عندما تحارب الأمم فإنها لا تتحمل وطأة هذه الحرب إلا لإقرار السلام وفرضه على أعدائها الذين بادروها بالعدوان.. ويدفع الساعون إلى السلام، وإلى الاستقلال وتحرير الأرض ثمنًا باهظًا.. تجسد هذا فى الثمن الباهظ الذى تحملته مصر بمنتهى المرارة في هزيمة يونيو 67 التي حولها الجيش المصري إلى انتصار عظيم بفضل بطولات وملاحم وطنية.

لحظات صعبة عاشها هؤلاء الأبطال بعدما سطروا بطولات ستظل أجيال وأجيال تكتب عنها، ومنهم من وقع في الأسر ومنهم من تعرض للإصابة جراء قرار شجاع اتخذه لحظة الحرب لإنقاذ زملائه وبعض هؤلاء الأبطال كشف لـ«إضاءات» لحظات إنسانية صعبة مروا بها خلال تلك الحرب ولحظات أخرى امتلأت بالفرح عقب عودتهم إلى أسرهم حاملين راية النصر وتقليدهم نجمة الشرف.

أشرس معركة داخل سيناء

اللواء طيار أحمد لطفي هلال الذي نجح في إسقاط مقاتلة فانتوم بواسطة طائرته الهليكوبتر، كشف لـ«إضاءات» عن تفاصيل الساعات الأولى من حرب أكتوبر 73 والدور الذي قام به سلاح الهليكوبتر خلال الحرب ولحظة وقوعه في الأسر وعودته.

«كانت الساعة الثانية إلا خمس دقائق يوم 6 أكتوبر عام 1973، عندما تلقينا أوامر بأن هناك عملية ولم نكن نتخيل أنها الحرب لأننا فعلنا هذا الأمر عدة مرات من قبل، ضمن خطة الخداع الاستراتيجي للرئيس الراحل محمد أنور السادات، ولم نصدق الأمر إلا حينها عندما تلقينا أوامر بالتحليق فوق القناة لمسافة تصل إلى 70 كيلو مترًا داخل سيناء»، هكذا كشف اللواء طيار أحمد لطفي هلال لـ«إضاءات» اللحظات الأولى للحرب داخل سلاح الهليكوبتر المصري.

وأضاف: «بعد نجاح مهمتنا في إنزال فرق الصاعقة داخل سيناء فوجئت بمجموعة لوريات محملة بجنود إسرائيليين، لم يتخذ الأمر مني سوى ثوان معدودة حتى ضغطت على زر إطلاق الصواريخ وأصبت الجنود الإسرائيليين بـ8 صواريخ، وحين قررت العودة إلى قاعدتي الجوية وجدت الطيران الإسرائيلي كان في انتظاري وبدأت المناورة التي كان التعامل فيها وليد اللحظة فلم أتدرب من قبل على مثل هذا الموقف، وأسقطت طائرة تلو الأخرى إلى أن ضربت الطيران الإسرائيلي بـ64 صاروخًا في طلعة واحدة، تلك الواقعة كانت من أشرس المعارك التي خضتها في حرب 73.

ومن أصعب اللحظات التي عشتها في تلك الحرب هو بعد انتهائي من عملية ضرب مدرعة إسرائيلية على الأرض في سيناء بـ32 صاروخًا، وحينها أصيبت طائرتي برصاصات العدو حاولت العودة مرة أخرى لممر قناة السويس إلا أن إصابة طائرتي وظروف الطيران الليلي حالت دون وصولي إلى قاعدتي الجوية، وقتها شعرت أن الطائرة ستقع وأنا على متنها، مع استحالة اتخاذ قرار الهبوط الاضطراري بالطائرة وسط الإسرائيليين».

«مكنتش عارف أرجع إزاي والطيران الليلي من أصعب الأشياء بالنسبة لأي طيار، عديت البحيرات المُرة وهبطت اضطراريًا لأن طائرتي كانت على وشك السقوط، ووجدت نفسي في مطار فايد، وكانت تلك لحظة النجاة الأخيرة بالنسبة لي في الحرب».

نجمة الشرف العسكرية

وكشف اللواء طيار أحمد لطفي لـ«إضاءات» أنه حتى يوم 28 أكتوبر، «كانت مهمته ومجموعة من زملائه في سلاح الهليكوبتر، إجراء عدة طلعات ليلية تبدأ في الساعة 12 منتصف الليل في جبل الجلالة وعتاقة والزعفرانة وبورتوفيق، وكانت تلك الطلعات لحظات من الرعب لأنها كانت فوق مرتفعات وفي ظلام تام ووسط دخول وخروج طائرات العدو الإسرائيلي».

