ربما كانت بداية الرحلة مع الحكمة، رغبة الإنسان الصادقة في الوصول إلى إجابة لكل شيء، من خلق الكون؟ كيف خُلق الكون؟ كيف ظهر الإنسان؟ رغبة صادقة في البحث عن السبب، عن العلة الأولى لكل شيء، رغبة تنبع من صميم العقل البشري الذي لا يقنع إلا بالحكمة والتساؤل الدائم والجدل كما كان سقراط وكما وجدنا أنفسنا من بعده.

نولد بعقولنا ونصطدم بالصراعات القائمة والمفاهيم المرساة حولنا، التطور والخلق. هل التطور هو أصل الأشياء أم أن الله قد خلقها من العدم مباشرة، هل خلقها ليطورها؟ أم أنه لم يتدخل في الخلق في شيء، لا نزال نتساءل وننتصر للمنطق والحق على ما نراه خطأ، العقل ملكة غريبة، به ظهرت الفلسفة، وبه أُنتِج العلم، وبه أيضا وضعنا قواعد الإيمان الذي نعيشه، وبه -مع شديد الألم- نخلط بين الثلاثة بلا وعي فنستخلص من الفلسفة وقواعد الإيمان شروطا أو آليات للعلم، وهو الخطأ الأكبر الذي نناقش به دائما نظرية علمية كالتصميم الذكي.


العلم بين الشك والإيمان

يقول الفيلسوف النمساوي لودفيج فتجنشتاين:

إن القضية التي تقول أن فعلا ما سببه كذا وكذا، هي مجرد افتراض، والفرض يكون قائمًا على أساس قوي إذا كان لدىالإنسان عدد كبير من الخبرات المؤيدة، إلا أن هذا الافتراض لا يمكن أن يكون صحيحًا أو ضروريًا بشكل أوّلي -أي بشكل مستقل عن الخبرات المؤيدة-لأننا افترضناه بناءً على ما عرفناه من تجاربنا، ولأن الضرورة لا تكون صحيحة إلا في المنطق.

عند دراسة نظرية علمية ما؛ يتوقف الباحث أمام مجموعة من التساؤلات حول طبيعة هذه النظرية وطبيعة عصرها ومدى تأثرها بالمفاهيم السائدة فيه، ثم مدى قدرتها على ترجمة الكون على حقيقته، ومن هنا كانت تأملات فتجنشتاين حول اللا حتمية.

فهو يرى أن الضروريات والحقائق المسلم بها في تفسير الكون لا يجب الاستناد عليها بشكل أعمى؛ فهي لا تعدو كونها فرضيات مستندة على مجموعة من تجارب وخبرات عصرها. وكأي نظرية تهتم بتفسير الكون تقدم نظرية الخلق أو التصميم تفسيرا قد يجده البعض مرضيا لذوقهم الجمالي أو لشعورهم الديني. ولكننا نرى أن هذا التفسير لا يخرج عن إطار تأملات فاتجنشتين والتي تؤكد أنه -كأي تفسير آخر- ابن بيئته الثقافية والاجتماعية القاصرة عن النفاذ إلى حقائق أكثر تعقيدا عن بنية الكون.

ومن هنا جاز لنا أن نبدأ رحلتنا إلى التصميم الذكي لا بتتبع انتقادات الخلقيين أو داعمي التصميم الذكي لنظرية التطور فحسب، بل بتتبع موجز للأفكار المؤسسة لمفهوم الخلق، والتي تشكل الدافع الرئيسي لانتقاداتهم للتطور، هذه الجذور التي شكلت أساسا لتفسير الغرب من بعد الشرق لنشأة الحياة عامةً والإنسان خاصةً على هذا الكوكب قبل أن يقدم دارون كتابه الأشهر عن أصل الأنواع.

عند تأمل نظرية الخلق فالبحث دائما يبدأ من المدينتين الأشهر للعالم القديم، أثينا والقدس، أثينا حيث فلاسفة اليونان القدماء سقراط وأفلاطون وأرسطو، والقدس حيث الأساطير العبرانية للتوراة حول خلق الإنسان. تلك الأساطير التي شكلت محور حجج أعمدة الفكر الديني المسيحي في القرون الوسطى توما الأكويني وأوجستين.


