لا تزال ظاهرة النوستالجيا قادرة على جذب المزيد من اهتمام البشر حول العالم، على اختلاف ثقافاتهم، ومستوياتهم الاجتماعية. هذا ما أكده لنا الانتشار المُدهِش لـ«تحدي العشر سنوات» أو #10YearsChallenge على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وبالأخص موقع «فيسبوك»، في كافة أنحاء العالم.

لا يزال البشر يعتقدون -بشكل أو بآخر- أن ما مضى كان أكثر جمالًا مما يعيشونه الآن. في مصر – مثلًا – لا يكف كبار السن عن روي الحكايات التي تتحدث عن «بركة أيام زمان»، التي ولّت مع انقضاء أيام شبابهم الأولى، وكيف أن الأجيال الجديدة تعيش أيامًا منزوعة الخير، دون أن يساءلوا أنفسهم بجدية:

هل ما مضى كان أجمل حقًا؟

وهكذا، وخلال الأيام الأخيرة، أخذ معظم مستخدمي السوشيال حول العالم يعيدون نشر صورهم، منفردين أو برفقة أصدقائهم أو عائلتهم، منذ عشر سنوات، ويقارنونها بصورهم الحالية؛ فاكتسب «التريند» طابع الفُكاهة، وإن اكتسى بمسحة الشجن إياها، المرتبطة دومًا بظاهرة «النوستالجيا» واجترار الماضي.

فهل ما مضى مما عشناه بالضرورة أفضل مما نعيشه الآن؟ وهل هذا هو السبب الحقيقي لاستمتاع معظم البشر بكل ما يرتبط بالنوستالجيا؟


ألاعيب الدماغ

كعادة الأشياء المرتبطة بالوجدان الإنساني، يكمن التفسير دومًا خلف الظاهر من الأمور؛ فالحنين للماضي لا يرتبط بالضرورة بكون ما مضى كان جميلًا بالفعل، فبحسب التحقيق الذي نشره موقع psychologytoday، المهتم بقضايا علم النفس، فإن ظاهرة الحنين للماضي مرتبطة بظاهرة علمية تُسمى reminiscence bump، أو «نتوء ذكريات الماضي».

وهي الظاهرة التي تدفع الإنسان لتذكُّر الأحداث التي مرَّ بها في المرحلة العمرية من 15 – 30 عامًا، حيث تحدث في خلايا المخ مرحلة الوهج الأساسية في حياة الإنسان، وهي السنين المرتبطة في حياة معظم البشر بسنين السعادة والانطلاق والتجارب المختلفة الجديدة على صاحبها، حيث الحب الأول، وتجارب الصداقة بكل ما يمر الإنسان خلالها، وتجربة العمل الأولى وجني المال.

فتظل الدماغ في حالة تحفُّز دائم، مهما كبر صاحبها، لتُذكِّر الإنسان بما مرَّ به في هذه الفترة، مصحوبًا بإحساس من السعادة، حتى لو كان الإنسان قد قاسى خلال سنين عمره هذه آلامًا مشابهة، أو ربما تزيد، عن التي يعيشها في سنين كهولته، إلا أن خلايا الدماغ تكون قد عاشت فترة انتعاشها بالفعل في سنين النشأة الأولى؛ فتميل الذاكرة للحنين لأحداث تلك الفترة، وإقناع الإنسان أنها كانت أفضل سنين حياته وأكثرها جمالًا وإثارة.

يعتبر «تحدي العشر سنوات» شكلًا جديدًا لظاهرة الحنين للماضي؛ التي تدفع الإنسان دومًا لممارسة النوستالجيا، وابتكار الوسائل المختلفة لذلك. وهو أمر حيوي بالنسبة للإنسان، تحدث عن أهميته الباحث «كلاي روتليدج» في تحقيق نشره موقع elitedaily، حيث يرى أن النوستالجيا تمنح الإنسان إحساسًا بالرضا تجاه نفسه؛ وتُشعِره بأنه عاش أيامًا جميلة فيما سبق من حياته، حتى لو كان هذا بعيدًا عن واقع ما جرى بالفعل.

كما يرى أن الناس الذين يميلون للنوستالجيا لديهم تقبُّل وتقدير أكبر لفكرة الموت بشكل عام؛ خصوصًا إذا كانت النوستالجيا لديهم مرتبطة بالتعلُّق بذكريات عاشوها مع مُقرَّبين لهم فارقوا الحياة، وهي ملاحظة ذكية من الباحث؛ يمكن أن تلاحظها بسهولة في مَن حولك ممن يستمتعون دومًا بالحنين لما مضى في حياتهم.


مرض نفسي أم محاولة لتخفيف آلام الحاضر؟

محاولات تفسير ظاهرة النوستالجيا ليست بالحديثة، فطبقًا للصحفي جون تيرني، الصحفي بجريدة النيويورك تايمز -كما يذكر تحقيق موقع elitedaily- في القرن السابع عشر، اعتبر الطب النفسي ظاهرة النوستالجيا مرضًا نفسيًا؛ وذلك على حسب نظرية وضعها طبيب سويسري؛ فسَّر من خلالها الأمراض النفسية والعضوية التي يعاني منها الجنود أن سببها هو اشتياقهم للعودة لديارهم، وحنينهم لذويهم ولذكرياتهم معهم.

