مع الخطوات السريعة التي خطتها دولة الإمارات العربية المتحدة خلال الفترة الأخيرة، دعت الحاجة إلى محاولة فهم وتحليل السياسة الخارجية الإماراتية ورصد أسباب ومظاهر التحولات التي طرأت عليها، وفي أي سياق تمت إعادة صياغة علاقة أبو ظبي بالقوى الدولية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الحال بالنسبة للعلاقات مع القوى الإقليمية.

العلاقة مع القوى الدولية

شهدت الفترة الماضية إعادة لرسم ملامح العلاقة التي تربط أبو ظبي بالقوى الدولية الكبرى بداية من الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاني من أزمة ثقة بينها وبين حلفائها في جميع أنحاء العالم، وهي أزمة لم تكن الإمارات استثناءً منها خاصة بعد أن أثبتت إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، فشلها في القيام بدور الحليف الذي يمكن الاعتماد عليه خلال الهجمات غير المسبوقة لميليشيات الحوثي في يناير/كانون الثاني الماضي، وهو حدث يمكن بدون أي قدر من المجازفة اعتباره نقطة مفصلية في العلاقة بين واشنطن وأبو ظبي، وسبب حالة إحباط لدى الأخيرة من اللا مبالاة الأمريكية.

وكشفت تقارير إعلامية عن رفض ولي عهد أبوظبي الالتقاء بقائد القيادة المركزيّة الأمريكية الجنرال كينيث ماكينزي في الشهر التالي، لأن الأخير لم يأتِ إلا بعد 22 يومًا من الهجمات الحوثية، كما رفضت إدارة بايدن طلب إعادة تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية.

وبموازاة ذلك، فإن الإدارة الديمقراطية بالبيت الأبيض يبدو أنها تسير على نهج إدارة الرئيس أوباما التي وقعت الاتفاق النووي مع طهران عام 2015، دون اعتبار للأمن القومي لمنطقة الخليج، فتم تحرير الطاقات الإيرانية عقب الاتفاق وشهد مشروع طهران انتعاشة غير مسبوقة بعد ضخ الأموال إليه والتغاضي عن أعماله، وهو ما تخشى دول الخليج اليوم من تكراره في مباحثات فيينا الخاصة بإحياء الاتفاق النووي الإيراني، إذ تضغط طهران لرفع الحرس الثوري من قوائم الإرهاب الأمريكية ما يسمح بإطلاق يده في المنطقة، وترفض الاستجابة لطلب واشنطن بتجميد أنشطته الخارجية ولو مؤقتًا، فيما تظل إدارة بايدن غير حاسمة لأمرها في هذه النقطة، وتبدو على استعداد للتنازل للإيرانيين وفق حسابات لا تعطي الأولوية لأمن حلفائها.

ودفعت تلك التطورات باتجاه التقارب مع روسيا، فأبو ظبي ترى في موسكو طرفًا أقل مراوغة من واشنطن، ويمكن الاعتماد عليه في ضبط سلوك إيران بفعالية أكبر وكف شرها، وبالطبع يرحب الروس بأي خطوة تسهم في مد نفوذهم على حساب الأمريكيين في الشرق الأوسط، خاصة وأن لديهم مصالح مشتركة مع الإماراتيين تستند على قاعدة قوية من الاتفاقيات الثنائية في شتى المجالات واستثمارات اقتصادية متبادلة، إلى جانب اشتراكهما في تحالف «أوبك بلس» وتطوير التفاهمات والمصالح بينهما حتى أصبح بإمكانهما «ضبط الساعة على توقيت واحد في اتجاهات وقضايا مختلفة» وفق تعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وهو ما ظهر جليًا مع اندلاع الحرب الأوكرانية، إذ اتضح مدى التناغم بين الدولتين فوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أجرى اتصالًا مع نظيره الإماراتي عبد الله بن زايد، قبل انطلاق الحرب بيوم واحد، وزار الأخير موسكو في 17 مارس/آذار لبحث زيادة التعاون الاقتصادي (حجم التبادل التجاري الحالي 5 مليارات دولار) وملفات تتعلق بأمن المنطقة في وقت تتراكم فيه العقوبات الغربية على الروس وتزداد عزلتهم دوليًا.

وفي مجلس الأمن حيث تشغل الإمارات مقعدًا غير دائم خلال العامين الحالي والتالي، ورغم العلاقات التي تربطها بواشنطن فإنها لم تستجب لضغوطها، ورفضت التصويت لصالح مشروع قرار أمريكي في 25 فبراير/شباط، يدين روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، ولم تثمر مكالمة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، مع عبد الله بن زايد، عن نتيجة ملموسة.

وفي المقابل، أيدت موسكو -رغم علاقتها الوثيقة بإيران- في 28 شباط/فبراير قرار مجلس الأمن رقم 2624 تحت البند السابع، الذي يصف جماعة الحوثيين كـ«جماعة إرهابية» لأول مرة، ويفرض على الجماعة حظر تسلح، ويدين الهجمات التي تشنها على الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.