أثينا: مهد العقل

قام الفكر الغربي مع إرهاصات عصر النهضة على استعادة أمجاد اليونانيين سواءً بالعودة للأصول اليونانية وترجمتها أو بإنتاج أعمالٍ فنية تحاكيها، ومن هنا تعزز دور العنصر اليوناني في تشكيل العقل الغربي فلم يعد قاصرا على قراءات المدرسيين لأرسطو وتأثر اللاهوت بأفلاطون وتلميذه أفلوطين. بل استعادت الفلسفة اليونانية الأصيلة دورها كالمايسترو الملهم للمفكرين الغربيين.

كان أفلاطون هو أول من استفاد مفكرو عصر النهضة من تأملاته في عصرهم الذي كان مليئا بالتطلعات للمثل والفن. ومن أشهر مؤلفات هذا الفيلسوف العملاق هي محاورة فيدون، وفيها يقدم أفلاطون دليلين فلسفيين لتأسيس فكرة الخلق وهما دليل التعقيد ودليل الصانع. دليل التعقيد الأول يتحدث عن أن لكل عضو في الجسد وظيفة، ولا يمكن أن نفهم وجود هذا العضو إلا من خلال فهم وظيفته.

فلو ضربنا مثالا بالعين: هي عضو له وظيفة واضحة هي الرؤية ولا يمكن فهم وجودها إلا وفقا لهذه الوظيفة. وكذلك رموش العين فوظيفتها حماية العين. وهكذا فالحياة تبدو في تصور أفلاطون مليئة بالتعقيد. وهذه هي النتيجة التي استخدمها أفلاطون في دليله الثاني على الخلق وهو دليل التصميم.

قبل أن نمضي مع دليل أفلاطون الثاني علينا أن نذكر جماعة من الفلاسفة اليونانيين اصطلح على تسميتهم بالذريين من أمثال ديموقريطس وهم مجموعة من الفلاسفة اعتقدوا أن الكون يتكون من ذرات متناهية في الصغر، هذه الذرات لا تتجزأ إلى ما هو أصغر منها، مؤلفةً بذلك اللبنات الأولية لكل شكل من أشكال الحياة. حيث تقوم هذه الذرات بالحركة المستمرة في الفراغ لتشكل الحياة المعقدة بشكل عشوائي بحت بلا أي خطة مسبقة، فالحياة في نظرهم صدفة لا وجود فيها لخالق منظم مخطط لها.

نعود إلى أفلاطون في الجهة الأخرى من جديد حيث يبني على نتيجته السابقة عن تعقد الحياة إلى دليله الثاني الذي يرد فيه على ديموقريطس وأصدقائه الذريين حيث يؤكد ضرورة وجود مصمم لهذا التعقيد فلا يمكن – في نظر أفلاطون ـــ أن يقوم مثل هذا التعقيد بصدفة بحتة كما ذهب الذريون، بل هو دليل على وجود صانع لهذه الحياة قام بخلقها.

تابع أرسطو تأملات أستاذه أفلاطون السابقة وفي خضم حديثه عن الهيولي والنفس أكد أرسطو على دليل التعقيد، حيث أن لكل شيء وظيفة يسعى لتحقيقها، ومن ضمن هذه الأشياء هي الأعضاء الحية في الإنسان والحيوان، وهو ما يؤكد تعقد الكون. أما فيما يخص الصنع، فقد ذهب أرسطو إلى الإيمان بالمحرك الذي لا يتحرك وهو إله خلق الكون ووضع فيه قوانينه -التي تسعى لتحقيق وظيفتها-. ولكنه –الإله- لا يفكر في الكون ولا في أحداثه و لا يعرف عنه شيئا، وبذلك فقد أكد بدوره على ضرورة وجود صانع للكون كما ذهب أستاذه من قبل.


القدس: روح الأسطورة الدينية

تمثل القدس (أورشليم) محطة أساسية في تكون النص الديني التوراتي الذي تبعه رجال اللاهوت المسيحي، حيث أكدوا على الأساطير الواردة في التوراة بنفس الصورة أو بصور مختلفة تحمل نفس الفكرة الأساسية.

