يجلس ابنك في الفصل معتدلًا بلا حراك في مقعده، وعيناه تتابعان حركة المدرس أمام السبورة. لقد تعلم سريعًا كيف يبدي اهتمامه بما يقول المدرس حتى لو لم يكن منتبهًا تمامًا، فيكفي أن يجلس دون تلفت وأن يجعل عينيه على المدرس وألا يحاول الكلام مع أحد، هذه الوصفة تنجح معه دائمًا ليكون طالبا مثاليًا يثني عليه معلموه.

يحاول أن يركز فيما يقوله المدرس ولكنه يشرد بعد قليل ويتذكر ما حكاه له صديقه تامر عن مدرسته الحكومية البشعة، على الأقل هو في مدرسة خاصة نظيفة ولا يضربه المدرس بالخرطوم ولا يسبه بأبويه.

يلقي المدرس سؤالًا فينتبه، إنها من الفرص النادرة لكسر الملل في الحصة ولهذا يرفع يديه دون أن يكون متأكدًا من الإجابة، لا مشكلة على كل حال فقد يختار المدرس أحدًا غيره فيحافظ هو على صورة الطالب المثالي. يجيب أحد الطلبة إجابة صحيحة فيجلسه المدرس ثم يواصل الشرح بحماس فهو يريد الانتهاء من الجزء المقرر لتلك الحصة كي يسير على خطة الإدارة وجدولها الزمني.هذه المشاهد المتكررة في مدارسنا، وهي التي قد ينظر لها البعض أنها صورة التعليم الصحيح أو أنها ضرر لابد منه، تحمل في طياتها خطايا جمة ولكنها خفية؛ خطايا أثبت العلم الحديث ضررها على أطفالنا وإعاقتها للتعليم الفعال ونمو الفكر والعقل، هي خطايا متوارية ولا تلفت الأنظار ولكنها مدمجة بشدة في كيان المدرسة.هذه الخطايا تشترك فيها غالبية المدارس إن لم تكن كلها، فلن يحمي أطفالنا منها أن نلحقهم بتلك المدرسة الدولية ذات الاسم البراق والمصاريف المرعبة، ولن ينجيهم البحث لهم عن مدرسة خاصة بمصاريف على قدر اليد. خطايا المدرسة الخفية تحتاج قبل كل شيء إلى أبوين واعيين لها؛ ليمكنهم التعامل مع تلك المشاكل بشكل علمي سليم.


الخطيئة الأولى: لا للنقاش

بينما يقوم دور المدرس في المعتاد على الشرح والتبسيط وبالتالي «تسكيت» الطلاب ليتمكن من «إيصال» المعلومة لهم، إلا أن الدراسات والأبحاث تشير إلى أن هذه ممارسة تعليمية غير جيدة. بحسبة بسيطة، يمكننا تقدير وقت المناقشة المسموح به للطالب في خلال الحصة المدرسة: الحصة 45 دقيقة، والفصل به حوالي 20 طالبًا في المدارس الغالية و 30 إلى 40 في المدارس العادية.فإذا أضفنا لذلك الوقت الذي «يسرد» فيه المدرس المادة التعليمية سنجد أنه لابد من إلزام الطلبة بالصمت التام أغلب وقت الحصة. هذا الصمت الإجباري ليس نابعًا من رغبة المدرس في التسلط ولكنه ناتج من الصورة التقليدية للعملية التعليمية، والتي يكون دور المعلم فيها ممثلًا في “مصدر المعرفة” للطلبة.هذه الصورة التي استبدلتها نتائج الأبحاث التعليمية بالصورة الأفضل للمعلم وهي أنه ميسِّر لعملية التعلم ومدير لها ومشجع على الحوار البناء بين الطلبة في سبيل تنمية تفكيرهم الناقد والتدرج بهم للوصول إلى النتائج بدلًا من منحهم إياها مباشرة.ففي بحث تحليلي قام مورفي وآخرون بتحليل ما يزيد عن ثلاثين بحثًا عن المناقشات ودورها في التعليم داخل الفصل، وكان ما خلص إليه هو أن السماح بالكلام للطلبة يمثل عاملًا حاسمًا في تطورهم اللغوي والفكري، كما أنه بيّن بالأدلة البحثية أن الإدارة الجيدة للمناقشة وإدراك المدرس لأهميتها وأبعادها وتطبيقها الجيد، كل ذلك يؤدي ليس فقط إلى زيادة الاستيعاب للمادة، ولكنه أيضًا يؤدي لتحسن المهارات الاجتماعية والقدرة على التفكير الناقد ومهارات التعبير عن النفس وغيرها من الفوائد المضافة إلى تحصيل أعمق للمادة العلمية.وفي بحث تحليلي آخر شمل تحليلًا لأكثر من 20 بحثًا علميًا، يؤكد جون هوارد -الباحث بجامعة (باتلر) في ولاية إنديانا الأمريكية- هذه النتائج، ويقرر قائمة بالفوائد المترتبة على المناقشة الفعالة داخل لتشمل ما يلي: فهم أفضل وتحصيل علمي أكمل، تحسن في الدرجات والتقديرات، زيادة في احتمالية استكمال المادة بنجاح، زيادة في القدرة على التحليل ونقد الأفكار المعروضة، تطور مهارات التواصل والاندماج الاجتماعي، زيادة في القدرة على التقييم الذاتي والوعي الداخلي بالأفكار وتطورها، زيادة واضحة في تقدير وجهات نظر الآخرين وتخيلها وتقبل الاختلاف في الآراء.ويؤكد (هوارد) أن تحليله لتلك الأبحاث العلمية يبين أن هذه الفوائد موجودة عند تطبيق النقاش الفعال في الفصل بغض النظر عن جنس الطلبة، أو خلفياتهم الاجتماعية، أو مستواهم المادي، أو غيرها من العوامل المؤثرة.