وبعد يومين فقط من قرار مجلس الأمن هذا أيدت الإمارات قرارًا يدين روسيا بسبب حربها في أوكرانيا، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعدما استعانت واشنطن بإسرائيل للضغط على أبو ظبي.

وبعد فرض الولايات المتحدة حظر واردات النفط والغاز الروسيين، قاومت أبو ظبي الضغوط الغربية عليها لرفع الإنتاج لوقف الزيادات في الأسعار العالمية التي أضرت بشدة بموقف البيت الأبيض والحكومات الأوروبية أمام شعوبهم، ورغم تلميح يوسف العتيبة سفير الإمارات في واشنطن لاحتمال رفع الإنتاج، أكد وزير الطاقة سهيل المزروعي في العاشر من مارس/آذار، التزام بلاده بحصص إنتاج تحالف «أوبك بلس» بقيادة السعودية وروسيا، وهو ما تم، على عكس الحال في 2019 عندما أرادت واشنطن تصفير صادرات النفط الإيراني، فتكفل الإماراتيون بالمشاركة في تعويض الخلل الذي يُحدثه خروج طهران من سوق النفط، وتجاهلوا التهديدات الإيرانية لهم ببحر من الدماء.

وكذلك مثلت بكين شريكًا جذابًا لأبو ظبي وزادت من تعاونها معها في مجالات التجارة والاستثمار في البُنى التحتيّة، كما أن هناك مباحثات لعقد اتفاقية تجارة حرة، وتسبب هذه العلاقة إزعاجًا لواشنطن التي تدخلت العام الماضي لوقف بناء ما وُصف بأنه منشأة عسكرية صينية داخل ميناء خليفة التجاري، تبعد 50 كيلومترًا عن مركز مدينة أبوظبي، القريبة من قاعدة تضم آلاف العسكريين الأمريكيين.

وكثمن مستحق لهذه العلاقة مع بكين تخلّت أبو ظبي في ديسمبر/كانون الأول عن صفقة الطّائرات الحربيّة F35 المُتطوّرة رغم سعيها الحثيث سابقًا للحصول عليها بعد توترات مع إدارة بايدن سببها التعاون الإماراتي الصيني في مجال الاتصالات وشبكة الجيل الخامس التي تديرها شركة هواوي الصينية، وجاء هذا الموقف الإماراتي المعلن بعد أيام على إبرام أبو ظبي صفقة مع فرنسا لشراء 80 مقاتلة رافال بقيمة 15,8 مليار دولار خلال زيارة أجراها الرئيس إيمانويل ماكرون للدولة الخليجية، في مؤشر إلى أن الأخيرة تمتلك بدائل غير أمريكية.

بالطبع لم تتخل الإمارات عن علاقاتها الوثيقة مع واشنطن رغم ما أصاب هذه العلاقة من تراجع وفتور في ظل إدارة بايدن، لكن الروابط المتنامية مع موسكو وبكين أصبحت تؤخذ بعين الاعتبار ضمن سياسة تستهدف الحفاظ على توازن صعب في السياسة الخارجية.

العلاقة مع القوى الإقليمية

لم تكن القوى الإقليمية بعيدة عن سياسة الانفتاح تلك، فقد أقدمت أبو ظبي إبان الفترة الماضية على مبادرات استهدفت منها فتح الجسور مع القوى الإقليمية غير العربية وهي تركيا وإثيوبيا وإسرائيل وإيران.

أما تركيا فقد قامت بتهدئة الأمور معها وإنهاء القطيعة المستمرة منذ سنوات على خلفية تعاكس الرؤى في ملفات عديدة، وزار ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، إسطنبول في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعقبها زيارة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأبو ظبي في منتصف فبراير/شباط، وشهدت الزيارتان إنشاء صندوق قيمته عشرة مليارات دولار لدعم الاستثمارات في تركيا، وتوقيع 23 اتفاقًا تبلغ قيمتها مليارات الدولارات في مختلف المجالات.

وأما إثيوبيا فقد شيدت معها روابط وثيقة وعميقة على كافة المستويات وخلال الظرف الدقيق والحرج عندما كانت أديس أبابا معرضة للسقوط أمام هجمات قوات التيجراي المعارضة العام الماضي، دعمت أبو ظبي حكومة آبي أحمد حتى تجاوزت «أوقاتها العصيبة»، وتجمع بين الطرفين مشروعات ومصالح عديدة.

وأما إيران فقد حاولت اتباع سياسة ضد المشروع الإيراني لكنها لا تصل إلى مرحلة التصادم وهي المعادلة الدقيقة التي حاولت الحفاظ عليها إلى أن أثبتت الأحداث صعوبتها عندما هاجمت ميليشيات الحوثي أبو ظبي، ردُا على هزائم الميليشيا في اليمن أمام ألوية العمالقة المدعومة من أبو ظبي، بالتعاون مع قوات التحالف العربي لدعم الشرعية باليمن الذي تقوده الرياض.

