في قلب العاصمة الرواندية كيغالي، عاشت «ماري جوزيه» أياماً صعبة، كانت تسكن قرب الحدود عندما تمت مهاجمة أسرتها، لقد قُتل زوجها وضُرب ابنها على رأسه، وما زال إلى الآن تلم به نوبات صرع وصراخ، كلما تذكر هول ما حدث.

في كيغالي،أجمل مدينة بأفريقيا لعام 2015، تبدأ شعلة «التذكر» القائمة بمركز ايبوكا بالاشتعال بداية من السابع من أبريل/نيسان ولمدة مائة يوم من كل عام.

إيبوكا بالرواندية،تعني التذكر، وهي كلمة محورية في بلد يتوقف مستقبله على ماضيه، نار تلك الشعلة تُذكّر الشعبُ بما حدث في رواندا لمدة مائة يوم متواصلة منذ 23 عاماً، مائة يوم من العنف والقتل، مائة يوم من الاغتصاب وإراقة الدماء، مائة يوم طمس فيها العالم أعينه وصمّ آذانه في الوقت الذي حصدت فيه آلة الإبادة الجماعية أرواح مليون إنسان من قبيلة التوتسي ومن ساندهم من قبيلة الهوتو المعتدلين.

كل شبر كان ساحة للقتل، حتى الكنائس تحولت إلى مقابر جماعية ومتاحف للإبادة، تقول السيدة «سيرافينا» المشرفة على كنيسة يامتا، أن أحدًا لم ينج في هذا المكان سوى تمثال السيدة العذراء، إلا أن وجهها لم يسلم من عبث الميليشيات، يبدو أن القتلة قد رأوا في وجهها الجميل قبح صنيعهم فآثروا أن يشوهوه.


الشرارة

في صبيحة الرابع من أبريل/نيسان 1994، ولمدة مائة يوم، بدأت ميليشيات قبيلة الهوتو، التي تشكل 84% من السكان، حملة تطهير عرقية واسعة لقبيلة التوتسي التي تشكل 15% من السكان.

«اتسيين»، وهو أحد المشاركين في حرب الإبادة، فور سماعه بأن التوتسي أسقطوا طائرة الرئيس، انتفض من مكانه مباشرة، استل سلاحه الأبيض وخرج إلى قارعة الطريق يلاحق كل من يجدهم من التوتسي ليقتلهم، لاذ التوتسي بالفرار إلى الجبال والغابات في ليلة اشتد مطرها، يبدو أن الطبيعة تحالفت مع الهوتو ضدهم. وبينما يلاحق اتسيين جيرانه من التوتسي، جرت طفلة صغيرة نحوه، تلوح بيدها مستنجدة به من آخرين يريدون قتلها إلا أنها لم تجد منه إلا ضربة بالسكين فماتت في الحال.

كانت إبادة جماعية بكل ما تحمله الكلمة من معني، حاول الهوتو محو واستئصال التوتسي بالكامل، صغيرهم قبل كبيرهم، لم يكن «اتسيين» يقتل الطفلة، وإنما كان يقتل هويتها كتوتسية في المقام الأول.

«ايمانويل»،مشارك آخر في الإبادة، في اليوم الأول قتل أربعة شعر فرداً، وفي اليوم الثاني قتل ثلاثة، أما في اليوم الثالث فقد قتل واحداً، وقطع يد إحدى جاراته وضربها بجوار أذنها ثم تركها لأنه اعتقد أنه قضى عليها، أما طفلتها فقد تكفل بقتلها من كانوا معه.

«مادينا»، في منتصف عقدها الثاني، كان عمرها ست سنوات عندما رأت الميليشيات تقتل والدتها، أما أخوها الصغير فقد أمسكوا به من رجليه وقلبوه للأسفل ثم قطعوا رأسه بالساطور!

لم تشتعل نيران الإبادة بين عشية وضحاها، وإنما يقف وراءها تاريخ طويل من التفرقة العنصرية التي أسس لها المستعمر من جهة، والتحريض الذي مارسته وسائل الإعلام من جهة أخرى.


