كان علماء الأديان في دراستهم للأديان السابقة على التوحيدية [1] يتحركون عبر منهجية تقوم على نقطتين رئيستين، الأولى أنهم كانوا يتجهون إلى هذه الأديان بأسئلة عن الآلهة وعلاقة الروح بالجسد ومآل الأنفس في الآخرة، والثانية أنهم كانوا يبحثون عبر هذه الأسئلة عن دين أصلي أو مبدئي خضع لتطوير وتراكم عبر القرون وتتمثل أركانه الرئيسة في الإجابات البدائية عن هذه الأسئلة. لكن لأن محاولة توجيه هذه الأسئلة للديانات السابقة على التوحيدية وتقييمها عبرها، وتصور وجود أصل راسخ متطور للدين، كل هذا يعتبر إخضاع لهذه الأديان ومحاولة لتأطيرها داخل ما يظن أديانا للشعوب الراقية المتطورة -الديانات التوحيدية- في مقابل تلك البدائية، فقد فشلت تماما هذه المنهجية لا في التوصل لفهم مناسب لهذه الأديان فحسب، بل حتى في التوصل لفهم مناسب لدين من الأديان الخمسة الكبرى ولا ينتمي لما يطلق عليه أديان بدائية -خصوصا بعد استفادة عدد كبير من الفلاسفة الغرب منه مثل شوبنهاور- مثل البوذية، حيث ضاع الوقت عبر قراءة كهذه في محاولة البحث داخل البوذية عن إله أو عن سردية لخلق الكون شبيهة بالأديان الإبراهيمية، وكما أرجعوا عدم وجود آلهة عند بعض القبائل البدائية إلي بدائية هذه القبائل، فقد عدوا البوذية مذهبا فلسفيا وليست دينا!

لا يحق لنا نقل أسئلة الديانات الإبراهيمية لتطبيقها على الديانات السابقة عليها بل علينا درس كل الديانات عبر أسئلة أكثر اتساعا والتنبه لخصوصية كل منها

لذا يقدم إلياد ومن أجل تجاوز هذا الإشكال المنهجي تعريفا للدين يتوخى الاتساع حتى يستطيع ضم أكبر عدد من الأديان بدلا من هذا التضييق بتحتيم قدر التوحيدية على ما سبقها فيقول أن الدين «هو تجربة المقدس المرتبطة بالكينونة والمعنى والحقيقي» و أن استخدامنا للفظ الدين المشكل ينبغي فيه التنبه لعدم اشتراط «أن ينطوي بالضرورة على إيمان بالله أو اعتقاد بآلهة أو أرواح»[2]، أما السواح وفي نفس السياق فيتحدث عن حد أدنى للتدين لا يتطور من أصل جذري جنيني وإنما يتسع من دائرة تمثل عمق وعينا، فالتجربة الدينية واحدة عند الإنسان العاقل. من هنا ليس ثمة فوارق كبيرة بين البدائي والحديث سوى في مجمل شروط الوعي والسياسة والاجتماع التي تصيغ نفس البنية الأصلية للدين وهي بنية شديدة الاتساع تقتصر على الأسطورة والطقس والمعتقد، ومن هنا لا يحق لنا نقل أسئلة الديانات الإبراهيمية لتطبيقها على الديانات السابقة عليها بل علينا درس كل الديانات عبر أسئلة أكثر اتساعا والتنبه في ذات الوقت لخصوصية كل منها ومحاولته اكتشاف أسئلة سياقاته الخاصة وكيف كانت إجاباته عنها.

