إذا وقفت عاجزًا أمام الاكتئاب، فعقلك لن يحتمل هذا السكون. سيحدث نفسه هامسًا من ورائك: «إذا لم يكن الواقع قابلا للتغيير، فلأخدع صاحبي ليرى الواقع كيفما أريد». سيخلق كمَّا من الحيل والأوهام والتكتيكات تكفيه ليحتمل ويتجنب الوقوع في شراك القلق والرعب والاكتئاب. ذلك هو ما نسميه: «الآليات الدفاعية» (Defence Mechanisms).

فالدفاعات النفسية هي عمليات لاشعورية، تسعى لإيجاد حلول وسطى لمشكلات معقدة أو مشاعر مرفوضة، بغرض حماية الذات من خطر تهديدات الشعور بالقلق أو التوتر، والحفاظ على صورة الإنسان الذاتية ورؤيته لشخصه، وتوفير مأوى معنوي يختبئ فيه من موقف لا يستطيع التكيف معه حاليًا.

كان فرويد أول من وضع الأساس لمفهوم «الدفاعات النفسية»، ثم جاءت ابنته آنا (Anna) وأضافت إليه الكثير، وتلا ذلك عديد من الإضافات عن طريق علماء التحليل النفسي.


بنية النفس الإنسانية

تتشكل النفس الإنسانية، بحسب فرويد، من ثلاث بُنى:

أولا: الهو (ID)، وهو المخزون اللاواعي من الشهوة الجنسية والطاقة النفسية التي تغذي الغرائز وتعتبر المتعة أمرًا ملحًا غير قابل للتأجيل، وهي تتجلّى في الأنانية الطفولية والجنس والعنف.

ثانيًا: الأنا العليا (Superego)، وهي التي تحوي المبادئ والأخلاقيات والسلوكيات التي يتم زرعها من قبل الوالدين أو الدين أو المقاييس والأعراف المجتمعية، بناء مفهوم الصواب و الخطأ، وتمثل التقدير والاحترام والوعي بالقوانين وقواعد تحريرالضمير.

ثالثًا: الأنا Ego، وتمثل المنطقة الوسطى بين الغرائز المتمثلة في «الهو»، وبين المبادئ المتمثلة في «الأنا العليا»؛ أي هي الطرف المحايد الذي يقوم بتسوية الصراعات بينهما.

فعندما يصدر «الهو» إشارة بالرغبة في إقامة علاقة جنسية مع شخص غريب مثلا، ينشأ صراع مع مبادئ الرفض الموجودة في «الأنا العليا»، وينتج عن هذا الصراع إحساس بالتوتر، والتوتر عبارة عن إشارة لتحذير الكائن من الخطر الذي يهدّد اتزانه أو استقراره. وللسيطرة على هذا التوتر، تبرز أهمية «الأنا» في حماية الشخص من هذا التوتر والتهديد عن طريق خلق «الآليات الدفاعية». فالغرض من الدفاعات النفسية إذن هو حماية الشخص لنفسه من التوتر ومن النظرة المجتمعية السيئة.


أنواع الدفاعات النفسية

عدّدت أنّا فرويد 10 ميكانيزمات دفاعية ذكرها والدها سيجموند، وهي: 1. الكبت، 2. النكوص، 3. التكوين العكسي، 4. العزل، 5. الإبطال، 6. الإسقاط، 7. الاستدماج أو التماهي، 8. إيذاء الذات، 9. العكس إلى الضد، 10. التسامي والإزاحة. وقد أضاف علماء نفس لاحقون دفاعات أخرى أشار إليها فرويد وابنته أنّا ضمنيا أو لم يشيروا إليه. فمثلا، أضاف أوتو كيرنبيرج الذي أسهم في دراسة أنماط الشخصية، أن الشخصية الحدّية، أي الشخصية المضطربة في علاقاتها ومشاعرها، تستخدم في الطفولة بعض الميكانيزمات الأساسية مثل: الإنكار والانشقاق (يشبه العزل).

1. الكبت Repression

أول وسيلة دفاعية اكتشفها فرويد، حيث يقوم الطفل بحسب فرويد بكبت أفكار العنف ضد ولي الأمر الذي يحمل نفس الجنس وفقًا لعقدة أوديب. يعتبر الكبت هو الأساس أو القاعدة التى تنبع منها معظم الآليات الدفاعية الأخرى، وهو عملية لاشعورية تحدث حتى يغلق الفرد على مشاعره أو رغباته التي قد تسبب له التوتر أو الألم وكأنه يرميها فى اللاشعور.

ومن أمثلة استخدام ميكانيزم «الكبت»، عدم تذكر بعض ذكريات الطفولة، حيث تظل هذه المشاعر مكبوتة وقد تظهر بشكل فجائي في شكل رمز ما أو في شكل شعور بالذنب. ومن أمثلة ذلك، مظاهر الوسواس القهري الديني لدى الفرد، فهو مقابل لكبت شديد لمشاعر الطفولة أو الجنس أو الرغبة في كسر القواعد ومحاولة دفن أو إخفاء الأحاسيس أو الأفكار المؤلمة من وعي الإنسان، وهذه الأحاسيس أو الأفكار بدورها لا تعود بصورتها الحقيقة، ولكن قد تعود لتظهر على السطح بصورة رمزية.

