وهنًا على وهن، حمل الأسرى عذاباتهم بين الضلوع وفي المآقي، لكنها أبدًا لم تكسر إرادتهم بل أنمت إبداعاتهم وطورت مواهبهم، وما إن سنحت لهم الفرصة حتى عبّروا عنها بثورة القلم مُبدلين بذلك عتمة الزنازين إلى منارات إبداع أدبي، لا يُعبر فقط عن حالة إنسانية عايشها الأسير في لحظة اختناق أو لحظة نصر بعد انتزاع حق الحرية، بل يؤصل لأبعاد فكرية ونضالية.

لقد واجه الأسرى الفلسطينيون إرادة المُحتل الذي جيّش كل إمكانياته المادية والمعنوية لتشويش أفكارهم وإفقادهم وعيهم وتفكيك قدراتهم الثورية والكفاحية لأجل إحباطهم وتحطيم صمودهم، فكانوا الأقوى ومن رحم الوجع اليومي أنبتوا قصصًا وروايات ونسجوا من عتمة الزنازين أشعارًا.

خطّوا ذلك جميعه على وسائل غير تقليدية، كون المُحتل لم يكن ليسمح لهم بإدخال أدوات الكتابة والتدوين؛ فمن الكتابة على المغلفات الورقية للأغذية التي يُسمح لهم بشرائها من الكانتينا، إلى إخفاء مواسير الأقلام التي كانت تُوزع عليهم مرة في الشهر لكتابة رسائل لأهلهم، تحمّلوا العقاب الجماعي من أجل أن يُدونوا تفاصيل حياتهم، لحظات الوجع والانكسارات، ومحاولات التغلب على ظُلم السجّان.

«إضاءات» تتحدث عن أبرز خمس روايات كُتبت بمداد الوجع في السجون، وخرجت منه تهريبًا عبر الكبسولات، لترى النور قبل تحرير كُتابها.


حكاية صابر

رواية حكاية صابر
رواية حكاية صابر
حكاية صابر، حكاية شخص تُجسّد حالة شعب، وحكاية شعب تتجسد في شخص، فيها مزج بين الواقع والخيال، خيال من أصل الواقع، وواقع أقرب إلى الخيال، يُمثل فصولاً من تاريخ شعب لا يُقهر، شعب تكالب عليه الأعداء من كل حدب وصوب، وتخلى عنه القريب والبعيد، ثم عاد البعيد ليشارك في القهر، وعاود القريب الغدر والطعن في الظهر.

هي حكاية «محمود عيسى» ذلك الأسير الفلسطيني وراء القضبان منذ عام 1993 والمحكوم بالسجن المؤبد ثلاث مرات بالإضافة إلى ستة وأربعين سنة أُخرى.

صدرت طبعتها الأولى عن مؤسسة «فلسطين للثقافة» عام 2012، حيث يعرض الأسير عيسى حكايته في شخصية «صابر» الذي يُعبر عن شعب بأكمله مرت مراحل نموه بانكسارٍ كبير من الميلاد في النكسة، وما تلاها من فساد ونهب للثروات والتاريخ والأصالة، وصولًا إلى ثورة الحجر التي أُعلن فيها الرفض التام للظلم والظُلّام، وليس انتهاءً بسلوك من ضعفت هممهم طريق المهادنة والاستسلام، والذي انعكس أخيرًا على فشل دعواهم، وثبت أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.

ترك الراوي حكايته بلا خاتمة، ليصنعها القارئ من استلهامه للأحداث التي تدور في رحى الأيام بين شدٍ وجذب كما جيئت بالنص القرآني: لينصر الله المؤمنين ويُحق حقوق المُعذبين.

قضى الراوي معظم محكوميته في الزنزانة الانفرادية بحجة الخطورة الكبرى على أمن إسرائيل، فهو آسر الجنود ومُؤسس الخلايا، ورغم ذلك استطاع أن يُسرب أوراق حكايته لترى النور الذي لا يراه بينما هو لا زال ينتظر أن يُفتح باب زنزانته.