ونحن تواجهنا نفس هذه الإشكاليات عندما نتعرض للإسلام بالدراسة.. فرغم أننا جميعا نتفق على كون القرآن مصدرا رئيسا [3] لبحث التصورات الأصلية التي يقدمها الإسلام عن مسائل كبرى، إلا أن تحديد هذه التصورات والمسائل يظل مشكلا إلي حد كبير، فنحن كثيرا ما نسقط بعض المواضيع العامة على القرآن محاولين استنطاقه عبرها مثل سؤاله عن العقل أو المدنية أو الديموقراطية، كذا فإننا كثيرا ما نحاول دمج القرآن داخل أسئلة مستقاة من أديان أخرى أو نفرض أسئلته هو أحيانا على غيره من الأديان مما يعني تغييب القدرة على مقاربة مناسبة، فمثلا يعد سؤال مثل: هل الإسلام يؤمن بالخطيئة الأصلية أم لا؟ مثالا لافتا على تقنية الدمج هذه، فهذا السؤال عن تصور الإسلام عن الخطيئة الأصلية هو سؤال تكمن صعوبة إجابته في كونه من الأساس ليس سؤالا صحيحا، إنه في الحقيقة لا يمثل سوى قراءة مسيحية للإسلام، فهذا الإشكال أي إشكال الخطيئة هو إشكال مسيحي بالأساس يتعلق بوضع المسيحية كحل للشعور الطاغي بالذنب عند بني إسرائيل إلى جانب بعد الله التام، مما يحتاج لتجديد العهد مع الله على أساس القبول الإلهي، لذا كان على الإله أن يتجسد لغفران الخطيئة ورأب الصدع الكبير بين الله والإنسان الذي رسمته اليهودية والذي أوصل الإنسان إلى اليأس في القبول الإلهي أو يأس التحدي كما يسميه كريكجارد، وهذا أمر لا علاقة له بالإسلام حيث يحدد هذا الأخير علاقته مع الناس على أساس عهد الطاعة وتتمركز محاجاته الأصلية في اتجاه الشرك لا اتجاه كيفية قبول تجاوز اليأس عبر القبول الإلهي، لذا فلا يمكن أن نقول أن الإسلام عكس المسيحية لا يعترف بالخطيئة الأولى، فسؤال الخطيئة بالأساس لا علاقة له بالإسلام!

كل هذا يوضح لنا جيدا ثقل هذه المهمة، أقصد مهمة تحديد خطاطة رئيسة للمسائل الكبرى في القرآن وتحديد القول القرآني فيها، تلك التي نستطيع عبرها مقارنة تصورات الإسلام بغيره من الأديان دون أن نقع في مثل ما تحدثنا عنه بالأعلى من تأطيره في سياقات معدة سلفا، مما يفرض علينا ضرورة البحث عن أداة منهجية فعالة نستطيع عبرها إجراء هذا الاستخلاص للخطاطة الرئيسة.


يقدم لنا إيزوتسو في كتابه الشهير «الله والإنسان في القرآن» ما يمكن أن نتعبره أداة منهجية ناجعة للتوصل لهذه الخطاطة الرئيسة [4]، هذه الأداة تتمثل في دراسة كل مفهوم من المفاهيم المحورية في القرآن مثل «الله» «الإنسان» «الوحي» عن طريق قراءة تطور هذا المفهوم عبر ثلاثة أنظمة أو سطوح دلالية متعاقبة، النظام الدلالي الجاهلي ثم النظام الدلالي القرآني ثم اللاحق للقرآن -مرحلة تشكل العلوم الإسلامية بأنظمتها المعرفية و الدلالية خصوصا في العصر العباسي- فضلا عن تمييز «الحقل الدلالي» الذي يستوعب كل مفهوم منهم في كل حقبة، فالتغيير لا يصيب فحسب المفهوم وحده بل يصيب كذلك شبكة مفاهيم متعالقة به تشكل معه حقلا دلاليا، فمثلا مفهوم «الله» و الذي يعتبره إيزوتسو المفهوم المركزي في القرآن تطور دلاليا عبر هذه الأنظمة الثلاثة، فقبل الإسلام كان مفهوم «الله» لا يتسم بالمركزية بل يتحرك إلى جوار عدد من الآلهة ويندرج في إطار توحيد وقتي مرتبط فحسب بأوقات الشدة، ومع القرآن حدث تغيير في المفهوم بجعل الوحدانية المطلقة مداره والمركزية أصله وتحولت بقية الآلهة لمحض أسماء بلا مدلول حقيقي، أما مع نشأة العلوم الإسلامية يرى إيزوتسو أنه ورغم استمرارية المفهوم كما صكه القرآن كمفهوم مركزي إلا أن تعديلات أخر قد أجريت عليه. من هذه التعديلات إثارة قضية الأسماء والصفات التي حولت الله لمفهوم معرفي أسقطت عليه مفاهيم الذاتية والاتصاف ثم إدخال مفهوم الله داخل حقل دلالي من تسعة وتسعون اسما والمماكحات حول كلام الله كصفة أو عين ذات وهو حقل دلالي مختلف عن هذا الذي يوجد فيه مفهوم الله في القرآن، كل هذا يراه إيزوتسو تعديلا جرى على المفهوم «الله».

