محتوى مترجم
المصدر
فورين بوليسي
التاريخ
2016/03/20
الكاتب
باراج خانا

شركة «أكسنتشر» كصورة أصلية للحلم الأمريكي.

للوهلة الأولى، تبدو قصة شركة «أكسنتشر» كصورة أصلية للحلم الأمريكي. إنها إحدى أكبر شركات الاستشارات في العالم، والتي تتحكم في عشرات مليارات الدولارات من العائدات السنوية، وقد أنشئت في الخمسينيات كفرع صغير لشركة المحاسبة «آرثر أندرسن». وتمثل أول مشروعاتها الضخمة في تقديم الاستشارة لشركة «جنرال إلكتريك» بتنصيب حاسوب بمنشأة «كنتاكي»، بهدف أتمتة عملية الدفع. أتبع ذلك عقود عديدة من النمو، وبحلول عام 1989، كان القسم ناجحًا بالدرجة الكافية ليصبح مؤسسة مستقلة، والتي حملت اسم «آندرسن كونسالتنج».

ولكن عند إلقاء نظرة أعمق على الشركة، نرى أنها قد انحرفت عن المسار الأمريكي. ولا يعود ذلك إلى تدشينها لأفرع خارج الولايات المتحدة، في المكسيك، اليابان، ودول أخرى؛ فالتوسع الدولي يعد ضمن سمات العديد من الشركات الأمريكية. ولكن الشركة تطلعت إلى المزيد من المزايا – ضرائب أقل، عمالة أرخص، وعدد أقل من القوانين المرهقة – خارج الحدود الأمريكية وأجرت إعادة هيكلة داخلية بهدف الاستفادة من تلك المزايا.

يتوزع حوالي 373,000 موظف تابعين لشركة «أكسنتشر» في أنحاء أكثر من 200 مدينة، في 55 دولة.

وبحلول العام 2001، بعدما أعلنت تغيير اسمها إلى «أكسنتشر»، تحولت الشركة لتصبح عبارة عن شبكة من الأفرع، يتم التنسيق فيما بينها، مع عدد أقل من الضوابط، عن طريق شركة سويسرية قابضة. فتم تأسيسها في جزر برمودا وظلت هناك حتى العام 2009، ثم انتقلت إلى أيرلندا، التي تميزت هي الأخرى بانخفاض الضرائب. واليوم، يتوزع حوالي 373,000 موظف تابعين للشركة في أنحاء أكثر من 200 مدينة، في 55 دولة.

ينتقل المستشارون لأداء المهام التي يكلفون بها في مواقع مختلفة، ولكنهم عادة ما يرسلون تقاريرهم إلى المراكز الإقليمية، مثل براج ودبي، حيث تنخفض معدلات الضرائب. ولتجنب الإزعاج المتعلق بأوضاع إقامة هؤلاء المستشارين، يضمن قسم الموارد البشرية بالشركة عدم قضاء الموظفين للكثير من الوقت بمواقع مشاريعهم.

إنه عصر الشركات «فوق القومية».

إنه عصر الشركات «فوق القومية» (metanationals)؛ فالشركات العاملة على غرار «أكسنتشر» تعد عديمة الجنسية بشكل حقيقي. عندما صاغ خبراء الأعمال والإستراتيجية، إيفيز دوز، خوسيه سانتوس، وبيتر ويليامسون، ذلك المصطلح في كتاب صدر عام 2001، مثلت الشركات فوق القومية ظاهرة ناشئة، وانحراف عن تقليد الشركات التي تعتز بجذورها الوطنية. (في الخمسينيات، قال رئيس شركة «جنرال موتورز»، تشارلز ويلسون، جملته الشهيرة: «ما صبّ في مصلحة بلدنا صب في مصلحة «جنرال موتورز»، والعكس صحيح»). واليوم، أصبح فصل شرايين حياة الدولة شأنًا من شؤون «البيزنس»، مثلما سرت العادة.

تختار شركات، إكسون موبيل، يونيليفر، بلاك روك، إتش إس بي سي، دي إتش إل، وفيزا – مواقع إقامة أفرادها، مصانعها، أجنحتها التنفيذية، وحساباتها البنكية بناءً على توافر القوانين الأقل صرامة، توافر الموارد، وسلاسة الاتصال. عادة ما تؤسس الشركات فوق القومية ذات القيادة الذكية مقرًا قانونيًا في إحدى الدول، وإدارة الشركة في دولة أخرى، وتمركز أصولها المالية في دولة ثالثة، بينما ينتشر طاقم موظفيها الإداريين في عدة دول أخرى.

تحصل بعض أكبر الشركات أمريكية الأصل على تريليونات الدولارات المعفاة من الضرائب في خارج الولايات المتحدة.

تحصل بعض أكبر الشركات أمريكية الأصل – مثل جي إي، آي بي إم، ومايكروسوفت – بشكل جماعي على تريليونات الدولارات المعفاة من الضرائب في خارج الولايات المتحدة عبر دفع العائدات من الأسواق الخارجية إلى شركات قابضة مقامة بسويسرا، لوكسمبورج، جزر كايمان، أو سنغافورة. وفي توضيح لطيف للتوترات التي يخلقها هذا التوجه لدى بعض صناع القرار السياسي، أطلق بعض المراقبين على هذه الأموال اسم «الدخل عديم الجنسية»، بينما أطلق الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، على الشركات التي تكتنز تلك الأموال اسم «الفارون من الشركات» الأمريكية.

