في خمسينيات القرن الماضي، اقتصرت الصحافة والإعلام الرياضي في مصر على مربعٍ صغير الحجم شبه مهجور في صفحة داخلية بجريدة الأهرام يعلق على الأحداث متى ظهرت.تطور الأمر بظهور الكاتب العظيم «نجيب المستكاوي» بعد تلك الحقبة بخيلة الإضافات.

باتت الصحف تتنافس حتى تحصل على إعجاب الجمهور، ومن ثم تحقيق مكاسب مادية وربحية أكثر فأكثر. استمر الوضع على ما هو عليه لسنواتٍ طويلة مقتصرًا على الصحف المحلية التي تُحقق انتشارًا عالميًا ضئيلًا جدًا.

إبان تلك الأحداث في مصر؛ كان التسارع فيما هو خارجها لا يختلف كثيرًا عنها، خاصة فيما يتعلق بالبلدان القريبة، عربية كانت أو أفريقية. كل الأمور قد تحولت رياضيًا إلى حدٍ بعيد في السنوات الأخيرة؛ فلم يعد امتهان الإعلام الرياضي يتوقف فقط على الصحف المحلية.

في الواقع، حسب الدراسات الأخيرة فإن القيم المتأتية من التجارة في الإعلام الرياضي متوقع لها أن تتضاعف في السنوات القليلة القادمة. تعود هذه الزيادة إلى وجود اتفاقات فيما يخص حقوق النشر والبث في كل بلدان العالم.

العديد يصنف هذه الزيادة بأنها ستصبح الأكبر في تاريخ الرياضة، مفترض أن تضاعف تلك الزيادة المادية أهمية العمل في ذلك المجال اللامع، ومن ثم وجود فرص أكبر فيه، لكن إلى أي مدى تطورت الرياضة في مصر من هذا الجانب بالتحديد، حتى تواكب ذلك التطور العالمي؟


تقنية الفيديو فاشلة التنفيذ

تقنية الفيديو في الملاعب المصرية بصيغة بدائية.

بنهاية الموسم الماضي من الدوري المصري، ظهر في الجولة الأخيرة من المسابقة أحد الحكام ومن أمامه شاشة تليفزيونية صغيرة الحجم. قيل وقتها في الصحافة إنها محاولة لتطبيق تقنية الفيديو في مصر.

وبغض النظر عن تضارب الآراء عالميًا حول قيمة تقنية الفيديو «VAR» من عدمها، فدعونا ننظر للتجربة المصرية من الجانب التقني، وبعيدًا عن جودة وحجم الشاشة المستخدمة فيها.

بعد الكلاسيكو الذي أُقيم في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2016، اجتاحت موجة من الذهول عقول كل المشاهدين، ليس لمستوى كرة القدم على أرض الميدان لكن لجودة التصوير فيه، وفي التقنيات التي تُستخدم للمرة الأولى في ملاعب كرة القدم.

نُقلت المباراة بتقنيات «4K, Ultra HD, 360». تُعد كل تلك المسميات بالنسبة للواقع الإخراجي في مصر محض خيالات علمية لم نعرفها بعد، في ظل نقل كل مباريات الدوري المصري بتقنية «SD».

التطور الذي ظهر في هذه المباراة كان مُحبطًا للجميع في كل بلدان العالم ليس فقط في مصر، لكن الوضع بالنسبة لمصر كان أكبر من كونه إحباطًا. يُبث الدوري السعودي مثلًا بتقنية «2K»؛والتي تُعد 6 أضعاف تقنية «HD» المتاحة في وحدتين فقط داخل هيئة التليفزيون المصري.

لا يتم النقل بتقنية «2K» إلا في عدد محدود من المباريات وفي بعض الملاعب، وهو ما يجعل الأمر بالنسبة للمخرجين السعوديين، وكذلك الإماراتيين، بعيد المنال لكنه ليس مُستحيلاً، أما بالنسبة للوضع عند المخرج المصري فهو غير معروف أصلًا!.

بعد الكلاسيكو المذكور؛صرّح المخرج المصري الشهير «محمد نصر» أن هناك إحدى الكاميرات قد أعادت لقطة الهدف لفريق برشلونة في نفس المباراة، لم يتمكن هو من التعرف عليها بالرغم من بحثه عنها طيلة ليلة كاملة -على حد وصفه-.

يعد «نصر» أكثر المخرجين شهرة في مصر، بل وكذلك من أكثرهم خبرة في المجال، وذلك لعمله في أكبر البرامج الرياضية، وفي نقل الأحداث الكبيرة من غرف الإذاعة المصرية؛ فإن كان لا يعرف حتى نوع الكاميرا، كيف له أن يستخدمها إن أُتيحت له؟!