الخطيئة الثانية: لا للحركة

في رؤية كثير من المدارس، فإن حصة الألعاب الرياضية هي رفاهية وتسلية للطلاب، ويمكن الاستغناء عنها دون أن تتأثر المدرسة. ولهذا كثيرًا ما تذهب حصة الألعاب الرياضية الأسبوعية ضحية لاحتياجات المواد الأخرى الأكثر أهمية كالرياضيات والفيزياء، وخاصة في مواسم الامتحانات والمراجعات. ولكن حتى لو لم تتحول تلك الحصة الأسبوعية إلى مادة أخرى فهي في الحقيقة غير كافية بالمرة. إنّ منع الأطفال من الحركة لمدد طويلة هو أمر بالغ السوء عليهم نفسيًا وجسمانيًا، بل وعلميًا وعقليًا أيضًا!.ففي دراسات متعددة تبين أن الحركة وممارسة الرياضة يوميًا لمدة لا تقل عن 20 دقيقة متواصلة هو أمر يزيد من تحصيل الطالب علميًا، ويحسن من درجاته، ويفيد في تقوية عملياته العقلية المختلفة كالانتباه والتخطيط والتذكر.كما أن هذه الدراسات وجدت ارتباطًا واضحًا بين زيادة وقت التمارين وبين زيادة تلك الفوائد بشكل يشجع على جعل وقت التدريبات اليومي لا يقل عن 40 دقيقة للطلبة من مختلف الأعمار. وقد أكدت تلك الدراسات أيضًا على أن فوائد التمارين الرياضية تتعدى الفوائد الجسمانية والعقلية وتحصل للطلبة فوائد نفسية أيضًا، فقد وجد أن التمارين المنتظمة تقلل من التوتر والشعور بالضغط وتزيد من الهدوء والتركيز والثقة بالنفس. لا يقتصر الأمر على حاجة الطلبة لحصة تدريبات رياضية يومية من أجل نموهم العقلي والجسماني والعلمي، فهناك أيضًا جانب أكثر أهمية متعلق بعملية الشرح داخل الفصل. إن الصورة التقليدية للطالب الجالس منتصبًا ويداه أمامه بلا حراك ليستمع لشرح المدرس هي صورة مغلوطة ومخالفة لطبيعة البشر وخاصة الأطفال.ففي عدة تجارب ميدانية وإحصاءات وجد الكثير من خبراء التعليم أن إضافة الأنشطة الحركية إلى عملية الشرح داخل الفصل تجعل التعلم أكثر جاذبية للطلاب وتزيد من تركيزهم ومشاركتهم الفعالة، كما أنها تزيد من تحصيلهم العلمي وحفظهم للمعلومات التي تم ربطها بالحركة.إن إدخال الحركة الجسمانية داخل الفصل المدرسي -وليس فقط في ساحة اللعب- هو توجه عام عند المهتمين بتطوير التعليم، وهو توجه تدعمه الدراسات العلمية والتجارب الميدانية التي أجريت خلال العقود الماضية، كلها تشير إلى أهمية تحويل عملية التعلم إلى عملية ينشط فيها جسد الطالب كما ينشط عقله.هذا ما حدا «أليتا مارجوليس»، الخبيرة التعليمية، إلى إنشاء مركز متخصص لتدريب المعلمين على إدماج الحركة الجسمانية في أنشطة التعلم. وقد تبين بالممارسة لهذه الأنشطة في الفصل أن الطلبة تُقبل على المادة وتستزيد من التحصيل العلمي بشكل أكبر كثيرًا من الفصول التقليدية. وأكد المعلمون أنهم وجدوا هذا الفارق ملحوظًا في كل الفصول ومختلف الأعمار مما يتفق مع ما أشرنا له من أبحاث ميدانية وعلمية.


