واقعة نادرًا ما تتكرر ولم تُرَ في تاريخ مصر الحديث، أن تُقدم أم على قتل ابنها صاحب الخمس السنوات وتطبخ أجزاءً منه وتأكله. بالعودة إلى التاريخ المصري، نجد أن المصريين أكلوا أطفالهم ثلاث مرات مختلفة بسبب المجاعات، حتى إنه صار في إحدى المرات مألوفًا.

الشدة المستنصرية

في سنة 457 هجرية وبسبب نقصان مياه النيل، ونفاد المخازن السلطانية من الغلال وقعت مجاعة كبيرة ألمت بمصر، وتزايدت الأسعار حتى بيعت حبة القمح بدينار. وانعدم الأمن وكثرت أعمال السرقة وقطع الطرق حتى تعذر السير في الشوارع أو من منطقة إلى أخرى دون حماية. ومع الوقت انعدمت الغلال نهائيًّا، حتى إن امرأة من أرباب البيوت عرضت عقدًا لها قيمته ألف دينار على جماعة ليعطوها به دقيق، فأعطاها أحدهم مقدارًا قليلًا.

وبينما يحمله خدامها لقصرها تكاثر عليه الناس ونهبوه، فأقدمت على النهب منه مثلهم، ولم يبقَ لها إلا ملء يدها وعجنته وشوته، ووقفت به أعلى قصرها وصرخت «يا أهل القاهرة ادعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد الناس بأيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره حتى تقومت على هذه القرصة بألف دينار».

ثم تزايدت الأمور سوءًا حتى أكل الناس بعضهم. يقول المقريزي في كتابه «اتعاظ الحنفاء، الجزء الثاني»، إن بعض الناس كانوا يجلسون فوق سطح منازلهم بخطاطيف، فإذا مر أحدهم شالوه وضربوه بالأخشاب وشرَّحوا لحمه وأكلوه. وينقل الكاتب عن المؤرخ الشريف أبي عبد الله محمد الجواني أنه كان له جارة كانت في أفخادها حفر، وأخبرت أن أحدهم خطفها بسبب امتلاء جسدها وقيدها من يديها وقدميها وقطع أجزاء من جسدها، وأضرم الفحم وشوى اللحم وأكله. 

في نهاية المجاعة التي استمرت سبع سنوات أحضر المستنصر بالله الوالي وهدده وتوعده، وأقسم عليه إن لم يظهر الخبز في الأسواق لضرب رقبته. 

أخرج الوالي مجموعة من المحكوم عليهم بالإعدام وألبسهم ملابس نظيفة، وأمر بعقد مجلس كبير مع تجار الغلال والطحانين والخبازين، وخلال الاجتماع وجه كلمة لأحد المحكوم عليهم بالإعدام الجالسين: أما كفاك خنت السلطان واستوليت على مال الديوان، وأمر بضرب رقبته في الحال، وكرر الأمر مع بقيتهم. حتى تعهد التجار بإخراج ما لديهم من غلال وخبز، وأن يبيعوا رطلًا (يقارب نصف كيلوجرام) بدرهم، وبعدها انفرجت الأزمة.

الشدة الأيوبية

وفي سنة 596 هجرية في زمن العادل أبي بكر أيوب شقيق صلاح الدين، وقعت مجاعة عظيمة أخرى، حيث سعر أردب القمح -إن وجد حينها- وصل إلى 80 دينارًا. 

وهي فترة أكلت الناس فيها الكلاب والقطط، وبعد نفادها أكلت الأطفال. يقول المقريزي في كتابه «السلوك لمعرفة دول الملوك»: «وعدم القوت حتى أُكلت صغار البني آدم، فكان الأب يأكل ابنه مشويًّا أو مطبوخًا، وكذلك الأم».

ووجدت لحوم الأطفال مع الرجال والنساء متخفية في الأسواق والطرقات، وذكر المقريزي واقعة إلقاء القبض على 30 امرأة ارتكبن تلك الجريمة، وحكم عليهن بالإعدام حرقًا، لكن الأمر كان قد انتشر بين الناس إلى الحد الذي لم يُجدِ معه العقاب نفعًا، وصار الأمر مألوفًا، حتى إن أحدهم كان يدخل بيت جاره فيجد القدر على النار وينتظرها حتى تنزل ليأكل منها فيجد فيها لحم أطفال، وانتشر ذلك في بيوت الأكابر ووجد في الأسواق والطرقات، كما يقول المقريزي.

بعد الأطفال بدأ الناس يأكلون بعضهم بعضًا. القوي يأكل الضعيف، كما انتشر أكل الميتة حيث مات في فترة وجيزة 220 ألف إنسان.

كما انتشر أكل الأطباء، يقول المقريزي في كتابه «السلوك»، إن الطبيب إذا صار إلى دار المريض ذبحوه وأكلوه، وروى حكاية شخص «استدعى طبيبا فخاف منه الطبيب وصار معه على تخوف، فصار ذلك الشخص يكثر في الطريق من ذكر الله، حتى وصلا إلى الدار فإذا هي خربة، فارتاب الطبيب مما رأى، وبينما يريد الدخول خرج رجل من الخربة، وقال للرجل الذي أحضر الطبيب: مع هذا البطء وجئت لنا بصيد واحد؟ فارتاع الطبيب وفر على وجهه هاربًا».

وكان أهل القرى قد فنوا، حتى إن القرية التي كان فيها 500 شخص لم يبقَ فيها سوى اثنين أو ثلاثة، واستمرت المجاعة ثلاث سنوات متتالية.