فهذه الأداة بتحركها بين هذه الأنظمة الثلاثة (جاهلية – قرآن – لاحق للقرآن) وعن طريق تنبهها لتطور المفاهيم ذاتها وداخل حقولها الدلالية تستطيع أن ترسم طريق أولي لتحديد خطاطة رئيسة من المسائل الكبرى في القرآن.

لكن لأن هذه الأداة الثلاثية تقتصر في تحليلها على الشق الدلالي للمفاهيم من جهة [5] ومن جهة ثانية لا تأخذ الجانب التاريخي لتشكل القرآن أو كرونولوجية سوره في الاعتبار مما يقلل قدرتها على تحديد تلك الخطاطة الرئيسة لمسائل القرآن الكبرى، فقد خضعت لتطوير كبير عند اثنين ممن اهتموا بدراسات ايزوتسو حول القرآن، الأول هو الباكستاني فضل الرحمن مالك و الثاني هو المصري نصر أبو زيد، الأول استطاع أن يحل الإشكال الأول في رؤية إيزوتسو عن طريق استخدامه في كتابه «المسائل الكبرى في القرآن» هذه الأداة الثلاثية لتحليل لا مفاهيم القرآن المحورية وفق رؤية دلالية ولكن لتحليل المسائل العقدية الكبرى التي يراها تمثل جوهر القرآن، أما الثاني فقدم علاجه لإشكال غياب البعد التاريخي عن طريق إدخاله التاريخ كجزء رئيس في تحليل دلالة المفاهيم في نظام القرآن الدلالي، مما يعني أن المرحلة الثانية من المراحل الثلاثة في أداة ايزوتسو الثلاثية قد أصبحت عند نصر متحركة لا ساكنة فيصبح لدينا (جاهلية – تشكل مستمر للمفاهيم وتطورداخل القرآن – اللاحق للقرآن)، وهذان التطويران يتكسبان أهمية كبرى في محاولة تحديد تلك الخطاطة الرئيسة للموضوعات الكبرى في القرآن كما سيتبين.


في ظل غياب مقارنة فكرة الوحي في البنيتين الجاهلية والإسلامية لا نستطيع فهم معنى الوحي في القرآن، و لا نجد مكانا لسؤال مثل كيف جعل القرآن الوحي في قريش غير المتصورة له ممكنا؟

في محاولته تحديد المسائل الكبرى في القرآن يلجأ فضل الرحمن للمقارنة بين البنية العقدية للدين الجاهلي والبنية العقدية للإسلام ثم التطورات في الفترة اللاحقة على القرآن، ويحدد عبر هذه المقارنة أهم ثلاث مسائل في الإسلام بأنها «التوحيد» و«البعث» و«الحساب» وهي تلك المسائل التي رفضها بقوة المجتمع الجاهلي، ورغم أنه يضيف «الطبيعة» و«الشيطان» لتلك المسائل الكبرى، إلا أننا نرى بوضوح أنها مفاهيم متفرعة على هذه الثلاثية السابقة، مما يجعل هذه الثلاثية لو استخدمنا مصطلح عادل ضاهر نواة ابستيمة للإسلام عند فضل الرحمن، في هذا السياق يقول فضل بذكاء أن لا مطلقية الطبيعة وقابليتها للفناء والتدمير الذي يتحدث عنه القرآن لا علاقة له بقضية استقلالها بقانون ولا بفكرة المعجزة وإنما تتعلق بقضية الحساب وحتمية الآخرة، فلكي يقبل الإنسان تحمل المسؤلية عليه عدم اللجوء لهذا العالم كملاذ نهائي ومعرفة أن الله خالقه قادر على إفنائه، سنستعير بتعديل من ايزوتسو فنقول أن قضية «الحساب» والمسؤلية الأخلاقية هي مركز «حقل عقدي» تدور فيه أفكار أخرى مثل قانون الطبيعة، تماما مثلما كانت أفكار الهداية جزء من حقل الله الدلالي في خطاطة ايزوتسو الدلالية للقرآن.

هذا التحديد البارع حيث ألحق الطبيعة بأحد مكونات النواة الابستيمية للإسلام يتيح لفضل الرحمن لا فقط تخليص فكرة إفناء الطبيعة في الإسلام من نقاشات تقحم عليها ولكن أيضا تتيح له مقارنة «الكون» في الإسلام بـ«الكون» في الديانات الأخرى -بعض الديانات تتحدث عن فناء دوري للكون- دون أن تمثل هذه المقارنة الهامة لإبراز تصورات الإسلام عن الكون أي إسقاط من خارج الإسلام عليه.