أمير الظل: مهندس على الطريق

أمير الظل، عبدالله برغوثي
أمير الظل، عبدالله برغوثي

هي حكاية الألم التي تجرعها الأسير «عبد الله البرغوثي» في ظُلمة الزنازين، حيث نظم حروف مشاهدها في 165 صفحة، يبدأ الأسير – المحكوم عليه بالمؤبد 67 مرة – روايته بالرد على رسالة ابنته الكبرى «تالا» التي شهدت لحظة اعتقاله عام 2003، تلك الرسالة التي خلت من أي حروف وعلامات إلا الاستفهام: «من أنت؟، ولماذا أنت؟»، تسأل عن ذلك الأب الذي تركها في السيارة لحظة اعتقاله، وسافر خلف القضبان دون أن يُحدد موعدًا للرجوع.

ويبدو أن صعوبة السؤال ووجع الإجابة جعلته يخط روايته «أمير الظل: مهندس على الطريق» في ترنيمة أشبه إلى السيرة الذاتية، كتبها في ظلمة العزل الانفرادي، تلك الزنزانة الشبيهة بالحد الفاصل بين الحياة والموت، ليُعرِّف بذاته ويمنح ابنته تالا إجابة، علّها تُعينها على لجم خوفها وتمنحها فرصة لترى والدها؛ الممنوع عليها زيارته ورؤيته إلا في بعض صورٍ التقطها في رحلاته وأسفاره الطويلة والبعيدة قبل أن يُأسر.

يعرض الكاتب في روايته التي صدرت طبعتها الأولى عام 2012، سيرته من الميلاد ثم الخروج مع عائلته إلى الكويت والعودة مُجددًا إلى الأردن بعد الغزو العراقي للكويت 1990، لتواجه صنوف معاناة وألم وفقر كبير بكل تحدٍ وكبرياء، ورغم أنه لم يكن يحمل شهادة الثانوية العامة إلا أنه افتتح محلًا لميكانيكا السيارات، هوايته المفضلة التي لم تُسعفه كثيرًا في توفير المال، فانتقل إلى كوريا لمدة ست سنوات كانت التجربة الأغنى، درس خلالها الهندسة الكهربائية وعمل في التجارة، هناك أتقن الكمبيوتر والاتصالات وفطن إلى تفاصيل عملها الدقيقة.

وفي توليفة غنية بالإنسانية؛ يعرض تجربته وكيف عاد إلى فلسطين بعد زيارة في نهاية التسعينيات، والصدفة التي جمعته بالمقاومة، وكيف بات خليفة للشهيد يحيى عيّاش، ويُبرز للقارئ كيف أن عبقريته في فهم الإلكترونيات قادته إلى الاستزادة بالمعرفة لصنع المتفجرات والتحكم بها عن بعد، بالإضافة إلى تفخيخ السيارات لتنفيذ عمليات عسكرية ضد الأهداف الإسرائيلية.

تمتاز كتابات البرغوثي بأسلوبها البسيط الأقرب إلى المُحاكاة الصريحة لكل ما شاهد وعاش بعيدًا عن زخرفة الألفاظ والتعابير، كما أنها تمنح القارئ فرصة للتعرف على سير المقاومين الأفذاذ الذين ربطتهم علاقة مباشرة معه.


ستائر العتمة

أخرج تفاصيلها إلى النور الأسير «وليد الهودلي» من سجنه في عسقلان عام 2001، فيما صدرت طبعتها الأولى بعد عامين؛ الأول كانت فيه مخفية لم يعرف بها أحد سوى الكاتب، والثاني بقيت خلاله تحت النشر.

يحكي الهودلي في روايته عن تجربة التحقيق والاعتقال وظروف السجن، ويستعرض أساليب التعذيب التي يواجهها الأسرى الفلسطينيون على يد المُحققين الإسرائيليين، أملًا في سحب اعترافاتهم؛ بدءًا من غُرف العصافير التي يتم فيها خداع الأسير، وصولًا إلى عمليات الشبح المتواصلة، والتي تتم عبر تقييد الأسير على كرسي لساعات طويلة يكون فيها مربوط اليدين والقدمين إلى الخلف.

كما تطرق إلى أساليب اعتقال الأهل وتعذيبهم كوسيلة للضغط للاعتراف بما يُمليه على المُحقق الإسرائيلي، بالإضافة إلى أساليب الحرمان من النوم والضرب الشديد من قبل المُحققين، ناهيك عن الكيل بسيل من الشتائم البذيئة والتجرؤ على الدين من قبل المُحققين الإسرائيليين؛ كسبّ الذات الإلهية وإيذاء الأسرى نفسيًا وجسديًا.

