ماذا تعني الأسطورة؟ هل لها معايير محددة؟ أم أنها نظام سردي خاص اصطلح الناس على تعريفه بالأسطورة؟

لعلنا سنبدأ من قديم التعريفات العربية لنتوصل إلى إجابة عن سؤال تعريف الأسطورة، الأسطورة هي القصة والإخبار عن الماضين، وقد ذكر ابن عاشور في أصلها أنّ الأسطورة لفظ معرّب عن الرومية: أصله إسطوريَا (بكسر الهمزة) وهو القصّة.([1]) وتدور معاني الأسطورة عند العرب على مدار القصة والتسامر والمرويات التي كانوا يروونها في الليالي من أحوال الأمم الماضية، أو كانت مكتوبة في الكتابات القديمة، وما يحتمله ذلك من صدق وكذب، وقد تعارفوا فيما بينهم على هذه المعاني؛ مما حدا بأهل قريش –المعاندين- إلى وصف القرآن بأنه أساطير الأولين أو مجموعة قصص تحتمل الصدق والكذب جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم (حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) سورة الأنعام.وقد جاءت معاني لفظة الأسطورة الواردة في القرآن حول هذه الفكرة المتأصلة عند العرب، ويردنا هذا إلى أصل فكرة الأسطورة عند العرب ومدى احتمالها للتصديق النسبي، أو الكذب المحض؛ مما يفتح الباب أمام استرسال العجيب في الفكر العربي، باعتبار أن فكرة العجيب دائمًا مرتبطة بالشيء المفارق للعادي -عند تلقي موضوع المُتَعَجَب منه- مما يدعو أحيانًا للدهشة، وكذلك يرتبط الكذب بالشيء المفارق للحقيقي أو المتعارف عليه -الصدق- مما قد يدعو إلى الاستغراب، ويرتبط الكذب أيضًا بالمجاز؛ لأن الكذب نقل الكلام إلى صورة أخرى مغايرة لصورته الأصلية. والمجاز تَجَوُز بالكلام إلى مستوى آخر غير المراد كتابته، وهذا ما دفع العرب إلى إطلاق مقولتهم الشهيرة “أصدق الشعر أكذبه”، لأن الشعر يحتمل وجود المجاز في مستوياته المتعددة؛ فإذا ما صنع الشاعر عقدًا من النجوم وأهداه إلى محبوبته، فصُنْعه هذا على سبيل المجاز، والأسطورة تحتمل وجود المجاز والكذب والعجيب في طياتها، من حيث أنها مخالفة للواقع فهي كذب، وتريد إيصال معنى آخر غير المراد كتابته فهي مجاز، ويعمل ذلك على صبغها بصبغة العجيب أو المفارق للعادي.

والعجيب هو مصطلح يدعو لفتح آفاقٍ عقلية على النص الأسطوري، وعندما ناقش أليكس لوسيف معنى الأسطورة في كتابه “فلسفة الأسطورة”([2]) نجده قد حاول في البداية أن ينفي عنها بعض الصفات العالقة بها مثل أنها ليست وهمًا أو نتاج خيال، بل هي الواقع الأكثر تحديدًا، والأكثر وضوحًا وملموسية، خاصة حينما نرى في رصد علم الأنثروبيولوجى لبعض القبائل التي ترتدي قلائد معلق عليها أسنان التماسيح؛ خوفا من الغرق عند السباحة، أو حين يخبرنا التاريخ عن بعض الفترات التي بلغ
التعصب الديني فيها أن يحرق المرء نفسه، وهنا يرى أليكس لوسيف أن المحفز الأسطوري لتلك الشخصيات الأسطورية يقترب من الواقع، وليس من صنع الخيال أو الوهم، أليس إحراق المرء نفسه يرتبط بشكل أو بآخر بأسطورة العنقاء التي تحترق لتعود من جديد وتنشأ من الرماد؟ ولعل هذا الإسقاط من المعنى الأسطوري إلى الواقعي هو ما دعى لوسيف إلى إطلاق مقولة المحفز الأسطوري لتلك الشخصيات التي استخدمت معنى الأسطورة في الواقع.
التعصب الديني فيها أن يحرق المرء نفسه، وهنا يرى أليكس لوسيف أن المحفز الأسطوري لتلك الشخصيات الأسطورية يقترب من الواقع، وليس من صنع الخيال أو الوهم، أليس إحراق المرء نفسه يرتبط بشكل أو بآخر بأسطورة العنقاء التي تحترق لتعود من جديد وتنشأ من الرماد؟ ولعل هذا الإسقاط من المعنى الأسطوري إلى الواقعي هو ما دعى لوسيف إلى إطلاق مقولة المحفز الأسطوري لتلك الشخصيات التي استخدمت معنى الأسطورة في الواقع.