ووفقًا لروايته «هنا بدأت رحلة العذاب، ففي ذلك اليوم كانت هناك مركب إنزال إسرائيلية في فم الخليج وضرب الطيران الإسرائيلي عددًا من الطائرات المصرية، ومن ضمنها مقر قيادتي وسقطت في البحر الأحمر أنا وزملائي بعد إصابتنا وكانت المسافة بيننا وبين ميناء الأدبية جنوب سيناء 20 كم وكانت الضفة الشرقية هي الأقرب لنا واضطررنا للعوم نحو الضفة الشرقية حيث كانت تتمركز القوات الإسرائيلية».

«مقدرناش ننتظر في البحر وقررنا الصعود نحو الشاطئ، كانت من أصعب الليالي التي مرت عليّ في حياتي فقد كنت مصابًا وسط مياه تصل درجة حرارتها للتجمد وأمامي الأعداء وكنا عُزل، ووقعت في الأسر أنا ومجموعتي على يد الإسرائيليين ومن ثم احتجازنا في معتقل عتليت الإسرائيلي في حيفا لمدة شهرين فقد كانت من أصعب أيام حياتي».

«وكانت لنا عودة إلى أرضنا الحبيبة في يناير 1974، ضمن عملية صفقة تبادل الأسرى التي وقعها الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، لحظة عودتي إلى الوطن وتقليدي نجمة الشرف العسكرية، أنسياني ما فات وشعرت وقتها بالفخر والانتماء لأقوى جيوش الأرض، وقررت بعدها أن أكمل مسيرتي العسكرية في نقل خبراتي إلى أجيال جديدة من الطيارين وتعليمهم علوم وفنون الطيران والحرب، حتى لا تتوقف المسيرة عند جيل أكتوبر 73»، وفقًا للواء طيار أحمد لطفي هلال في تصريحات لـ«إضاءات».

أصغر طيار في الضربة الجوية

يروي اللواء طيار جاد الكريم نصر، لـ«إضاءات»، تفاصيل مشاركته في الضربة الجوية الأولى ضمن سرب الطائرات وكان وقتها قائد القوات الجوية الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، موضحًا «كنت محظوظًا لاختياري ضمن قوة طيران مكونة من 22 طائرة لشن الضربة الجوية الأولى».

وأَضاف «وفي يوم 6 أكتوبر كانت سني لم تتعد 19 عامًا، وكنت برتبة ملازم طيار، كأصغر طيار، فرحتي كانت شديدة جدًا، إحساس بالفخر أن تكون أول من يشارك في حرب لتحرير أرضك». «ومن ثم عبرنا القناة وكانت أغلب أهدافنا هي مواقع صواريخ الهوك، وكدنا نسمع صيحات الجنود تهلل وتكبر، ولدى عودتنا كان جنودنا عبروا أكثر من نصف القناة».

«وفي 8 أكتوبر، كانت لدي مهمة محددة وهي معاونة الجيش الثالث بضرب أهداف تعوق تقدمه في شرق القناة شمال السويس، وعندما حلقنا نحو الهدف لم نجد شيئًا وكان القرار وقتها عدم العودة إلا بتحقيق أهدافنا وأمرنا قائد التشكيل بالبحث عن أهداف أخرى في جبل أبو خشيب، وكان فيه أكبر مركز إعاقة وشوشرة لقوات العدو فقمنا بدكها بالصواريخ والقنابل، وتحول الجبل إلى كتلة نار مشتعلة، ولكن لدى عودتنا طاردتنا أربع طائرات فانتوم إسرائيلية تصوب صواريخها نحونا فتحولت السماء والجبال لكتلة نار واحدة مشتعلة».

معجزة إلهية

إحدى طائرات الفانتوم الإسرائيلية اشتبكت مع الملازم طيار جاد الكريم وقتها، وأسقطت طائرته على ارتفاع 30 مترًا وكانت طائرته مقلوبة وسرعته عالية وبكل المقاييس المنطقية واللامنطقية كانت نجاته شبه مستحيلة وأبلغ زملاءه في السرب عن استشهاده كون طائرته تحولت إلى كتلة نار، «العناية الإلهية أنقذتني فقد تحولت طائرتي إلى كتلة نار مشتعلة ومن ثم ضغطت على زر الكرسي القاذف للخروج من الطائرة، ولم أدرك شيئًا بعدها سوى أني وجدت نفسي على الأرض غارقًا في دمائي ووجدت البارشوت بجواري وتيقنت وقتها أن عناية الله كانت تحرسني».