طبُع الجزء الأول من الرواية ثمان طبعات، أي نحو 40 ألف نسخة، تحدث الكثير عن دقة تصوير الرواية لتفاصيل المشاهد التي تمتزج فيها واقعية الحدث مع فيض المشاعر الإنسانية، وهو ما دفع المُخرج «محمد فرحان الكرمي» إلى تحويل رواية الهودلي إلى فيلم درامي.


الرباعية الوطنية

وصفها البعض بـ «رباعية العشق»؛ لأنها تُذكِر بأدب الأدباء الثوار ممن خاضوا تجارب الثورة والنضال وذاقوا وبال المعاناة وآلام التعذيب والحرمان، سُميت بالرباعية كونها تضم أربع روايات: «عاشق من جنين»، و«الشتات»، و«قلبي والمُخيم»، و«لن يموت الحُلم». كتب تفاصيل مشاهدها الأسير المُحرر عام 2005، رأفت حمدونة، داخل أقبية سجن نفحة، وعمد إلى تسريبها سرًا لتُنشر بعد ذلك وترى النور في طبعتين.

في ثنايا الرواية يتحدث «حمدونة» عن المقاومة والحب والحرية بلغة واضحة سليمة نحوًا وصرفًا، ودلالة عميقة غير سطحية، تُعبر عن رسالة وطنية أصيلة وتتغنى بالثوابت في أربع روايات تحكي قصة الشعب الفلسطيني بتسلسل من «عاشق من جنين» التي تروي معركة المدينة خلال انتفاضة الأقصى وصمودها في وجه الاحتلال، وصولًا إلى «الشتات» التي عبّرت بشكلٍ جليّ عن التشرد وتدور أحداثها في فلسطين والأردن، ومن ثمَّ جاءت «قلبي والمُخيم» التي تحكي وقائع الثورة والصمود في مخيم معسكر جباليا الذي شهد جانبًا من نضال الكاتب وطفولته، ليُتوجها بـ «لن يموت الحلم» التي ختمت الرباعية بحكاية كفاح سكان حدود الوطن في رفح وترسم لوحة نضاله في التمسك بحقوقه وثوابته الوطنية.

عبّر الكاتب في رواياته الأربع عن هموم الشعب الفلسطيني بتنوعها بأسلوب شيّق يتناسب مع مضامينها التي جالت في محطات نضاله المتسلسلة.


على جناح الدم

رواية ستائر العتمة
رواية ستائر العتمة
أيتها النفس التواقة للرحيل على ذلك الجناح الميمون، اسكني، فالدروب دونك مسدودة، والجسد تثقله الأغلال، وإذا كنت لا تستطيعين، فتحرري منه، وعيشي الخيال وتسلي مع الأطياف؛ أطياف من عشقوا فصدقوا فصدقهم الله.

تلك أولى الأسطر والكلمات في الرواية التي اختار فيها الأسير المُحرر في صفقة (وفاء الأحرار 2011)، شعبان حسونة، أن يُحاكي حياة الاستشهادي بمشاهد مكتوبة غنية في تفاصيلها بالتشويق والإثارة والعاطفة والتأصيل لفكرة المقاومة لاسترداد الحق المسلوب.

هذه الرواية بالإضافة إلى رواية «ظل الغيمة السوداء» كانتا السبب في منح كاتبهما الأسير شعبان حسونة عضوية اتحاد الكتاب الفلسطينيين عام 2005، فرغم أن الأسر اختلس من عمره 22 عامًا داخل الغرف الرمادية إلا أنه استطاع أن يُلونها بكتاباته التصويرية القائمة على الشفافية والخيال الواسع.

وعلى مد سنوات الأسر كان يُسرب كتاباته خلسةً بعيدًا عن أعين السجانين في كبسولات ورقية كل واحدة منها لا تكبر عن حجم نصف كف اليد، وكان قد سرب روايته «ظل الغيمة السوداء» في عشر كبسولات بخط دقيق جدًا، عالجت قضية السقوط في وحل العمالة مع الاحتلال، وكانت تُناقش بعض المفاهيم الخاطئة التي تُقحم أسرة العميل في ذنبه.