رغم نجاعة هذا التطبيق من فضل الرحمن لأدة ايزوتسو معدلة إلا أنه في بعض الأحيان يفتقد الثبات والاطراد، فرغم أنه يلجأ هنا للتاريخ الجاهلي ومعتقداته ليساعده في الوصول لخطاطة القرآن الرئيسية عبر مقارنة النظامين العقديين الجاهلي والإسلامي، إلا أنه في مواضع أخرى يقتصر فحسب على لحظة ما بعد القرآن، فيقارن مثلا بين فكرة الملائكة والروح ووكيل الوحي في القرآن «النظام العقدي الإسلامي» وما بعدها «النظام العقدي لمرحلة العلوم الإسلامية» فحسب، فيرى أن القرآن لم يتحدث عن تجسد للروح الملاكي جبريل وأن اعتباره شخصا هو خيال لاحق على القرآن، فالقرآن في تحليله يقتصر على اعتبار ملاك الوحي جبريل روح/ملكة أعطاها الله للنبي تتطور ليسمع عبرها النبي صوتا نفسيا لكلام إلهي، هذا التحليل شديد الطرافة للوحي على أهميته يتجاهل تماما علاقة الوحي بالنظام العقدي الجاهلي، وهي علاقة أساسية في فهم الوحي الذي يمثل جزءا رئيسا من نواة الإسلام الإبستيمية وكذا أحد بؤر الصراع الرئيسة بين الإسلام والقرشيين -مثل أفكار البعث والحساب والتوحيد- كما يقرر عبد الرحمن نفسه، في ظل هذا الغياب لمقارنة فكرة الوحي في البنيتين الجاهلية والإسلامية لا نستطيع فهم معنى الوحي في القرآن بصورة جيدة و لا نجد مكانا لسؤال حيوي مثل كيف جعل القرآن الوحي في قريش غير المتصورة له ممكنا؟


هذا السؤال هو السؤال الذي يدور حوله كتاب «مفهوم النص» لـنصر أبو زيد، فعن طريق إعطاء طابعا حركيا للمفاهيم ودلالتها داخل القرآن نفسه أو ما قلنا عنه بالأعلى تحويل المرحلة الثانية في أداة ايزوتسو لمرحلة متحركة، وعن طريق مزج بين التنبه للخلفية التاريخية لسور القرآن وربط هذا بكرونولوجيته يستطيع نصر أن يتابع التطور الذي لحق تصور الوحي في تأسيس ذاته في الواقع الروحي للمجتمع القرشي ورصد كيف حاول المفهوم الجديد تخليص نفسه تدريجيا من تصورات الشعر والكهانة السائدة جاهليا، لكي يقيم بدلا منها الوحي كاتصال وحيد مع الله وحده، وينفي أي اختراق من الشيطان لهذا الاتصال المحكم المؤمن من قبل الله، ورغم أن فضل الرحمن يذكر قصة الغرانيق باعتبارها تنازلا من النبي في سياق طمئنة قريش ورغبة في تخفيف الاضطهاد عن أصحابه، مما يعني وجود اختراق شيطاني للوحي -وهو يستند في هذا لإخبار القرآن عن تشابه النبي مع غيره في الخضوع لغواية الشيطان ثم إنقاذ الله له- إلا إنه لا يستغل هذه الواقعة في فهم صيرورة الوحي وصراعه لتخليص نفسه من التصورات التي أراد الجاهليون رد الوحي إليها أو تأطيره فيها كالاتصال بالشياطين، وبالتالي لا يستطيع فهم العلاقة بين بنية الوحي القرآنية وبنية التصورات الجاهلية، فهذا الفهم رهين تنبه للخلفية التاريخية للسور مع التنبه لتطورها الكرونولوجي. والأول لا يتم عند فضل الرحمن باضطراد أما الثاني فيغيب تماما، فضلا عن أن غياب هذا الفهم لتطور المفهوم عبر الثلاثة الأنظمة وداخل القرآن يجعل فضل الرحمن الرافض لتجسد جبريل لأنه تطور تم لاحقا للقرآن يستخدم هو نفسه في تأكيد تصوره عن جبريل «الملكة» ونزوله من السماء على قلب النبي، على نظرية نزول القرآن أولا في السماء السفلى وهي الفكرة اللاحقة أيضا للقرآن!