«بعملية حسابية بسيطة قدرت المسافة للعودة إلى القناة، فكانت الرحلة تستغرق يومين سيرًا على الأقدام، وسلكت طرقًا ودروبًا غير ممهدة بعيدًا عن خط سير الإسرائيليين، واحتميت بالطبيعة للنجاة من الأسر أو القتل على يد الجنود الإسرائيليين الذي كانوا حولي في كل مكان».

«كان أملي يزيد ساعة بعد ساعة حتى رأيت القناة بعد رحلة سير على الأقدام امتدت 38 ساعة، كانت مؤني الوحيدة في هذه الرحلة كيس مياه مخلوط بالدماء، وحينما رآني الجنود المصريون كادوا يقتلونني لولا أن صرخت «أنا مصري أنا مصري»، وعندما تحققوا من هويتي حملوني نحو قاعدة طبية لتلقي الإسعافات الأولية وحينها رأيت المشير أحمد بدوي قائد الفرقة الرابعة وقتها».

وأضاف اللواء جاد «لقائي بالمشير بدوي أثلج صدري وشعرت وقتها بقيمة ما بذلته، والذي بدوره أمر بنقلي على دبابته وحملني نحو الضفة الثانية وتم نقلي إلى مستشفى القوات الجوية».

لقاء مع جيهان السادات

«شعوري بالامتنان لم ينقطع يومًا، فقد كان كل يوم يمر يمنحني ربي عطايا ربانية، لقائي الأول بالسيدة الأولى الراحلة جيهان السادات أثناء تلقي العلاج في المستشفى، التي أبدت إعجابها بشجاعتي بسبب صغر سني وكوني كنت أصغر طيار في دفعتي»، هكذا وصف اللواء جاد لقائه بالسيدة الراحلة لـ«إضاءات».

ويضيف اللواء جاد: «لم أضعف يومًا وثقتي بالله كانت كبيرة حينما أخبرني الأطباء بأني غير قادر على الطيران ثانية، وأن مسيرتي في الطيران انتهت قبل أن تبدأ، بكيت وقتها حينما سمعت الخبر ولكن العطايا الربانية لم تنته يومًا فقد حظيت بتلقي العلاج على يد فريق تشيكي وشفيت واستكملت مسيرتي في الطيران حتى سن التقاعد ووصلت لرتبة عميد».

الطيار الجريء

من أبرز الملاحم الوطنية في حرب أكتوبر سجلها اللواء طيار سمير عزيز ميخائيل، أو كما لقبه الإعلام الاسرائيلي بـ«الطيار المصري الجريء». بعد ما كسر العديد من النظريات العلمية حول عمل الطائرات المقاتلة.

يقول الطيار البطل سمير عزيز ميخائيل في تصريحات لـ«إضاءات»، «إنه عرف موعد الحرب قبلها بوقت قصير جدًا، وكانت مهمته قيادة تشكيل من 4 طائرات مكلف بحماية القيادات العسكرية من الإسماعيلية حتى بورسعيد شمالًا عبر الاشتباك مع طائرات العدو، وكانت من أهم نتائج الطلعة الأولى يوم 6 أكتوبر تدمير مراكز التنصت والتشويش الإسرائيلية المدفونة تحت الأرض في أم خُشيب وكان تدميرها إنجازًا كبيرًا لدورها في التنصت على المجموعات الحربية في الجيش المصري».

ويضيف «في يوم 8 أكتوبر تسلمت مهمة قيادة السرب ونفذت أربع طلعات جوية وبمجرد دخولى استراحة الطوارئ انطلقت صافرة الإنذار فأقلعت مباشرة من دون أن أضبط الأحزمة على جسمي طمعًا في كسب عدة ثوان كفيلة بقلب نتيجه أي معركة، وفوجئت أن خزانات طائرتى الثلاث لم تسقط مما أثقل طائرتي واشتبكت مع طائرات العدو الإسرائيلي ولم أكن في أحسن حالاتي، في مواجهة 8 طائرات، حاولت تعمير المدفع فلم يستجب، فأصبحت أطير بـ3 خزانات ومن دون تسليح يعمل، أي أن طائرتي مجرد قطعه حديد، وبعد خروجي من هذه المعركة وعودتي إلى مقر قاعدتي في المنصورة، قررت أن أعود ثانية لمساعدة زملائي حتى لا أتركهم لمواجهة مصيرهم بمفردهم، وبمجرد وصولي إلى مواقع الاشتباك أصيبت مؤخرة الطائرة بصاروخ إسرائيلي واشتعلت طائرتي وسقطت منها على الفور».