كذلك يرى لوسيف أن الأسطورة ليست وجودا مثاليًّا يعتمد على النقاء في ذاته، لأنها تأخذ من الواقع بكل ما يحتويه من بُعد عن التجريد، فهي النقطة الفاصلة بين الواقع والخيال، فلو نظرنا إلى استخدام مفهوم الواقعية في القبائل التي ترتدي أسنان التماسيح، سنجد ذلك البعد الواقعي في فكرة القلادة وأسنان التماسيح الموجودة فعلًا، وفكرة مهارة العوم المتمكنة منهم في الأصل، وفي الوقت ذاته نرى وجود الخيال في كيفية الاعتقاد بأهمية أسنان التماسيح ودورها الحامي من الغرق، ولأن هناك ذاتًا فاعلةً في الأسطورة، فمن البديهي أن تؤدى هذه الذات دورها في شخصنة الأسطورة، أو تطبيعها بطابع شخصي يخاف من أشياء ويحب أشياء ويكره أشياء وهكذا، ولعل الشخص الذي دبج بداية الاعتقاد الأسطوري بأسنان التماسيح كان يرى فيها قدرة ما أو يحب قدرة التماسيح على البقاء فترة طويلة في الماء مع قدرتها على التنقل فوق اليابسة، فكان انفعاله بالتمساح ما أدى إلى بداية التدجين لهذا الاعتقاد الذي تم التعامل به بعد ذلك، مما يجعلنا نحيل الأسطورة إلى ثقافة انفعال بالحياة من شخص قام بدوره في تدبيج هذا الانفعال الثقافي بالحياة، وإعطاءه بعدًا عجائبيًا فكانت بدايات الخلق الأسطوري، ومن ثَمَّ بدأت الذاكرة الجمعية في تدبيجها بعده على حسب متطلبات الفترة التاريخية، وإذا عدنا إلى فكرة العجيب فإن احتمال وجوده داخل الأسطورة وارد لكونها تحتمل الصدق (المعنى الواقعي “أسنان التماسيح، إشعال النار”) والكذب (المعنى العجائبي “قدرة أسنان التماسيح، العودة بعد الإحراق”)، وهذا أول قانون في أصل الأسطورة.

إذن القانون المعرفي الأول في الأسطورة يأتي من خلال محاولتنا تعريفها، فهي نتاج شخصي خيالي -لارتباطه بالمعرفة السماوية في أصله الأول- خارج من انفعال ثقافي بالحياة، قبلته الجماعة وعملت على تدبيجه بمفهوم العجيب حسب السياق التاريخي لهذا التدبيج.

الأسطورة هي نتاج شخصي خيالي -لارتباطه بالمعرفة السماوية في أصله الأول- خارج من انفعال ثقافي بالحياة، قبلته الجماعة وعملت على تدبيجه بمفهوم العجيب حسب السياق التاريخي لهذا التدبيج.