ولأجل التغلب على الأزمة وزع السلطان الجوعى على الأمراء، كانوا يمدون الموائد أمام الجائعين ويأكلون منها، حتى إن بعضهم كان يسقط ميتًا بسبب كثرة الأكل. وقضى في المجاعة التي استمرت نحو 3 سنوات نحو 200 ألف إنسان، حتى إنه لما جرى النيل لم يوجد فلاح يزرع، فتولى الجند أمور الحرث والزراعة.

مجاعة زمن السلطان العادل كتبغا

في سنة 695 هجرية وفي زمن السلطان العادل كتبغا، ضربت منطقة الشرق الأوسط موجة حارة تسببت في جفاف الآبار وتوقف نهر النيل عن الزيادة، مما تسبب في مجاعة بمصر واليمن والحجاز والشام. في مصر انتهى الخبز من الأفران والحوانيت، حتى كان العجين إذا خرج من الفرن انتهبه الناس، واضطرت المخابز لتعيين حراس، ورغم ذلك لم يتوقف الأمر. 

يقول المقريزي في «إغاثة الأمة»: «فكان من الناس من يلقي نفسه على الخبز ليخطف منه ولا يبالي بما ينال رأسه وبدنه من الضرب لشدة ما نزله به من الجوع».

وانتشر الموت، فكان يموت في اليوم نحو 3 آلاف شخص، وصار لا يُحصر عددهم، بحيث ضاقت الأرض بهم وحُفرت لهم آبار دفنوا فيها، ولم تستوعب الآبار البقية، فامتلأت الشوارع والأسواق بجثثهم. 

ويتحدث المقريزي هنا أيضًا عن انتشار أكل لحوم البشر، خصوصًا الأطفال، «وكثر أكل لحوم بني آدم خصوصًا الأطفال، فكان يوجد الميت وعنده رأس الآدمي، ويُمسك بعضهم فيوجد معه كتف صغير أو فخذه أو شيء من لحمه».

ولأجل التغلب على الأزمة أمر السلطان بجمع الفقراء وذوي الحاجات،  وفرقهم على الأمراء فأرسل لكل أمير 100 فقير، فكان الأمراء يطعمونهم لحم البقر مثرودة في مرقة الخبز، ويُمد لهم سماط (مائدة) ويأكلون جميعًا، ومنهم من كان يعطي الفقراء رغيفًا وبعضهم كان يفرق الكعك وبعضهم يعطي رقاقًا. يقول المقريزي «فخفف ما بالناس من الفقر». 

أما فخر الدين الطنبغا المساحي، أحد الأعيان، فكان قد زرع 100 فدان فول، ولم يمنع أحدًا من الأكل منها شرط ألا يحمل معه خارج المزرعة، ولما جاء موعد الحصاد فوجئ فخر الدين بانتهاء الـ 100 فدان كاملة من الفول، حتى إن بعض الفلاحين كان يموت من كثرة أكل الفول. 

في نهاية الأزمة كان عدد من بقي في كل قرية تقريبا نحو 20 شخصًا. والفئة الوحيدة التي كانت استفادت من الأزمة هي الأطباء وأصحاب العطارات، يقول المقريزي: «كان العطار يبيع للمرضى في الشهر الواحد بـ 32 ألف درهم، وكان مكسب الطبيب في اليوم 100 درهم». 

المصريون والمجاعات 

يصل عدد المجاعات القاسية التي مرت بالمصريين إلى نحو 18 مجاعة، فغير المجاعات التي أكلوا فيها لحوم بشر، شهدت مصر طوال تاريخها مجاعات لا تقل في قساوتها عن السابقة، مثل المجاعة التي وقعت في سنة 415 هجرية، فارتفعت الأسعار حتى صار الخبز بدرهم، ويروي المقريزي أن من شدتها كان الجزار إذا ألقى بعظمة إلى كلب يهرع الرجل إليها فيبتلعها نيئة. 

وتجمع نحو ألفين من العبيد يريدون النهب، فركب لهم بدر الدولة وهو نافذ في عسكر السلاح، وأذن للعامة بأن يقتلوا من يتعرض لهم منهم. فلما جاء إليهم أخبروه أنهم لا يريدون النهب، ولكن الجوع يقتلهم، وأنهم اضطروا لأكل الكلاب تحت وطأته، فوعدهم بحل أزمتهم في اليوم التالي، غير أن هذا لم يحدث، فأخذوا في نهب البيوت وإضرام النيران فيها.

وفي زمن الدولة الإخشيدية سنة 338 هجرية حينما حدث غلاء في زمن إمارة أوتوجور بن الإخشيد بسبب نقص منسوب المياه، حيث منعوا إقامة صلاة الجمعة في الجامع العتيق بالفسطاط، ومنعوا الأمير أبا القاسم وأتوجو بن الإخشيد من صلاة العتمة، بأن تجمع المئات داخل المسجد لدرجة أن رجلًا وامرأة ماتوا من التدافع.

وفي سنة 341 هجرية وقع غلاء آخر بعدما كثرت الفئران في مصر، فثارت الرعية وكسروا منبر الجامع في مصر. إضافة إلى الغلاء الذي وقع في عهد الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة 736 هجرية، واضطر أصحاب الحوانيت لتعيين حراسات بسبب السرقات. وحُلت الأزمة بأن اتفق السلطان مع الأمراء أن يتحملوا نفقة العامة الجائعين شهرًا، وشهرًا يتحمله على نفقته الخاصة.