لكننا في بعض الأحيان لا نجد أن التحليل الداخلي لبنية القرآن الفكرية مع الخلفية التاريخية لسوره أو حتى مع دمج العلم بالأخيرة بالتطور الكرونولوجي لهذه السور -ماعبرنا عنه بالأعلى هكذا (جاهلية – تشكل مستمر للمفاهيم وتطورداخل القرآن – اللاحق للقرآن)- كافيا للوصول للخطاطة الرئيسية التي يرسمها القرآن كنواة ابستيمة للدين الإسلامي، هذا لأن ثم تساؤل علينا مواجهته قبل المضي قدما في محاولة رسم الخطاطة الرئيسة لتصورات الإسلام الكبرى هذه، وهو التساؤل حول إمكانية أن يكون القرآن لم يحدد بالأساس تصورا نهائيا في بعض القضايا، مما يعني أن التقول على القرآن قد لا يتمثل في تحميله رأيا في قضية ما، أو فرض أحد التساؤلات عليه من الخارج، بل يتمثل في الجزم بأن القرآن يقدم في هذه القضية جوابا مطلق النهائية من الأساس؟!

لكن هل بالفعل هناك قضايا من هذا النوع، أي قضايا لا نستطيع فيها التوصل لإجابة واحدة ونهائية عن ما يريد القرآن قوله لا بسبب ضعف أداتنا نحن بل لأن القرآن لا يقول في هذه القضية شئ نهائي أو لغياب بؤبرة مركزية تقضي على توتر إجاباته؟

هذا التساؤل واجهه ايزوتسو رغم اقتصاره على الجانب الدلالي في قراءة القرآن.. ففي مناقشته قضية الجبر والاختيار، يرى أن الحديث عن تناقض قرآني في الأمر ليس نابعا إلا من محاولة قراءة القرآن عبر رؤية منطقية صارمة تتوخى تناسق منطقي في الإجابة القرآنية، فالتناقض غير موجود إلا عند من يظن «ضرورة أن يقدم القرآن رؤية نهائية في هذه القضية»، وهو في ذاته تصور لاحق نتج من محاولة إخضاع القرآن لقواعد المنطق وعدم الالتفات لخصوصيته ككتاب ديني له مهام تتجاوز محض الإقناع المنطقي. وحين نترك ايزوتسو بمنهجه الدلالي إلي فضل الرحمن ونصر فإننا نرى كيف لا ينجح التعامل التاريخي أو حتى الكرونولوجي في تقديم تصور موحد عن ما يريد القرآن إعلانه في مثل هذه القضية. ففضل الرحمن كي يحل الأمر قام بإرجاع الفكرة لأحد التصورات الثلاثة التي ذكرناها بالأعلى «البعث» و«الحساب» «التوحيد»، فيعتبر أن حرية الإنسان فردا تجاه الله شيء حتمي في ظل تصور التقوى و«الحساب» وكذلك تجاه الطبيعة عن طريق اعتبار الطبيعة تعمل بذاتها لكنها ليست مستبدة بل تتماشى مع إرادة الله التي تعطيها المعنى والغاية بخلقها وإفناءها «التوحيد»، وبعد استنباطه تصور الحرية من خلال التصورات الثلاثة التي تمثل نواة القرآن الابستيمية عنده يبقى فقط أن ينفي أي تناقض في القرآن بين آيات الجبر والاختيار عن طريق بعض التآويل الطريفة [6]، ثم يقوم بالتأكيد على أهمية البعد الخطابي المؤثر في بعض الآيات التي توهم بالجبر، مثل آية «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها» فيعتبر في الأمر تأثيرا سيكولوجيا على المتلقي أكثر منه إخبار عن الجبر يحتاج رفع التناقض مع فكرة الحرية. وفكرة التأثير السيكولوجي لآية المترفين هي نفس ما سيقوله نصر بعد هذا متماشيا مع عدم ترجيحه رأيا قرآنيا في القضية واعتبار هذه الرغبة في وجود إجابة نهائية في مثل هذه القضايا إسقاطا من المرحلة الثالثة الخاصة بالعلوم ونشأتها وتحويل القرآن مدونة معرفية عبر إخضاعه لتأوليل كلياني عبر افتراض بؤرة مركزية!