وحتى لا يكون الكلام على علاته، لنعُد بالذاكرة إلى بداية البشرية في عملية تخيلية، حتى نتتبع فكرة العجيب وارتباطها بالواقعي، فمن المعروف في قصة سيدنا آدم المشهورة أنه بعد أن أكل من الشجرة المحرمة -التي أقسم له الشيطان أنها للخلد- وإلهام الله له بكلمات التوبة -وهي أول كلمات دينية يتلقاها أول إنسان عرفته الأرض- نزل إلى الأرض ومعه الشيطان.

ولعل النبي آدم عندما كان يجلس هو وزوجه يتسامران، يتذكران الجنة التي كانا فيها ووصفها ويعقدان المقارنة بينها وبين الأرض الجديدة التي يعيشان عليها، ولعله في محاولته للربط بين الأسماء التي تعلمها في السماء والأشياء الموجودة في الأرض كان يسعى لإجهاد عقله في عملية تخيلية لإتمام عملية الربط هذه، حتى يستقر مفهوم الشيء الواقعي والمعنى الموجود في خياله، ومن هذا كانت عملية المقارنة البديهية بين الأشياء السماوية -التي كانت واقعية بالنسبة للنبي آدم عليه السلام- والأشياء الأرضية التي كانت معنى متخيلا في الأسماء التي تعلمها ولعله رأى نماذج منها في السماء في واقعة (وعلم آدم الأسماء)، ثم تحولت هذه المعارف والأسماء إلى شيء واقعي على الأرض، وعلى هذا يكون الأصل السماوي هو الواقع الأول المتعارف عليه عند النبي آدم، وتتم المقارنة على أساس الأصل السماوي والفرع الذي يمثله الشيء الأرضي، مما أدى إلى انسحاب بعض الصفات السماوية على الأشياء الأرضية، مثل القول أن هذا النهر مثلًا يشبه نهرًا في الجنة ومع الوقت يستقر اعتقادٌ ما أن هذا النهر ينبع من الجنة مثل الأساطير المصرية الشعبية التي ترى النيل ينبع من الجنة، وكذلك الأمر في اعتقاد الأسطورة الشعبية العراقية التي ترى أن دجلة والفرات ينبعان من الجنة، ونستطيع القول أيضًا أن الغيبيات كالملائكة والجنة والنار في تصورنا الآن قد يكون جزءٌ منها على صورته الأصلية كما أوردها النبي آدم في مراحل الحكي الأولى وبداية تشكل المعرفة الأولى للبشرية.

ومع مرور الوقت ومجيء الأبناء وحاجة الجنس البشري للحكي باعتباره شكلًا للتواصل بين الناس وذلك من الناحية التصوّرية التي نتخيلها الآن، بدأ النبي آدم يحكي عن الجنة وعن كلمات التوبة ودور الشيطان وألاعيبه بشكل يقرب الصورة إلى أبنائه حتى يعلموا ما الذي فعله الشيطان، وبالتالي يأخذوا حذرهم منه، واللغة لا تعبر عن المعبَّر عنه دائمًا بشكل دقيق، ومع مرور الوقت أكثر بدأ الأبناء يحكون للأحفاد وأحفاد الأحفاد والصورة تبتعد أكثر عن المصدر الأصلي -آدم- وبالتالي تختلف تفاصيلها باختلاف الذاكرة الحكّائة، ويختلف مستوى التصديق؛ لأن الحكي سيأخذ صيغة: يُروَى في الأزمنة البعيدة أن الأب الأول كان يعيش في مكان غير مكاننا يسمى الجنة وكان هناك ملائكة وشياطين…. إلخ، ومن هنا تبدأ فكرة العجيب المرتبطة بالتخيل لشيء غير موجود على الأرض من جنة وشيطان وملاك، ومع اهتمام المستمع بهذه التفاصيل فليس هناك مانع من أن تُنْسَج العديد من الحكايات التي تُمَجِد الملائكة، وتُحَقِر الشيطان، وتُرَّغِب في الجنة، أو يقوم بعض الناس ممن يمتلكون الخبرة -أقصد بعض البقايا الدينية أو الممارسات السحرية- بعمل التراتيل والتعاويذ التي تجلب الملائكة، وتطرد الشيطان.