الخطيئة الثالثة: المدرس في المركز

في المدارس التقليدية يكون المدرس هو محور الحصة المدرسية؛ فهو يقف كما لو كان على منبر بينما الطلبة مجبرون على الجلوس والإنصات جيدا، وفي هذه الصورة التقليدية يكون المدرس هو مصدر المعلومة، وهو محط الأنظار، وهو المتحكم الوحيد في سير العملية التعليمية. هذه الصورة تجعل التعلم عملية سلبية عند الطلبة، فكل ما هو مطلوب منه هو أن يجلس مستمعًا وعلى أحسن الأحوال منتبهًا لما يقال.إن الأبحاث الحديثة تنادي دائمًا بنقل المحورية من المدرس إلى الطالب، بالسماح له ليس فقط بالمشاركة والنقد والنقاش، ولكن أيضًا المشاركة الفعلية في إدارة الحصة وطرق الشرح وانتقاء المادة العلمية والواجبات والمسائل وحتى طرق التقييم. وقد بينت «إلينور ديوكورث» في بحث لها أن الإصرار على جعل المدرس هو مركز الحصة يؤدي لتعويق نمو الطلبة ونضجهم العقلي.وبالرغم من كثرة الأبحاث والنتائج المشجعة على نقل المفهوم التعليمي من التمركز حول المدرس إلى التمركز حول الطالب، إلا أن التطبيق العملي يظل قاصرا إلى حد كبير عن المأمول وخاصة في المدارس.


الخطيئة الرابعة: التمارين الموحدة

بينما تتباين ميول التلاميذ وهواياتهم، إلا أن المدرس يفترض –أو يفرض- أنهم بحاجة لحل نفس التمارين التي اختارها لهم. ومع ما في هذا من مغالطة منطقية واضحة إلا أنها تبقى من السمات الثابتة للتعليم المدرسي: واجب واحد وامتحان واحد لكل الطلبة!. وبالرغم من محاولة بعض المدارس الخاصة –وبالذات الدولية- السعي لتقديم مفهوم الشرح المتباين Differentiated Instruction، إلا أن هذه المحاولات تبقى قاصرة نظرًا لضيق وقت المدرس وعدم القدرة الطلبة على ملاحقة الكثير من التغيير في الحصة الواحدة؛ مما يحد من قدرات المدرس على إدخال التباين في طرق الشرح.إن التقصير في الشرح المتباين يؤدي عادة إلى قصور وضيق أفق عند الطلبة، فهم لم يروا إلا وسيلة شرح واحدة أو اثنتين. وأهمية ذلك تتعدى مجرد الشعور بالملل في الحصة أو قلة ما يحصّلونه فيها من المعلومات، ففي بحث أجراه جوناثان واي -الباحث بجامعة ديوك الأمريكية- مع مجموعة من زملائه حول الفارق في النجاح العملي بين أصحاب الخبرات المتنوعة تعليميًا وغيرهم، تبين بوضوح أن هناك قفزة واضحة في المرتبات وجودة الوظائف والمستوى العلمي النهائي بين هؤلاء الذين تلقوا تعليمًا متنوع المصادر والطرق وغيرهم ممن تلقوا تعليمًا تقليديًا.إن الوعي بتلك المشاكل وغيرها من خلال الاطلاع على أحدث الأبحاث العلمية في مجال التعليم صار ضرورة لكل ولي أمر ومربٍّ يهتم بمستقبل أفضل لأطفاله، إلا أن هذه الخطايا لا تنفرد بها المدرسة أو الفصل المدرسي، بل إننا نجدها كثيرًا ما تتكرر حين يحاول أولياء الأمور أن يذاكروا لأبنائهم في المنزل.