ولكن في حقيقة الأمر سيصعب علينا أن نشير لأساطير دينية بعينها في حديثنا وذلك لأن الأسطورة الدينية عند تناولها مجردة -على العكس من الفلسفة – لا تحمل ذلك الطابع الاستدلالي المنطقي. لذلك فإننا سنكتفي بحديث موجز عن القديس توما الأكويني والقديس أوجستين، لأن الحديث عن أفكار رجال الدين يسهل فيه تتبع استدلالاتهم الفكرية، وهو ما يشغلنا هنا أكثر من تقرير نصوص أسطورة الخلق في العهد القديم.

تتفق رؤى توما الأكويني وأوجستين حول الخلق، فكلاهما – انطلاقا من تصوره للإله المسيحي ـــ يعتمد على دليل أفلاطون حول الصانع ليؤكد نصوص الكتاب المقدس. فيقول أوجستين: “بين كل ما هو مرئي، الكون هو الأعظم. وبين كل ما هو خفي، فالله هو الأعظم” ويبدو في ذلك إعجاب شديد بالكون وتعقيده وجماله وضرورة وجود خالق قام بتصميمه ويتابع قائلا:

لم يتردد كلاهما في استخدام دليل الصانع أو الدليل الكوني لإثبات وجود الله خالق الكون، ولكن الفارق الأساسي بينهما وبين أفلاطون وأرسطو أنهما يؤكدان -انطلاقا من النصوص الدينية- تفرد الإنسان بسيادة الكون. وهي حجة جديدة شكلت حاجزا كبيرا أمام الإنسان في بحثه العلمي، لأنهما أقحما قواعد الإيمان بالنص الديني في البحث والتجربة، وهو ما يشوش بشكل كبير على النتائج ويجبرها على مجاراة قواعد الإيمان بدلا من تحقيق حيادية تصل لأقرب تجسيد للطبيعة.


التصميم الذكي، نظرية في قبضة الماضي

لقد خلق الله الكون، ألا يجدر بنا أن نصدق ذلك؟ لقد قال ذلك الله نفسه في كتابه المقدس فقد قالت الرسل: في البدء خلق الله السماوات والأرض.

تتقدم نظرية التصميم الذكي بافتراضين أساسيين، التعقيد اللامختزل والتعقيد المتخصص في محاولة لنقد مفهوم تراكم الطفرات والاصطفاء الطبيعي في التطور. فتؤمن نظرية التصميم الذكي أن الحياة معقدة بشكل لا يمكن اختزاله إلى تدرج نظرية التطور الناتج عن الاختلافات في الصفات واصطفائها الطبيعي.

وحتى الطفرات الوراثية النافعة لا يمكن أن تنشأ بالشكل المتعارف عليه في علم الوراثة لأنها غير منطقية. وبدلا من تقديم آلية تجريبية لتدعيم هذا الفرض يتم اقحام ما يسمى بالمصمم الذكي intelligent designer كعامل محرك لعملية ترقي الكائنات، ومولد للطفرات الوراثية النافعة. ومن هنا، فبعيدا عن دعاوى العلمية، فإن نظرية التصميم الذكي لا تزال تحمل كمّا كبيرا من التطابق بين افتراضاتها الأولية وبين حجج أفلاطون وأوغسطين ودوافعهم المعتمدة على العقل المجرد أو الإيمان الديني.

لا يبدو أبدا أن الخلط بين العلم والتفكير الفلسفي أو الديني مرضيا لطموح الإنسان. فالإنسان لا يبحث فقط عن أصل كل شيء، بل يبحث عن كيفية حدوث الأشياء، كيف نتحكم في الطفرات و نفهمها بشكل كامل، كيف نوظفها في علاج السرطان، كيف نفهم المخ البشري ونجعله أكثر مناعة ضد الأمراض، لا يبدو أبدا عزو الطفرات والتطور إلى عامل خارجي كمصمم ذكي شيئا مجديا على أي صعيد علمي.

المراجع
  1. Darwin and Design Does Evolution Have a Purpose?, Michael Ruse