلى إيجاد الإجابات التي نبحث عنها. لقد تحقَّق لنا ذلك في الماضي، ولا يوجد سبب يدفعنا الآن إلى الاعتقاد بأن ثقتنا في العلم لم تكن في محلها.

بالطبع تبقَّى لنا الكثير لإنجازه، ومن غير المتوقع أن نُحقِّق إنجازات مُفاجئة، وقد يأخذنا سعينا مؤقتًا إلى دروب معتمة ثم تنجلي العتمة فجأة كاشفةً عن إنجاز حقيقي. ربما تأخذنا اقترابات علمية جديدة إلى اتجاهات لا يمكن تخيلها، مثلما حدث عندما ظهرت النسبية وميكانيكا الكم. قد نكتشف أن الكون ما هو إلا معادلة حسابية بسيطة. وقد نجد أن علينا ترك مهمة فهم الوعي الإنساني إلى الأجهزة الاصطناعية التي ظننا أنها مجرد ماكينات لمحاكاته. وقد يكون لدى هذا الوعي الاصطناعي وحده القدرة على فهم: كيف ظهر شيء من اللا شيء؟

لا أعتقد أن هناك ما لا يستطيع المنهج العلمي تفسيره. كما أعتقد حقًا، أن علينا أن نسعَد برحلة العقل البشري الجمعي في هذا المشروع الذي نسميه: العلم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.