ماذا فعل المستعمر البلجيكي؟

في دولة يعيش أفرادها في تناغم تام، ويتحدثون لغة واحدة ولا يمكن التمييز بينهم إلا من خلال المستوى الاقتصادي، فمن يعمل بالزراعة هم الهوتو، ومن يعمل بتربية الأبقار هم التوتسي، كان لابد للاستعمار البلجيكي أن يستعمل آلية فرق تسد حتى يستطيع أن يحكم قبضته على ثروات البلاد.

بعدما عجز البلجيك عن التفرقة بين الروانديين على الصعيد اللغوي والثقافي والديني، اختلقوا أساساً لتلك التفرقة وهو الشكل!

انتشر البلجيك في أرجاء رواندا حاملين أدوات الوزن والقياس، يزنون الروانديين، ويقيسون حجم تجويف الجمجمة وطول الأنف، وقد أثبتوا زوراً أن للتوتسي مواصفات أكثر نبلاً وأرستقراطية من الهوتو، وأن الهوتو أقرب في صفاتهم إلى الحيوانات، من هنا رسّخ المستعمر للتفرقة بين الشعب الرواندي على أساس مختلق لا وجود له.

وأصدر المستعمر عام 1933 بطاقات هوية لتحديد الانتماء العرقي لكل مواطن مانعاً بذلك إمكانية تحول الهوتو لتوتسي والعكس، فكما سبق أن أوضحنا أن أساس التفرقة بينهم كان اقتصادي.فتاريخياً من يمتلك أكثر من 10 بقرات كان يطلق عليه توتسي، وأقل من ذلك هوتو، ومن لا يمتلك شيئاً على الاطلاق يعتبر توا. ومن ثم كان هناك إمكانية التحول من قبيلة إلى أخرى بامتلاك أو فقدان عدد معين من الأبقار، إلا أن إصدار بطاقات الهوية تلك، منع ذلك للأبد.

بدأ القساوسة البلجيك في تأليب الهوتو على التوتسي، وشجعوا الهوتو على المطالبة بحقوقهم السياسية، إلى أن قامت ثورة 1959، انتفض الهوتو وقاموا بمهاجمة التوتسي، حرقوا منازلهم، واستولوا على مكاتبهم، وهجّروا حوالي 20 ألفًا من التوتسي خارج البلاد، وعُقدت انتخابات هزلية، لم يشارك فيها إلا الهوتو وتولى الرئيس كايباندا حكم رواندا، وهو أول رئيس مدني منتخب ينتمي لقبيلة الهوتو.

نجح الاستعمار إذن في وضع أسس التفرقة العنصرية بين الروانديين، ليأتي إعلام الشر بعد ذلك ليرسخ خطاب الكراهية ويؤصله، وليعزف على وتر العنصرية ليل نهار إلى أن أدى ذلك إلى اشتعال فتيل الإبادة عام 1994.


فصل جديد من التفرقة العنصرية

أعطني إعلاماً بلا ضمير، أعطيك شعباً بلا وعي.

بهذه الكلمات البسيطة لوجزيف غوبلز وزير إعلام هتلر يمكننا تلخيص الدور الذي قام به الإعلام الرواندي قبيل الإبادة الجماعية.

ففي بيئات الفقر والجهل يلعب الإعلام الدور الأكبر في تشكيل وعي المواطنين، بل وربما تصوراتهم عن الحياة ورؤيتهم لأنفسهم وللوجود من حولهم، خاصة وإن كانت الدولة تدعم هذا الإعلام وتموله.

عمل إعلام الإبادة متمثلاً في جريدة «كانيماتيكا» وإذاعة «الألف تلة» على دس السم في العسل وتقديمه للروانديين لقمة سائغة لا يستطيعون تمييز غثها من ثمينها، فقد بث الإعلام خطاب الكراهية ضمن مجموعة من البرامج الثقافية والرياضية التي جذبت جل الشعب الرواندي، وحققت انتشاراً واسعاً بين فئات عريضة من الروانديين، حتى تشربوا الكراهية وتجرعوا العنصرية دون وعي منهم.

