هل من الممكن أن توجد هذه المخلوقات؟

بعيدا عن الخيالات التي ذكرتها لأُحفز عقلك على التفكير في فكرة إعادة تشكيل خصائص الكائنات كما عرفناها.. ربما نحن اقتربنا من الزمن الذي ستتحول فيه هذه الأفكار إلى حقائق لنفتح المجال إلى حقبة نستطيع فيها الوصول إلى إظهار أفضل الصفات وإبقائها ومحو كل الصفات الضارة.

الممتع في هذه الفكرة أننا حقا وضعنا أقدامنا على بداية الطريق.

لكن، إذا أردنا الحديث عن الهندسة الوراثية وجب علينا أن نُفسر بعض المفاهيم الأولية التي سوف تُسهل علينا فهم هذه العملية التي تُغير كل يوم من شكل الحياة التي نعرفها.


أولا: ما هي الجينات؟

(تتكون المادة الوراثية DNA من كروموسومات كل كروموسوم على شكل حلزون مزدوج يحملان الجينات المتكونة من نيوكليتيدات مترابطة)

الجينات: تُعرف بأنها العوامل التي تتحكم في الصفات، فكل جين هو جزء من النيوكليوتيدات على طول سلسلة الحمض النووي في كل كروموسوم. وتتكون بعض الجينات من آلاف النيوكليوتيدات طولا. بينما البعض الآخر أقل من مئة.

خلاياك لديها نحو 25000 جين مختلف متناثرين بين كروموسوماتك الـ 46. وكل جين هو نموذج مصغر للجزيء العامل في خلايا الجسم. وتتحكم الجينات عادة في البروتين. حيث يتغير شكل البروتين ووظيفته والإجراءات التي تتحكم في البروتينات التي تكون الصفات الخاصة بك.

على سبيل المثال، يتم تحديد لون الجلد والشعر والعيون عن طريق صبغة الميلانين البنية التي تترسب فيهم. وتقوم بروتينات تسمى الإنزيمات تساعد على ظهور تأثير الميلانين، في حين تقوم البروتينات الأخرى بوضع صبغة الميلانين في المواقع الصحيحة لها.

إذا الجينات الخاصة بك تحتوي على رموز تجعل البروتينات تقوم بهذه الوظائف على أكمل وجه، يكون اللون المميز لجلدك غامقا. وإذا كانت رموز جيناتك تُكون بروتينات تٌقلل أو تمنع وجود الميلانين في جلدك وشعرك، أو عينيك، كان لونك أفتح.

وبتغيير عامل من عوامل تكوين البروتينات عن طريق تغيير أحد الجينات يتغير البروتين وبالتالي تتغير صفات معينة في الكائن الحي إلى أن نصل إلى تغيير كلي في شكل الكائن الحي وخصائصه.


ولكن كيف تتغير الجينات؟ كيف كانت البداية؟

لقد بدأ علماء البيولوجيا الجزيئية منذ أواسط الثمانينات من القرن العشرين الميلادي مشروعا طموحا أطلقوا عليه اسم مشروع الجينوم البشري Human Genome Project لدراسة الصبغيات البشرية، ومعرفة خصائص كل منها، وتحديد المورثات المتعلقة ببعض الأمراض.

و في السادس والعشرين من يونيو عام 2004 أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في تصريح مشترك مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير عن الانتهاء من فك رموز وجدولة كامل المخزون الوراثي البشري تقريبا، وقد تم هذا الاكتشاف من خلال دراسات مكثفة وتعاون استمر عشر سنوات بين عشرة من أكبر المراكز العلمية في العالم.

ووصف العلماء هذا الاكتشاف بأنه أكثر أهمية من هبوط الإنسان على سطح القمر، وأنه الإنجاز العلمي الأضخم الذي يستقبل به العالم الألفية الجديدة.

ويهدف مشروع الجينوم البشري إلى التعرف على التركيب الوراثي الكامل والشفرة الجينية للإنسان، ويشمل ذلك نحو ثمانين ألف جين، تضمها ثلاثة مليارات وحدة في كل من خلايا الجسم البشري التي يبلغ عددها تقريبا مائة تريليون خلية، والتريليون يساوي ألف مليار!

وإذا وضعت مكونات جميع الحمض النووي في جسم الإنسان صفا واحدا فإن هذا الصف يعادل المسافة بين الأرض والشمس ستمائة مرة! أما المعلومات الخاصة بشفرة الحامض النووي والتي يتوقع العلماء أن ينتهوا منها في العام 2003م فإنها يمكن أن تملأ مائتي كتاب بحجم دليل الهاتف يتكون كل منها من خمسمائة صفحة.

وتعمل فرق دولية من ثمانية عشر بلدا بينها إسرائيل، وليس بينها قُطْر عربي واحد، في هذا المشروع، هي: أستراليا والبرازيل وكندا والصين والدنمارك وفرنسا وألمانيا وإسرائيل وإيطاليا واليابان وكوريا والمكسيك وهولندا وروسيا والسويد وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أنجز المشروع حتى الآن دراسة التركيب الوراثي لعدد كبير من الفيروسات والجراثيم كتلك المسببة للسل، وانتقل إلى تفكيك شفرة كائنات أكبر مثل الخميرة وذبابة الفاكهة. فهل اكتشاف خريطة الجينات البشرية يمثل بالفعل تطورا هائلا لصالح الإنسان أم مجرد كشف يضاف إلى اكتشافات علمية سابقة؟

قد كشف العلماء حتى الآن الكثير من أسرار الشفرة الوراثية Genetic Code في الحيـوان والنبات والإنسان, وأصبحوا قادرين على إحداث القليل من التَّغيير في الصِّفات الوراثيِّة، كما تمكنوا من إنتاج أعضاء حية بالاعتماد على تقنية الهندسة الوراثية، وتمكنوا باستخدام طريقة الاستنساخ (التنسيل: Cloning) من إنتاج نُسَخ Copies من المخلوقات الحية انطلاقا من خلايا غير جنسيَّة أخذوها من المخلوق الأصلي.