إذن فنحن الآن أمام عدد من التساؤلات التي تتفرع عن التساؤل الرئيس للمقال، كأنها مفاهيم متعالقة في حقله -الاستفهامي هذه المرة!-، كيف نستطيع فهم نواة الابسيتيمة للقرآن التي تتكون من مسائل كبرى دون أن نقحم عليه أسئلة لا تناسبه؟ كيف نستطيع التوصل لتصور القرآن في هذه المسائل؟

قد يفيدنا بالفعل هذه الأداة من ايزوتسو حين تتحول من مجرد التحليل الدلالي للتحيل العقدي الذي يمكن من فهم الإسلام عبر مقارنتته بيره من الأنظمة العقدية وحين تطعم بالكرونولوجية والخلفية التاريخية كما عند فضل الرحمن ونصر، لكن هل هي كافية أم تحتاج تطويرات أخرى؟ وهل بعد كل هذا سنستطيع الوصول لتصورات القرآن الحاسمة عن مسائل كبرى أم علينا قبول أنه ومع كل ذلك ستظل ثمة قضايا لا نستطيع أن نقول عنها أن القرآن حسمها، وأخرى نختلف في كونها موضوعات رئيسية أم مجرد فروع تتحرك في حقل الموضوعات الرئيسة؟


[1] يختلف الباحثون في الأديان حول أديان التوحيد، هل هي السابقة على الأديان الاخرى، بمعنى أن التدين بدأ توحيديا ثم تغير ثم عاد للتوحيد؟ أم العكس أن ظهور التوحيد لاحق؟ فالبعض يعتبر التوحيد تطورا لاحقا، والبعض يعتبره تصورا وسيطا ظهر لمرحلة ليخرق تصور الألوهة غير المشخصة، فظهور الإله مؤقت. انظر فراس السواح، دين الإنسان، 220، 228.[2] مرسيا إلياد، البحث عن التاريخ و المعنى في الدين.[3] مسألة كون القرآن هو مصدر التوصل لهذه المسائل الكبرى وتصورات الإسلام عنها، هو نفسه يحتاج مراجعة، فالشعائر الإسلامية أيضا ينبغي دمجها في هذا السؤال واستكشاف ما تفتحه لنا من طرق للوصول لتصورات الإسلام. ومزية الشعائر أنها لارتباطها بالتشكل الأولي للدين بين جماعة المؤمنين فإنها أقدر على كشف تصورات الدين قبل إخضاعه للعقلنة اللاحقة، وهذا لا يمنع إمكان إجراء دراسة عن تطور للشعيرة من الجاهلية لفترة النبوة لما بعدها أيضا، ستكون مفيدة للغاية.[4] بداية من لحظة تفسير المنار للأستاذ الإمام وثمة محاولة لتقديم تفاسير للقرآن تتجاوز التفاسير التراثية وتقدم تعاملا أكثر مباشرة مع النص. وبالطبع نتجت كثير من التفاسير الأيدلوجية التي تستوعب القرآن تماما في أفكار مسبقة، مما دعا كثيرا لمحاولة تقديم تفسير يقدم محتوى القرآن وفقا لخطاطته هو الرئيسة لمواضيعه.[5] يشير ايزوتسو إلى أن اختيار الكلمات المفتاحية قد يتضمن قدر من الاعتباطية، فمثلا لفظة عرش وردت في أكثر من عشرة مواضع في القرآن ولها أهمية كبيرة في الكلام والتصوف الإسلامي، إلا أنها لا تمثل مفهوما محوريا في القرآن إلا بعد مناقشة، على عكس تصورات الله والكفر والهداية مثلا، هذه الملحوظة توضح أيضا محدودية المدخل الدلالي وحده على أهميته كمرحلة ضمن آليات أكثر فعالية.[6] يجمع فضل الرحمن بين آيات مثل «جعلنا على قلوبهم أكنة» والتي توحي بختم آلهي وجبر، وأخرى مثل «قد أفلح من زكها و قد خاب من دساها» المقررة لعدم وجود جبر، عن طريق اعتبار آيات الاختيار خاصة بمرحلة التوجه الإرادي للعصيان أو الطاعة في حين آيات مثل ختم على قلوبهم تعبر عن مرحلة لاحقة يصل فيها الإنسان نفسيا لتصرف غير واعي بمقتضى ما شكل نفسه عليه من قبل.