يقول «ايمانويل» في هذا الصدد: «تحت هذا التحريض أخذت سيفي وانضممت للميليشيات في الحال». أما «اتسيين» لم يشعر بالغضب أو الحرج حين قتل الطفلة، وفى رأيه أن سبب ذلك هو سماعه للأغاني التي كانت تحرض على قتل التوتسي ليل نهار دون انقطاع.

باع الصحفيون أنفسهم للدولة وكبار رجال الأعمال ممن يحرضون على الإبادة، كان من بين هؤلاء «حسن انجيزي»، صحفي موهوب، كتب الوصايا العشر للهوتو، تضمنت هذه الوصايا أن الهوتو الصالحين لا يجب أن يتكلموا ولا يعاشروا ولا يصادقوا ولا يثقوا بالتوتسي.

صوّر «انجيزي» التوتسي في شكل ثعابين برأس بشر، وزوّد مقالاته بصور أخرى للسلاح الأبيض كالسواطير والخناجر وأدوات الزراعة كالفؤوس والمناجل، في إشارة منه إلى أن التوتسي ما هم إلا ثعابين يجب القضاء عليهم، بل إنهم حشرات يجب دهسهم بالأقدام.

استمر الإعلام يعبئ الهوتو، إلى أن سقطت طائرة الرئيس في ليلة السادس من أبريل/نيسان عام 1994، ها قد حانت ساعة الصفر،ونادت إذاعة «الألف تلة» في الهوتو، حي على القتال فقد اُغتيل رئيسكم على يد «الصراصير»، في هذا الصدد يقول إيمانويل متابعًا حديثه:

حقيقة لقد تحولت إلى رجل وحشي، كان جيراني بين من قتلتهم رغم أنه كانت تجمعنا علاقة طيبة، كل هذا بسبب الدعاية السيئة من قبل الحكومة السابقة.

بينما حمي الوطيس، واشتد الفتك بالتوتسي، استمرت إذاعة «الألف تلة» تنادي الميليشيات وتقول:


خسائر الإبادة

دعونا نفرح أيها الأصدقاء، فالصراصير ليسوا كثيرين، دعونا نفرح إن الله رحيم.

سكت هذا الصوت فجأة، لقد قامت الجبهة الوطنية الرواندية بقصف مقر إذاعة الألف تلة.

سيطر «بول كغامي»، الرئيس الحالي وقائد الجبهة الوطنية – التي تكونت من حوالي 4 آلاف مقاتل معظمهم من التوتسي الذين تربوا في المنفى – على البلاد في يوليو/تموز 1994، ليُنهي بذلك فصلاً دامياً من تاريخ رواندا الحديث. انتهت الإبادة،مُخلّفة وراءها نساء أرامل وأطفالاً أيتام وشوارع مليئة بالجثث، خلال مائة يوم قُتل حوالي مليون إنسان، بمعدل 415 فردًا في الساعة الواحدة.

لم تكتف الميليشيات بقتل التوتسي، ولكنهم اغتصبوا حوالي 500 ألف امرأة، نتج عن عمليات الاغتصاب تلك حوالي 20 ألف طفل، وتعرّضت 67% من النساء المغتصبات للإصابة بالإيدز.

رواندا الآن مختلفة عن رواندا الإبادة، نمر اقتصادي إفريقي صاعد، شعب يسعي لمحو الضغائن وبناء الوطن، مدن منظمة ونظيفة، وشباب يسعون لبناء مستقبل أفضل. فقد سجلت رواندا في يوليو/تموز الماضي أعلى معدلات للنمو في العالم منذ 2005 بنسبة تصل إلى 7.5 في المتوسط، وفقاً لمنظمة الكوميسا. في ظل السير نحو المستقبل وجب التذكير بالماضي، فنحن نؤمن أن الذاكرة أداة مهمة في الانطلاق نحو غد واعد، والخوف من تكرار ما وقع في الماضي يساعد في تجنب حدوثه في المستقبل.