«ظهري أصيب ولم أشعر بجسمي وكدت أغرق من شدة الألم، ثم رأيت مركب صيد ممن تسير في البحيرات الضحلة بعصا كبيرة تقترب منى بهدوء، ثم ضربوني بالعصا اعتقادًا منهم إني إسرائيلي ولكن خفر السواحل أنقذني، وتم نقلي لتلقي العلاج في مستشفى المنصورة»، بحسب ما أفاد الطيار سمير عزيز.

وواصل «من أصعب لحظات حياتي حينما أصبت بالشلل وكسرت إحدى فقرات العمود الفقري نتيجة قفزي من الطائرة، واستمرت فترة علاجي لمدة 6 أشهر، ولكن كانت لحظة تكريمي بنوط الجمهورية من الطبقة الأولى الأكثر سعادة لأنها أكثر التكريمات الأحب إلى قلبي».

اللقاء الأخير

خمسة أشقاء كتب لهم القتال في وقت واحد داخل معركة واحدة لاسترداد الأرض والشرف والكرامة، من بينهم المقاتل المحارب حمدي محمد مهدي الذي وقع في الأسر ونقل إلى إسرائيل في الوقت الذي استشهد فيه أخوه الرائد شهيد عزت محمد مهدي بالحرب.

يقول المهندس حمدي محمد مهدي، في حديث لـ«إضاءات»، إنه التقى أخاه آخر مرة يوم 7 أكتوبر داخل ساحة القتال، ولم يكن يعلم أنه اللقاء الأخير بينه وبين أخيه الذي استشهد يوم 22 أكتوبر 1973، وبصوت أجش يغلب عليه نبرة البكاء يضيف «لم أكن أعلم أنه آخر سلام بيني وبين شقيقي، لو كنت أعلم الغيب لكنت احتضنته طويلًا حتى أشبع منه».

وفي يوم 16 أكتوبر، سمع حمدي خطاب الرئيس السادات، الذي أعلن فيه طلب وقف إطلاق النار، ووقتها كانت بدأت واقعة الثغرة، وأصدرت القيادة وقتها تعليمات لسلاح الدبابات والمدرعات الذي ينتمي إليه بالتحرك من أجل سد هذه الثغرة، وتابع حمدي «لكننا وقعنا في مصيدة صواريخ تاو إسرائيلية، وحينها تمسكت بدبابتي حتى آخر لحظة وقاومنا حتى سقط معظم جنود الكتيبة».

و«بقيت داخل دبابتي ثلاثة أيام مع رفاقي بينهم شهيدان وواحد مصاب، وكنت أشرب المياه مختلطة بالدماء، حتى عثرت على مدرعة إسرائيلية وتم اقتيادي نحو نقطة عسكرية إسرائيلية يتجمع فيها مصابو الحرب الإسرائيليين».

وتابع «كنت المصري الوحيد بين المصابين الإسرائيليين، وكنت أسعد برؤيتي لجثث وجرحى جيش العدو، وعلمت وقتها أن النصر بات قريبًا».

«اليوم الذي وصلت فيه تل أبيب، أدركت حينها أنني وقعت في الأسر، فقد كان لدي أمل بالعودة إلا أنهم اقتادوني لإسرائيل لإجراء عملية جراحية نظرًا لإصابتي الخطيرة وبعد إجراء العملية، أضربت عن الأكل والشرب وتلقي العلاج، وتمنيت الموت، حتى جاء يوم 14 نوفمبر 1973 سمعت أصوات زغاريد تهز أرجاء المستشفى العسكري الإسرائيلي وحينها أدركت أن هناك صفقة تبادل أسرى بين مصر وإسرائيل».

واستطرد المحارب حمدي محمد «كنت محظوظًا لأني كنت ضمن الفوج الأول المفرج عنه في أول طائرة تبادل أسرى من إسرائيل، ولم أكن أعلم أن الفرج قريبًا وكانت لحظة غالية لن أنساها لدى عودتي إلى أرض الوطن بعد النصر».