تؤكد الصحافة المصرية في عدد من تقاريرها أن الجهة المُنتجة للدوري المصري، والمالكة لحقوق بث مبارياته، «بريزينتيشن سبورت»، قامت بتقديم خطة للتصوير التلفزيوني باعتبارها من تقوم بإنتاج المباريات، حيث طالبت بأن يكون أقصى عدد للكاميرات في مباراة واحدة 8 كاميرات في مباريات الأهلي والزمالك.

فيما يتم الاكتفاء بعدد 2 كاميرا أو 3 في المباريات الصغيرة، وهو الأمر الذي يؤثر على جودة التصوير. هذا إذا علمت أن المباريات تُنقل في السعودية بـ35 كاميرا، وفي أسبانيا بـ38 كاميرا بما فيهم مبارتان كل يوم بتقنية «4K».

فإن كان الحكم، الذي يجلس أمام شاشة صغيرة جدًا في الملعب مُنتظرًا إعادة من مخرج المباراة حتى يتأكد من قرار حكم الساحة، لا يرى المشهد بصورته الكاملة أو الواضحة؛ فكيف له أن يُعدل على حكم آخر بأي شكلٍ من الأشكال؟ الوضع يصل في أحيانٍ كثيرة أنه يعصب علينا تمييز رقم اللاعب من سوء التصوير وصعوبة الإعادة.


ضآلة فرص مشاهدة المباراة كاملة

إن كنا قد دافعنا عن العاملين بالإعلام الرياضي المصري من جانب الإمكانيات وصعوبة وجود كاميرات تضاهي حتى البلدان العربية القريبة، فإنه لزامًا علينا أن نؤكد أن العملية لا تتوقف على الإمكانية فقط.

مؤخرًا ظهرت مقاطع كليبات للأغاني يتم تصويرها بكاميرات هواتف محمولة، وهو ما يُبرز جدًا جودة المُخرج والمونتير. بالطبع كلما زادت الإمكانية؛ زادت الجودة لكن هناك بعض الأمور لا يمكن أن يتم إدراجها تحت عوائق الإمكانيات.

أقرب حدثين كبيرين في الكرة المصرية كانت مباراة «الأهلي» و«الزمالك» في الثامن من يناير/ كانون الثاني الجاري، وبعدها مباشرة قمة السوبر المصري، كان طرفاها «الأهلي القاهري» و«المصري البورسعيدي»، وأُقيمت على الأراضي الإماراتية للمرة الثالثة على التوالي، في الـ12 من نفس الشهر.

حقق المارد الأحمر الفوز في كلتا المباراتين، لكن كان هناك فارق واضح بين كل منهما على مستوى الإخراج والبث التليفزيوني. سبق وأن أوضحنا الفارق بين الإمكانيات المصرية والإماراتية، لكن ما دخل الإمكانيات في مواضع اختيار إعادة أحد لقطات المباراة؟

المخرج المصري لمباراة القمة كان يختار دائمًا زوايا للتصوير غير مناسبة تمامًا، وفي غير موضعها. المعلق المصري على المباراة آنذاك «مدحت شلبي» أشار كثيرًا للخطأ الذي يقع فيه المخرج بشكلٍ دائم بقراره الإعادة في غير وقته، وفي التحول للاعب مُعين بعينه أثناء سير اللعب.

يظل الوضع مشكلة كبيرة حتى يُشاهد نفس المتفرج المصري على مباراة السوبر بعدها بأربعة أيام فقط، فيتحول الوضع إلى كارثي. مباراة المصري والأهلي لها أبعاد اجتماعية وسياسية وأمنية كثيرة بجانب أهمية المباراة الرياضية، بالتالي تهدئة الجماهير بشتى الطرق في هذا اللقاء كان ضرورة قصوى.

ولا شك أن أحد أهم عوامل هذه التهدئة؛ هو الاطمئنان لصحة قرارات حكم المباراة، وهو ما يتضح جدًا مع كل إعادة ومع كل زاوية يختارها المُخرج داخل دولة الإمارات. لم توجد لقطة واحدة ضائعة من المشاهدين، وهو الشيء المُستحيل حدوثه في الكرة المصرية وخاصة في المباريات الكبيرة، مع ضرورة الإشارة لأن مباراة القمة الأخيرة كانت بأفضل إمكانيات متاحة في الإخراج المصري.


أهل الخبرة أم أهل العلم؟

قبل 4 أعوام،أعلنت شبكة قنوات «MBC» نجاحها في الحصول على حقوق بث الدوري السعودي بقيمة 4 مليارات و100 مليون ريال سعودي، ما يعادل وقتها مليار دولار أمريكي. يمتد إلى 10 أعوام من تاريخه، وهو ما يعتبر القيمة الأكبر في المملكة حتى الآن.

في حين توقفت قيمة الدوري المصري -بعد قفزته الكبرى الأخيرة- عند حوالي 136 مليون دولار أمريكي فقط، بفارق ضخم جدًا بينه وبين نظيره السعودي. بالقطْع سيكون هناك مبالغة في غير محلها إن تمت المقارنة مع أي من الدوريات الأوروبية الكُبرى كالإنجليزي أو الأسباني.

