شاعر مجيد وخطيب مفوّه ويعده الصهيونيون زعيمًا ثوريًا. كما أنه جندي مخلص للصهيوينة، وكان هو من أسس منظومة الدفاع الذاتي اليهودي في أوديسا. وأسس برفقة آخر الفيلق اليهودي في الجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى. انتهت الحرب ولم ينتهِ زئيف جابوتنسكي من إنشاء المنظمات اليهودية بأسماء مختلفة مثل بيتار وهاتزوهار وإرجون، وهدف واحد وهو المجد للصهيوينة.

زئيف، أو فلاديمير بالروسية، وُلد في مدينة أوديسا في أوكرانيا عام 1880. عائلة متوسطة الثراء وتهتم بالتعليم الديني، فأرسلته لدراسة اليهودية الأرثوذكسية. نفر منها زئيف وأراد دراسة القانون فدرسه في سويسرا وإيطاليا. في تلك السنوات عمل كمحرر صحفي في بعض الصحف الناطقة بالروسية لكن تحت اسم مستعار، ألتلينا. ولاحقًا بدأ ينضم إلى الصحف التي تصدر بالعبرية، وأخذ شهرته ترتفع من خلالها.

توجهه إلى الصحف العبرية كان مؤشرًا قويًا على تغيّر ما في عقل الشاب، وبالفعل في عام 1903 بدأ فلاديمير نشاطه الصهيوني. حضر المؤتمر الصهيوني السادس، ومنه قرأ أعمال الصهاينة الأوائل أمثال هرتزل. ترقى زئيف في المجتمع الصهيوني حتى صار هو المسئول عن شبكة الصحافة الصهيونية العالمية بين عامي 1909 و1911. وانتقل إلى إسطنبول لينظم أعمال الصحافة الصهيونية من هناك.

أسس زئيف في تلك الفترة الصندوق القومي اليهودي، بجانب الفيلق اليهودي، اللذين ساعدا بريطانيا بشدة في الحرب العالمية الأولى. ولهذا يُعتقد أن تلك المساعدة الحيوية والدور البارز لزئيف كانا السبب الأساسي في صدور وعد بلفور التاريخي لليهود. وكانت عقيدة زئيف العسكرية هي مساعدة البريطانيين في الاستيلاء على فلسطين من الوصاية العثمانية، ووضعها تحت الوصاية البريطانية، ثم تهديها بريطانيا لليهود وطنًا قوميًا.

الصهيونيّة اللينّة

لهذا كان إنشاء الفيلق اليهودي، وتولى زئيف قيادة الكتيبة 38 في الجيش البريطاني، وترقى زئيف وكان من أوائل الجنود الذين عبروا الأردن. لم يتوقف زئيف عن الدعوة للعسكرة بعد انتهاء الحرب، بل أقنع الجانب البريطاني بضرورة استمرار التجنيد العسكري لليهود من أجل حماية المستوطنات في فلسطين. وكان ذلك من أجل الضغط على بريطانيا بالوفاء بوعودها له ولليهود، وحين لمح تراجعًا من الجانب البريطاني أرسل عرائض احتجاجية للعديد من القادة البريطانيين ورتّب أكثر من مظاهرة احتجاجية لحث بريطانيا على الوفاء بوعودها.

 لم تكن الرغبة في العسكرة متوافقة مع زعيم الصهيوينة حاييم وايزمان، فوقع صدام بين الرجلين. في تلك اللحظة بدأت أفكار زئيف تتجلى أكثر للعالم، فأعلن زئيف أن الصهيونية التي يمثلها حاييم هي حركة ليّنة ومرنة أكثر من اللازم. في عام 1920 شنت قوات الهاجانه اعتداءات على الفلسطينيين في القدس، فقُبض عليه وحُكم عليه بالسجن لمدة 15 عامًا مع الأشغال الشاقة. كان ذلك الحكم بمثابة البطاقة الذهبية لزئيف كي يقفز قفزات هائلة في مسيرته السياسية.

فوضعه العديد من القادة اليهود على رأس قائمة المرشحين في حزب أحدوت هعفواد استعدادًا لانتخابات جميعة المندوبين الأولى. وفي نفس العام، 1920، حصل زئيف على عفو عام فخرج من السجن، وبدأ وايزمان في تقريبه منه بعد أن باتت معاداة زئيف أمرًا مستحيلًا، وانضم زئيف إلى الإدارة الصهيونية العامة. وكان زئيف من أوائل الموافقين على التنازل عن المطالبة بالأردن، قبل أن يُصدر تشرشل كتابه الأبيض عام 1922.