2. النكوص Regression

في هذا الأسلوب، يعود الفرد إلى مراحل طفولية مبكرة، مثل طفل الثماني سنوات يعود ليتحدث بأسلوب الطفل ذو الأربع سنوات، أو طفل الست سنوات يعود ليبلل سريره ليلا عند حدوث مشكلة مع الأم، ومثل رفض أحدهم مغادرة سريره إذا ما تعرّض لضغوطات وظيفية كبيرة، وكذلك المراهق المرعوب من وهم الاستجابة الجنسية للجنس الآخر قد يعود ليبلّل سريره ليلا.

هذا الأسلوب إذا ما ازاداد بشكل خطر، نخشى من الأمراض النفسية الأكثر تدهورًا حيث العودة إلى مراحل متأخرة من النمو النفسي أو البدني حيث تكون المسؤليات أقل والشعور بالأمان أكثر.

3. الإسقاط Projection

هو اتهام الآخر بما لدى الإنسان من مشاعر أو أفكار أو سلوكيات دون وعي منه، وهو تعبير عادة يشير إلى عدم وعي الفرد بمشاعره أو بدوافعه. ومن أمثلة ذلك أن يتهم الزوج الغاضب زوجته بأنها لا تستمع إليه، ولكن غضبه في واقع الحال ناتج عن عدم استماعه هو إليها. ومثلا، قد تحمل كراهية لأحدهم، ولكن الأنا العليا تخبرك بعدم صوابية ذلك، حينئذ بإمكانك حل المشكلة عن طريق التحدث مع نفسك قائلا: بالتأكيد هذا الشخص يكرهني.

4. التكوين (رد الفعل) العكسى Reaction Formation

وهو فعل سلوك على النقيض مما هو بداخل الشخص من مشاعر أو أفكار. ومن أمثلة ذلك عند غضب الطفل من مدرس ما، فإنه يظهر مشاعر حب له بدلا من أن يعبر عن خوفه أو غضبه منه. أو أن يتعلق طفل ما بطفلة، ويرى الوالدان يرفضان ذلك لأنهما ما زالا صغيرين، فيظهر عدوانية شديدة تجاهها. يحدث هذا أيضًا عندما يظهر الطفل حبه الشديد لأبيه كتكوين عكسي لعقدته الأوديبة معه.

هنا، يتصرف الإنسان بعكس ما يمليه عليه عقله اللاواعي بشكل مبالغ فيه وبصورة مفرطة محاولة لإنكار مشاعره الحقيقة. مثلا قد تنجذب امرأة إلى رجل غير زوجها، وبالتالي تشعر بالتوتر نتيجة لهذا الاحساس، وبالتالي بدلا من أن تخون زوجها فانها تنتقل إلى آلية التكوين العكسي حيث تبالغ في معاملة زوجها معاملة حسنة وإظهار علامات حبها لزوجها!

5. التقمص أو التماهي Identification

يسمى هذا الميكانيزم أيضا «الاستدماج» (Introjection). هنا، يلجأ الفرد إلى التوحد مع المهدّد ويميل إلى التقمص اللاشعورى لأفكار ومشاعر فرد آخر. ومن أكثر الأمثلة شيوعًا لهذا الميكانيزم، تقليد شخص متواجد في مجتمع جديد لمن حوله خوفًا من تهديد كونه مختلفًا عنهم. وغالبا ما يكون التوحد لأن الفرد يرى الآخر يحقق ما لا يستطيع هو تحقيقه (الالتصاق بمشاهير العلم تعويضًا عن شعوره المستمر بالجهل والغباء).

وهناك نوع آخر من أنواع التقمص وهو «التماهي مع المعتدي» (Identification with the Aggressor)، وهي الحالة المعروفة باسم «متلازمة ستوكهولم».

6. الإبطال Undoing

عندما يصدر عن الشخص سلوك عن طريق الخطأ يسبب أذى لآخر أو هو ذاته لا يقبله، يحاول هذا الشخص إلغاء أي أفكار أو أفعال غير صحيحة بالنسبة لقناعاته من خلال هذا الميكانيزم. على سبيل المثال، بعد إحساس المرء أنه وجّه إهانةً لشخص ما، فإنه يعامله بلطف زائد محاولة منه لإزالة التأنيب النابع من الفعل السابق. ومن أمثلة ذلك، عندما يسب الطفل الأم ثم يجرى ليرتمي في حضنها ويقبّلها ويغرقها بضحكه.