ويأمل العلماء من تقنية الهندسة الوراثية أن تحلَّ لهم الكثير من المشكلات الطبية الراهنة التي لا يمكن حلُّها بغير هذه التقنية، ومن ذلك مثلا إنتاج أعضاء بديلة Substitute Organs لاستخدامها في زراعة الأعضاء Organ Transplantation بدلا عن الأعضاء التالفة أو المريضة.

وذلك بأن يُنتج العضوُ المطلوب انطلاقا من خلية حية تؤخذ من جسم المريض نفسه فتزرع في مزارع خاصة أو في جسم أحد الحيوانات، ثم تحرَّض على التكاثر من أجل تشكيل العضو المطلوب الذي سيُزرع في جسم المريض، وهي طريقة أفضل من الطريقة المتبعة اليوم، والتي يُؤخذ فيها العضوُ من أحد الأشخاص المتبرعين ويُزرع في جسم الشخص المريض المحتاج لهذا العضو.

ومن المعروف طبيا أن هذه الطريقة الأخيرة تسبب ارتباكا شديدا في جسم المريض، وهو ما يعرف بظاهرة الرفض Rejection للعضو المزروع، مما يؤدي إلى فشل عملية الزرع في كثير من الحالات.

كما يأمل العلماء في المستقبل القريب أن يتمكنوا من تسخير علم الهندسة الوراثية في الوقاية من الأمراض الوراثية، ومعالجة الكثير من التشوهات الخَلْقَّية التي مازالت إلى اليوم تشكل عبئا اجتماعيا ونفسياً وماليا ثقيلا على المجتمع. وهم يهدفون من ورائه إلى حلَّ رموز الشفرة الوراثية للإنسان, ووضع الخريطة الوراثية التي تحدد مواقع الجينات (المورِّثات: Genes) على الكروموسومات.


كيف تتم عملية الهندسة الوراثية؟

(تتكون المادة الوراثية DNA من كروموسومات كل كروموسوم على شكل حلزون مزدوج يحملان الجينات المتكونة من نيوكليتيدات مترابطة)
(تتكون المادة الوراثية DNA من كروموسومات كل كروموسوم على شكل حلزون مزدوج يحملان الجينات المتكونة من نيوكليتيدات مترابطة)
(عملية الهندسة الوراثية)
(عملية الهندسة الوراثية)

بداية يتم عزل الجين المرغوب فيه من خلال تحديد الجين المرغوب إدخاله إلى الخلايا من خلال معلومات مسبقة عن المورثات والتي يتم الحصول عليها إما من خلال عمل مخططات من cDNA أو gDNA ومن ثم تتم مضاعفة هذه الجينات باستخدام تفاعل سلسلة البوليميرز.

ثم يتم ادخال أو تحميل الجين المرغوب في حامل مناسب مثل بلازميد. كما يمكن استخدام حوامل أخرى مثل الحوامل الفيروسية أو الليبوزوم.

وبعد ذلك نقوم بإدخال هذا الحامل في خلايا المراد تعديلها.

وفي المرحلة الأخيرة يتم عزل وفصل الخلايا التي تعدلت وراثيا بنجاح عن الطبيعية. فيما يُعرف بالـ DNA معاد الاتحاد Recombinant DNA. ونكون بذلك قد حصلنا على الجين الجديد الذي سيُفعّل الصفات الجديدة المرغوب فيها.

وإذا فكرنا لعدة دقائق سنكتشف أنه برغم بساطة الفكرة وتعقيد الخطوات سنستطيع تغيير أي صفة وراثية سواءً لتحسين الصفات أو حتى لإنتاج فصائل جديدة من ابتكارنا تستطيع أن تتفوق.

سنجد في النهاية أنفسنا أمام تطبيقات لانهائية للهندسة الوراثية في جميع المجالات كتطوير الأدوية والعقاقير وإنتاج الأمصال والمضادات الحيوية، أو إنتاج أفراد يستطيعون مقاومة الأمراض أو حتى بعيدا عن المجالات الطبية، كإنتاج الوقود والمحاصيل المقاومة للأمراض والطعام المعدل وراثيا بألوانٍ أكثر بريقا و طعم ألذ بكميات كبيرة.

(تحسين الفاكهة وراثيا)
(تحسين الفاكهة وراثيا)

في النهاية ستصل مثلي إلى ملاحظة هامة وحتمية: هل الهندسة الوراثية تتعارض مع الأديان؟ هل إذا استخدمنا هذا العلم لصالح البشرية سنعارض ناموس الكون بحتمية وجود خالق لا يجوز تعديل ما خلقه؟ أم أن الله هو الذي ألقى إلينا بهذه الفكرة لكي نستخدمها لصالحنا لكن دون عبث؟

وإذا تصالحنا مع أنفسنا في هذه المنطقة الجدلية سندخل في اشكالية وجود الكثير من الأضرار لكل ما هو مُهندس وراثيا تجعله وإن تفوق من الناحية الكمية فإنه مازال بعيدا عن كمال ما وجده الإنسان على طبيعته.