عام 1921 أصبح زئيف عضوًا في اللجنة التنفيذية للصهيونية العالمية، لكن لم يستطع زئيف احتمال التلّون بلون الصهيوينة العامة أكثر من عامين، فانشق عنهم عام 1923. بعد انشقاقه أسس حركة بيتار عام 1923، ثم بعد عامين أسس حزب اليهودية التصحيحية. سرعان ما أصبح الحزب أهم أحزاب اليمين الصهيوني، وكان مطلبه الأساسي دولة يهودية لما بين النهرين بالكامل.

اللغة مهمة، واليأس أهم

بعد أن أعلن زئيف انشقاقه عن الصهيونية أخذ يضع التنظيرات لمذهبه الخاص في الصهيونية. ويتلخص مذهبه في بناء جدار حديدي حول الكيان الصهيوني. لا يقصد جدارًا حقيقيًا، بل جدارًا خياليًا لبناته قوة اليهود المادية والعسكرية، وقوتهم النفسية والإعلامية التي تكرر على عقول الفلسطينيين أن اليهود قوة لا تُقهر لذا فعلى كل فلسطيني أن يرضخ للأمر الواقع لأنه أضعف من تغييره.

فجابوتنسكي لخصّ مشروعه تقريبًا في كلمة واحدة، اليأس. فقد انطلق الرجل من أن الفلسطينيين شعب حيّ، وأنهم ما دام فيهم ذرة أمل فإنهم لن يتنازلوا للصهيونية عن أي شيء. وبحسب مذهب زئيف فزرع الإحباط واليأس في نفوس الفلسطينيين حتى يفقدوا كل الظن بإمكانية طرد المحتل. حتى يتوصل الفلسطينون في النهاية إلى ضرورة اختيار قادة أكثر اعتدالًا لا يحبذون المقاومة العسكرية ليتوصلوا لاتفاق وسط مع الصهاينة.

العلاقة الاضطرارية بين الفرد والأمة هي اللغة، اللغة التي بها عُوِّدَ الفرد على التفكير فيما يفكِّره من أفكار والشعور بما يشعره من مشاعر.
زئيف جابوتنسكي

كذلك كان يرى زئيف ضرورة النهوض باللغة العبرية وإنشاء مدارس لا تستخدم سواها وعدم اللجوء لأي لغة عالمية أخرى للتواصل بين اليهود. لكنه في الوقت نفسه كان لا يرى لغة تصلح للتواصل مع بقية العرب إلا السيف، فعقيدته كانت أن العرب لن يسمحوا بوجود إسرائيل إلا إذا رأوا الجانب المتطرف من اليهود، الذي لا يبالي بالموت ولا بكثرة عدد القتلى.

أفكاره لا تموت، بل تحكم

استمر زئيف في العمل داخل الحزب حتى عام 1930، لكن ثار غضب حكومة الانتداب البريطاني من فجاجة زئيف فمنعته عام 1930 من دخول فلسطين إلى أجل غير مسمى. فزئيف كان يرفض فكرة التقسيم التي عُرضت عام 1937، والتي تنص على إقامة إسرائيل على فلسطين فقط. بل كان زئيف يطالب بإقامة إسرائيل على فلسطين ثم مدّها إلى الأردن وصحراء سوريا، لتكون دولةً بين نهرين.

لم يسعف العمر زئيف فرصةً ليرى الدولة اليهودية التي يحلم بها، وتُوفي في أغسطس/ آب عام 1940 في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1940 إثر إصابته بأزمة قلبية ودُفن في الولايات المتحدة. كانت وصيته أن يُدفن في الدولة اليهودية التي يريدها، وتحققت هذه الوصية عام 1964، حيث نُقل رفاته ورفاة زوجته إلى قمة هرتزل في إسرائيل.

وفاة زئيف لا تعني وفاة أفكاره، بل التقفها العديد من الورثة. على رأسهم مناحم بيجن الذي أسس حزب حيروت، والذي بات لاحقًا صاحب نصيب الأسد من التكتل اليميني المتطرف المعروف باسم الليكود. وقد أصبح بيجن لاحقًا رئيسًا للوزراء ما يعني أن الصهيونية التصحيحية التي غرس بذرتها زئيف لم تقف عند كونها تنظيرًا فحسب، بل أخذت فرصتها في التطبيق على الأرض كذلك.

وغير بيجن كثيرون، منهم أيضًا بينيامين نتنياهو رئيس الوزراء السابق الذي عبر في أكثر من تجمّع أنه تلميذ زئيف ويحاول تطبيق نظرياته. كما أن رئيس الوزراء الحالي نفتالي بينت يُعتبر امتدادًا لمبادئ زئيف، بل تعتبره الصحف الإسرائيلية صاحب أيديولوجية أكثر تطورًا من زئيف، لأن بينت يرى وجوب ضم الضفة لإسرائيل، واستخدام القوة العسكرية في قمع الإرهاب الفلسطيني للأبد، والقضاء على أي حلم بإقامة دولة فلسطينية.