وأما إسرائيل فإن الإمارات تراهن على التعاون معها بشدة انطلاقًا من قناعة مفادها أن هذه العلاقة ضرورية لحماية مصالحها وملء الفراغ الناشئ عن تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة عبر تكوين محور مع تل أبيب يشمل أكبر قدر من الدول العربية، ضمن ما يُعرف بـ«اتفاقات أبراهام» التي وقعتها الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مع الكيان العبري بوساطة أمريكية في عام 2020، وتسعى أبو ظبي للتمكين لهذا المحور وضم أطراف جديدة تنضم لقافلة التطبيع مع إسرائيل تحت لافتة التصدي للمحور الإيراني الذي يضم دولاً مثل العراق وسوريا ولبنان.

ترتيبات جديدة

تشهد المنطقة حراكًا سياسيًا ارتفعت وتيرته خلال الحرب الروسية-الأوكرانية، مما يؤشر على مساعي لإعادة رسم معالم التوازنات داخل الإقليم كانعكاس مباشر لحالة السيولة التي يتصف بها المشهد الدولي الراهن، وتسعى أبو ظبي لقيادة هذا المشهد الديناميكي ومسايرة تلك التحركات فمثلا جاءت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد -حليف إيران وما يسمى بمحور الممانعة المعادي لإسرائيل- إلى الإمارات التي تقود مسيرة التطبيع مع الكيان العبري وتشارك في التحالف العربي ضد الحوثي في اليمن، ليمثل علامة واضحة على تلك التحركات الإقليمية.

فزيارة الأسد للدولة الخليجية جاء في سياق عملها لإعادة النظام الأسدي إلى مقعده في جامعة الدول العربية، ودعم التطبيع معها إقليميًا رغم التنديد الأمريكي والاستياء الغربي، وأتى ذلك بعد فتح السفارة الإماراتية في سوريا، وزيارة عبد الله بن زايد لدمشق، ضمن إستراتيجية أوسع وجديدة تقوم على التحدث مع الجميع في المنطقة وخفض التصعيد، بعد أن صارَ واضحًا أنّ إدارة بايدن لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح حلفائها وتخلت عنهم في أفغانستان وأوكرانيا، والقائمة مرشحة لتضم المزيد، في ظل تراجع قدرة واشنطن على التدخل والتأثير في الأزمات كما كان في السابق، فانفتح الإماراتيون على الأسد الذي يستظل نظامه بالحماية الروسية ويخضع لعقوبات أمريكية وغربية شديدة.

وهناك بُعد مهم في هذا الإطار وهو الوجود الروسي الطاغي في سوريا الذي جعل موسكو وكأنها إحدى دول المنطقة، مما أعطاها قوة وتأثيرًا في أرجاء الإقليم؛ فتل أبيب تتحسس مواقفها بحذر شديد خشية إغضاب بوتين، والتأثير على حرية الحركة الإسرائيلية في سوريا، ومعظم دول المنطقة تميل إلى جانب موسكو خلال الأزمة الأخيرة رغم محاولاتها جميعًا النأي بالنفس عن هذا النزاع.

وهذا الميل إلى جانب الروس ليس حبًا فيهم بقدر ما هو نتاج لحالة انعدام الثقة بالأمريكيين، ومع بوادر التوصل إلى تفاهمات بين واشنطن وطهران حول إحياء الاتفاق النووي، وما لهذا الأمر من آثار ونتائج مؤثرة على الإقليم خاصة مع احتمال رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب، تبدو المنطقة مقبلة على تحديات جديدة.

ويمكن أيضًا قراءة موقف خليجي جديد من الدعوة التي صدرت في 17 مارس/أذار من جانب الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، نايف الحجرف، لعقد مشاورات بين كل أطراف الحرب في اليمن من أجل إنهاء الصراع، وشملت الدعوة الحوثيين المدعومين من طهران والمصنفين كحركة إرهابية، مما يعد دليلاً على وجود رغبة قوية على تهدئة الأوضاع في المنطقة حتى مع إيران.

وبالتوازي مع ذلك شاركت الإمارات إلى جانب البحرين، والمغرب، ومصر في مؤتمر تطبيعي هو الأول من نوعه في إسرائيل حضره وزير خارجية الولايات المتحدة، يهدف للتأسيس لترتيبات إقليمية يقع الكيان العبري في القلب منها باعتباره «جزءًا من المنطقة» يجب بناء علاقات قوية معه وفق تعبير وزير الخارجية الإماراتي. أما الرئيس الإسرائيلي يتسحاك هرتسوغ فقال إن «هناك جبهة يتم بناؤها في المنطقة على أساس الاتفاقيات الإبراهيمية والتقدم في السلام والتعاون المتبادل»، وفي لقائه مع وزير الخارجية الأمريكي، قال هرتسوغ: «التطبيع هو المعيار الجديد».