الشركة المالكة لحقوق البث للدوري المصري -«بريزينتيشن سبورت»- لم تتوقف في أي من بياناتها أو تصريحاتها عن ذكر كلمات التطور والتقدم والمستقبل وما إلى ذلك، مشيرة إلى أن هناك نوايا عِدة بحدوث طفرات في البث التليفزيوني للدوري المحلي.

وللأسف كل هذه الوعود تقع تحت بند الواهية. فحتى بعد وجود تطور واضح في القنوات الناقلة للبطولة، وظهور شبكات جديدة من القنوات التي تتمكن من النقل بجودة HD، تظل المُعضلة في جودة ذلك البث من عدة رؤى أخرى، بجانب ما تم ذكره من سوء المخرجين وضعف الإمكانيات، تبدأ من الإستوديوهات التحليلية.

عند محاولة «المستكاوي» لتكوين أول صفحة رياضية ناقدة في مصر والوطن العربي قبل عقود، سعى لأهل الخبرة في كل اللعبات التي يسعى لتغطيتها. الصعوبة هنا كانت تكمن في أنه لا يوجد أحد الصحفيين يسعى للعمل في المجال الرياضي لأنه كان حين ذاك لا يجذب أيًا من الجماهير؛ فكان الاعتماد على الخبراء شيء منطقي جدًا حتى تُحل معضلة الصحفيين.

وبعد أن تطورت تلك الصناعة حتى أصبحت الجاذب الأول لكل الذين يرغبون في العمل في الصحافة، ما الداعي إذًا لبقاء الاعتماد على أهل الخبرة فقط من لاعبي كرة القدم القدامى الذين لا يملكون أي سندات علمية للقيام بذلك؟

تسعى الجامعات في مختلف دول العالم الآن لتقديم شهادات مُتخصصة في مجال الصحافة الرياضية، ولم يعد مجال الإعلام يُدرس بعموميته التي كانت معتادة لمدة 100 عام تقريبًا. تطور الأمر منذ عقود وبات هناك تخصص أكبر داخل كل جانب من تلك الصحافة، حتى يتسنى للجميع التميُّز والظهور بحُلة أفضل عن السنين السابقة.

ذلك التطور لم يصل بعد إلى قنواتنا المصرية؛ فنجد أنه في ظل كل المتاحين في الأستوديوهات التحليلية، جميعهم فقط مارسوا اللعبة قبل سنين عدة، يُرددون ذات المصطلحات التي اعتادوا عليها حينما كانت الكرة في عهدها البائد في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، بل في بعض الأحيان من السبعينيات أيضًا، ولم نسمع عن أحدهم يتوجه لهذه الجامعة أو تلك للحصول على شهادة أو رخصة للممارسة الإعلامية.

الظهور على الشاشة ومواجهة ملايين المشاهدين مهمة ثقيلة جدًا يستسهلها مالكو القنوات المصرية، الظن السائد هو أنه بوجود أستوديوهات ضخمة -إن افترضنا ذلك- وسماعات لاسلكية وشاشات عملاقة للتحليل سيكون الوضع مثاليًا وفي وضع الكمال، لكن ما فائدة وجود آلة متطورة بدون عامل ماهر يمكنه استخدامها؟ أغلب المحللين الحاليين لم يحصلوا حتى على رخص بدائية في التدريب، ويتم الاعتماد فقط على علم كل منهم مهما كان ضئيلاً.


إجمالًا بعد تفصيل

الملاعب المصرية، كرة القدم، تقنية، الفيديو

نسمع مع كل بداية للدوري الإنجليزي عن رقم هائل من الأموال يُضخ في حسابات الأندية الإنجليزية من عوائد البث. الأمر لم يعد مجرد رفاهية بل صار صناعة وتجارة يجب الاهتمام بها بأقصى قدر ممكن، وإن كان هناك صعوبة في تكلفة إمكانيات مثل «2K» أو «Ultra HD»؛ فعلى الأقل هناك فرصة لتدريب العاملين بالمجال في مصر على التقنيات المتاحة حاليًا لحسن استخدامها ليس إلا.

الرغبة لدى الجمهور المصري لا ترتقي لحد الوصول إلى الجودة الإنجليزية أو الأسبانية أو حتى البرتغالية في البث والإذاعة، فقط يرغب هؤلاء في الوصول إلى قدر يمكن به التنافس مع الدول العربية المحيطة لا سيما إن كان الدوري المصري هو أحد أقوى الدوريات العربية، وتملك فرقه الشعبية الأكبر بين كل بلدان الوطن العربي. على العاملين بهذه الصناعة في مصر تقدير قيمة ما يملكون والسعي إلى تطويره.