ثَبُت مع الوقت بالطبع خطأ هذه النظرية، إلا أنها تدل أن البحث وراء تفسيرات لتعلق البشر بظاهرة الحنين للماضي طالما شغل الإنسان، منذ عدة قرون مضت.

وبشكل عام، تتعدد نظريات ومحاولات التفسير النفسية والعلمية في عصرنا الحالي لهذه الظاهرة، إلا أن التقرير الطبي الذي نشره الطبيب النفسي «آلان أر هيرش»، والذي أشار له نفس التحقيق، يلمس نقطة في غاية الصدق، حيث يقول:

فالنوستالجيا لدى دكتور «آلان» هي حالة استدعاء عاطفي للذكريات السعيدة، يلجأ لها الإنسان عادة عندما تحاصره ضغوط حاضره. وهذا التفسير تحديدًا يُذكِّرنا بتجاوب المصريين الهائل عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة مع «تحدي العشر سنوات»، خاصة جيل الشباب، والذي يعاني ضغوطًا متنوعة ضاغطة على جميعهم تقريبًا، بتفاوت أعمارهم.


النوستالجيا بديلًا عن الهزيمة

إن البشر يميلون للحنين لذكريات فترة طفولتهم؛ لخلوها من أسباب الكدر والمنغصات التي تحفل بها حياة الكبار… يعاني الإنسان الناضج في عمله، وحياته الاجتماعية، محاولًا الموازنة بين سعيه للترقّي ومحاولة نيل السعادة… تحاصره الضغوط من كل اتجاه؛ ليجد روحه تَنزع لتذكُّر تفاصيل حياته في الطفولة، عندما كانت أكبر مشاكله تتعلق بعدم وجود الآيس كريم المفضَّل له، أو أن فيلمه المفضل في ديزني قد فاته عند عرضه.

في كتابها «المبتسرون» تحدَّثت الكاتبة «أروى صالح» عن تجربة جيل الحركة الطلابية المصرية في سبعينيات القرن الماضي، والذي عانى من اندحار أحلامه السياسية والاجتماعية:

خصوصية المأساة عند جيل خاض تجربة التمرُّد، هي أنه مهما كان مصير كل واحد من أبنائه، سواء سار فى سكة السلامة، طريق التوبة والإذعان لقوة الأمر الواقع، وحتى إعلان الكفر بكل قيم التمرد القديم… أو سار فى طريق الندامة، الانهيار، واعتزال الحياة، والمرض النفسي… فإنه شاء أم أبى لا يعود أبداً نفس الشخص الذى قبل أن تبتليه غواية التمرد… لقد مسَّه الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دوماً ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، وخفة لا تكاد تُحتَمل لفرط جمالها، تبقى مؤرِّقة كالضمير، وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة… والفاعلية مؤلمة.

لسخرية القدر الذي يُحتِّم علينا أن نعايش التاريخ وهو يعيد نفسه؛ تصلح هذه الفقرة في وصف حال جيل الشباب المصريين الذي عاصر ثورة يناير… تفتَّح وعيه معها… آمن بأحلامها… حتى كاد يتوحد معها بكل كيانه، ثم تحتَّم عليه أن ينهار مع انهيارها واندحارها.

«جيل الهزيمة» الحالي من الشباب المصري يعاني معاناة مَن ذاق الحرية، ويُطلب منه الآن أن يعود للقُمقم القديم إياه من جديد، أن يتناسى تلك اللذة الجُهنمية التي استطعمها، وأن يدفن نفسه في محاولة النجاة الفردية، بدلًا من البحث عن حل جماعي يسعى لأن ينقذ الجميع.

كان من الطبيعي أن ينجرف هذا الجيل للانغراس في النوستالجيا يومًا بعد يوم، يجتر ذكريات الأيام الخوالي، التي يعلم أنها مضت ولن تعود قريبًا في الغالب، وربما لن يعيشها مرة أخرى أبدًا.

وهكذا، وجدوا في تحدي العشر سنوات ملاذًا جديدًا لتأمل ما مضى من أيام الحرية، ومطالعة صورهم خلال تلك الفترة، مندهشين من التبدُّل السريع في الأحوال من حولهم، ومن تبدُّلهم هم أنفسهم؛ فالتغير الذي طرأ عليهم من الداخل، عبر السنوات العشر الأخيرة، يزداد أضعافًا عن التغيُّر الشكلي في ملامحهم.

لقد وجدوا فيه أكثر من مجرد «تريند» كغيره من الموضات التي تنتشر وتندثر عبر السوشيال ميديا كل فترة؛ لقد كانت فرصة لمطالعة ذواتنا وتبدلها بين أيام الحرية، وأيام «أكل العيش».