7. الإنكار Denial

إن هذا الميكانيزم ينتج عن عدم تقبل الفرد للواقع، مما يجعله يسلك كأن شيئًا لم يحدث. ويعد «الإنكار» أحد أكثر الدفاعات بدائية حيث يستخدم كثيرًا في الطفولة المبكرة وفي الحياة اليومية العادية. من أمثلة ذلك إنكار الفرد لخطئه المهني وتأكيده عدم حدوثه، وإنكار مدمن المخدرات وجود مشكلة مع الإدمان في حياته.

8. الانشقاق Dissociation

الانشقاق هو أن يفقد أحدهم اتصاله بالوقت أو بالأشخاص حوله. وهذا الأسلوب يخرج فيه الفرد للحظات أو لوقت ما من الموقف الذى يحياه، وقد ينشق عن الموقف أوالفرد أو الحدث وكأنه لا يحدث وهو لا يتذكره. يحدث هذا كثيرًا بعد تعرض الطفل للاضطهاد.

وفي الحالات الكبرى، قد يبتعد المرء تمامًا عن الواقع وكأنه غاب عن وعيه، ويسلك كأنه فرد آخر، لكنه لن يتذكر بعد ذلك ما حدث أو تفاصيل ما حدث. يفقد الشخص قدرته على تخيل صورته الشخصية، ويخلق صورة أخرى تحيى في عالم آخر مختلف عن الواقع المحمل بالمشاعر والأفكار المرهقة. نرى هذه الحالة كثيرا في بعض الأعمال السينمائية، وهي حالة «Multiple Personality Disorder» (إذا كانت الكارثة غير قابلة للمحو؛ إذن فلأمحي نفسي منها. فالخط الواصل بين الوهم والواقع دقيق للغاية).

9. الإزاحة Displacement

في هذا الأسلوب، يقوم الفرد بتحويل مشاعره من المصدر الأساسي إلى مصدر بديل، ويكون ذلك لعدم القدرة على مواجهة المصدر الأساسي. ولعل أكثر المواقف شيوعًا هو توجيه غضب الزوج من رئيسه بالعمل إلى زوجته بالمنزل، فهو قد يواجه شدة في العمل ولا يستطع التعبير عن غضبه، فيعود إلى المنزل غاضبًا ليبحث عن سبب للشجار مع أطفاله أو مع زوجته. ينزاح الغضب جزئيًا ولكن قد يستبدل عند القليل بشعور بالذنب أو قلق وضع الأمور في غير محلها.

والتحويل يعتبر نوعًا مشتقًا من الإزاحة، حيث إن هذا الأسلوب يتمثل في تحويل المحتوى العاطفي من فكرة ما (أو شخص ما) إلى آخر. مثلا، هذا الصغير لا يغادر المنزل كلما اقترب الحصان من النافذة، لأنه يخاف من والده ووجه الحصان ونظراته يذكرانه بوالده!

10. التسامى أو التعالى Sublimation

التسامي هو تحويل الأفكار أو المشاعر غير المرغوب فيها إلى صورة أخرى يمكن تقبلها. وهو من الأساليب التي يتسم بها الأفراد الذين لديهم بصيرة بأنفسهم وبرغباتهم. فعندما يشعر الشخص برغبة جنسية جامحة، يبدأ ممارسة رياضة قاسية أو إفراغ طاقته في لون من ألوان الفن. يحدث هذا أيضًا عند حصول إحباط إحباط عاطفي فيحوّل صاحبه إلى رواية أو عمل فني. الفكاهة قد تستعمل أيضًا كدفاع نفسي عن طريق تكوين قصص هزلية يتخلص بها الشخص من معاناة مآسيه.

كما ضرب فرويد مثلا لذلك بما حُكي عن الألماني يوهان فريدريك دايفنباخ الذي كان يجد اللذة وهو صغير في قطع ذيول الكلاب، ثمّ تحول إلى جرّاح بارع كانت له بصمات في جراحات التجميل. كما قيل عن دافنشي أنه كان يمتلك رغبة جنسية هائلة وهو صغير، قام بتحويلها إلى أبحاث في مجال الفن.

11. الفعلنة Acting Out

لم يعد فرويد وابنته آنا هذا الميكانيزم ضمن الميكانيزمات الدفاعية، وإن كان قد أشار إليه، ولكن عدّه بعض علماء النفس اللاحقين مع ميكانيزمات أخرى.

في هذا الأسلوب، يعبر الفرد عن مشاعره بشكل مبالغ فيه حيث يزيد الصراع بين «الهو» الغاضبة و«الأنا العليا» يزيد من حدة الصراع والتوتر. مثلا، عندما يبدأ الطفل ينطح الحوائط برأسه تعبيرًا عن غضبه، أو يقذف أحدهم هاتفه عندما يتصل به شخص عجز أن يقول أمامه أنا غاضب منك.

وقد يأخذ هذا الميكانيزم صورة «إيذاء الذات»، خاصة عند المراهقين؛ مثلا: أنا غاضبة من نفسي، سأقوم بجرح ذراعي، هذا كافٍ لتهدئتي.