وليست الفطرة الإنسانية هي العامل الوحيد المساعد على تكوين الأساطير العجائبية لتقويم النشء أو أخذ العبرة، بل مع تباين الأنفس البشرية وتواطؤها المعرفي مع المختلف، سنجد هناك من يمجد الشيطان ويعتبره مظلوما؛ لأنه لم يغوِ الأب الأول، بل حاول أن يتقرب إلى الله ولم يسجد لغيره من فرط حبه له كما نجد عند الحكايات الصوفية، وهناك من يعيد صياغة فكرة الملائكة لتصبح كائنات أقرب إلى الشكل البشري مع إضافة الجناحين المشهورين كما تدشن العديد من الأفلام الغربية في الوعى الإنساني، أو يخرج البعض من ذلك كله ويبدأ في إيجاد علاقة بين الظواهر الأرضية والتقديس، لتصبح الشمس دلالة على تجلي الإلهي، والبرق سوط الله لمعاقبة الخارجين عن قانونه، ثم تنتفي هذه العلاقات مع تطور الزمن، لتصبح الشمس -على سبيل المثال- هي وسيلة التقرب إلى الله، ومن ثَمَّ تتحول إلى إله، وهذا التدرج أو التنوع في إطار واحد يعود إلى فكرة المصدر الأول الذي تعاملت معه هذه الأفكار -أقصد فكرة آدم وبداية حكيه عن الجنة والملائكة…- ثم بدأ الناس في هجراتهم المختلفة إلى كل بقاع الأرض، وقد أرّخ لهذا التاريخ الحفري الحاكي للبشرية ما حدث في العصور الأولى عن طريق الحفريات والكتابات المقدسة التي تم اكتشافها وحل لغزها عبر التاريخ الطويل لعلم الأنثروبيولوجيا والإثنولوجيا الذي يمثل التاريخ البديل أو لنقل النهر التحتي للتاريخ وهو الأسطورة التي حكت عن إيزيس وأوزوريس ورع وإنليل وشمش وبرج بابل، ولعل أسطورة برج بابل تذهب بنا مباشرة إلى العلاقة بين أفعال البشر وغضب الإله عليهم، فتحكي أن البشرية وصلت إلى مرحلة من الترقي المعرفي والترف دعتهم إلى حد التطاول على الذات الإلهية، وقرروا صُنع برج بابل للوصول إلى السماء؛ فغضب الله عليهم وقرر أن يشتتهم في الأرض وتتعدد لغاتهم، ومع الهجرة يكون الزاد المعرفي المحمول في الذاكرة من حكايات اتسمت بالأسطورية المعرفية الأولى؛ أي الأسطورة المحملة بأيدلوجية معينة مرتبطة بالسماوي كما سبق وبيّنا، ليبدأ بعد ذلك تسكين كل جماعة بشرية لنفسها في مكان ما اصطلحت فيما بينها على موائمته لقدرتها وطبيعة معيشتها، وهكذا كانت الأسطورة في مهدها الأول أداة معرفية لتوصيل الفكرة المُرَادَة وبلورتها في إطار يستطيع أن يتواصل مع الثقافة العامة لشعب ما ويشبع رغبتها في الوصول إلى تخيل التاريخ الأول للمعرفة.


1) كتاب التحرير والتنوير لابن عاشور وذكر فيه: أن العرب كانوا يطلقون لفظة الأسطورة على ما يتسامر الناس به من القصص والأخبار على اختلاف أحوالها من صدق وكذب، وقد كانوا لا يميِّزون بين التواريخ والقصص والخرافات فجميع ذلك مرمي بالكذب والمبالغة.

(2) من كتاب “فلسفة الأسطورة، دار الحوار للنشر والتوزيع – سوريا