بالتأكيد لا يعد الأمر مفاجأة أن تجد الشركات وسائل جديدة للعمل وفق ما تقتضيه مصلحتها الخاصة، بل يعد مفاجأة أن تفعل عكس ذلك. إلا أن صعود ذلك النوع من الشركات لا يمثل مجرد وسيلة جديدة لجمع الأموال، بل يؤدي أيضًا إلى زعزعة تعريف «القوة العظمى العالمية».

عادة ما يركز النقاش بشأن ذلك المصطلح على الدول – كما الحال عندما نسأل: هل تستطيع أي دولة أن تنافس المكانة والنفوذ الأمريكيين؟. في يونيو 2015، أجرى مركز أبحاث «بيو» استطلاعًا للرأي على مستوى 40 دولة، وتوصل إلى أن متوسط 48 بالمئة من المشاركين يظنون أن الصين قد تفوقت، أو ستتفوق، على الولايات المتحدة كقوة عالمية، بينما قال 35 بالمئة إنها لن تحقق ذلك أبدًا. إلا أن مركز «بيو» ربما قد يسعى إلى توسيع نطاق أبحاثه – ليشمل الشركات التي من المرجح أن يفوق نفوذها نفوذ جميع الدول.

تتجاوز قيمة الأموال الواقعة تحت تصرف شركة «آبل» قيمة إجمالي الناتج المحلي لثلثي دول العالم.

تتجاوز قيمة الأموال الواقعة تحت تصرف شركة «آبل» قيمة إجمالي الناتج المحلي لثلثي دول العالم. كما تحقق الشركات بعض الانتصارات في مواجهتها مع الجهات التنظيمية الحكومية ضمن لعبة تشبه المطاردة الدائمة بين القط والفأر. فبعد الأزمة المالية عام 2008، مرر الكونجرس الأمريكي قانون “دود فرانك” لصد البنوك عن النمو بشكل مفرط ومعرَض للكوارث. إلا أنها بينما سحق القانون بعض المؤسسات المالية الأصغر، نما حجم البنوك الأكبر، التي تمتد عملياتها إلى دول عديدة، حيث تجمع المزيد من رأس المال وتُقرض قدرًا أقل من الأموال.

واليوم، لا تزال البنوك العشر الأكبر متحكمة في حوالي 50 بالمئة من الأصول الخاضعة للإدارة حول العالم. وفي تلك الأثناء، يضغط بعض المسؤولين بالاتحاد الأوروبي، ومنهم مفوضة شؤون المنافسة، مارجريت فيستاجر، من أجل التوصل إلى سياسة لقاعدة ضريبية مشتركة بين الدول الأعضاء لمنع الشركات من الاستفادة من الفروق في معدلات الضرائب. ولكن إن حدث ذلك (وهو أمر شرطي إلى حد كبير)، ستتطلع الشركات إلى خارج حدود القارة الأوروبية بحثًا عن فرص توسع للشركات فوق القومية.

يدخل العالم حقبة يكون فيها القانون الأكثر قوة ليس قانون الدولة ذات السيادة، بل قانون العرض والطلب. فكما علق الباحث بجامعة ديوك، جاري جيريفي، تتضمن عملية التجرد من الجنسية حاليًا شركات تجمع سعات مختلف المواقع ضمن سلاسل القيمة العالمية الخاصة بها. وقد تمخض ذلك عن نجاح شركات، مثل شركة تجارة السلع «جلينكور»، وشركة الخدمات اللوجستية «آرشر دانييلز ميدلاند»، واللتان لا تركزان بشكل رئيسي على تصنيع السلع، ولكنهما خبيرتان في الحصول على المكونات المادية التي قد تحتاجها الشركات فوق القومية في أي مكان.

ربما تنتقل الشركات الإلكترونية مع عملياتها بالكامل إلى الساحة الرقمية.

هل تتقدم الأعمال خطوة أخرى، لتتحول من انعدام الجنسية إلى الافتراضية؟، يعتقد البعض ذلك بالفعل. ففي عام 2013، قال بلاجي سرينيفاسان، وهو حاليًا شريك بالشركة المغامرة برأس المال، «آندرسن هورويت»، عبارات دار بشأنها الكثير من الجدل، والتي زعم من خلالها أن وادي السيليكون يصبح أكثر قوة من سوق الأوراق المالية الأمريكي والحكومة الأمريكية. كما وصف «الخروج النهائي لوادي السيليكون»، أو خلق «مجتمع متماسك، يكون في النهاية خارج الولايات المتحدة، ويخضع لإدارة تكنولوجية». وتكمن الفكرة في أنه بسبب تحول المجتمعات الاجتماعية على نحو متزايد إلى التواجد بشكل حصري عبر الإنترنت، ربما تنتقل الشركات الإلكترونية مع عملياتها بالكامل إلى الساحة الرقمية.

بقدر ما تبدو فكرة فرض الضرائب على الشركات فوق القومية، بناءً على موقع مقرها الرئيسي، الآن عتيقة للغاية، ربما يطوق الخروج الأخير الذي تحدث عنه سرينيفانسان الطوباوية التكنولوجية. إلا أنه إن استمرت الشركات عديمة الجنسية وفق قاعدة واحدة، فستكون أنه هناك دائمًا مكان آخر يمكنها الذهاب إليه لتجني المزيد من الأرباح، ولتخضع لإشراف أقل، ولتجد فرصًا أكثر.

وقد ساعد ذلك الاعتقاد الشركات الخفيفة، المحمولة، والذكية على التخلص من أصحابها الأصليين، بما في ذلك القوة العظمى المهيمنة في العالم. في ضوء ذلك، يبدو أن الشركات فوق القومية التي تنفصل عن القيود الأرضية للعالم، والتي تستخدم قوة سحابة الإنترنت، لم تعد بعيدة الاحتمال، بل ربما أصبحت حتمية.