هناك معارك كثيرة نخوضها لنحيا، لكن حين يأتي الأمر لدوري كأم فأنا لا أعتبر أمومتي مع أطفالي معركة، فالمعركة يخرج منها طرف خاسر وآخر منتصر، لكني أعتبرها «رحلة» أحاول أن نستمتع بها سوياً حتى نصل إلى وجهتنا المنشودة بسلام.

لا شك أن الرحلة المخطط لها بحرص تثمر بنتائج أفضل بكثير من تلك التي نخوضها باستعجال، تخيل أنك توجهت إلى بلد دون أن تقضي وقتاً لتعلم لغتها ولا معرفة قوانينها ولا التعرف على معالمها، ستكون رحلتك مشوشة مليئة بالاحباطات، لذا قررت ألا أنطلق في رحلتي دون أن أخطط لها وأتعلم عنها وأتسلح بما يعينني على اجتيازها بنجاح، وأنا فعلاً ممتنة لقراري ذاك رغم أني ما زلت في بداية الطريق إلا أني وددت أن أشارككم بعض الإضاءات التي أرشدتني في رحلتي لعلها تختصر عليكم بعض الطريق.


كنت أعتقد أن …

1. كنت أعتقد أن عقل طفلي صفحة بيضاء أستطيع أن أنقش عليها ما أريد، لكني اكتشفت أنها صفحة بيضاء فعلاً لكن هو وحده من يستطيع النقش عليها.

يمكنني أن أمده بالحبر وأن أوفر له القلم، لكني لا أستطيع أن أكتب نيابة عنه، فدوري كمعلمة هو مثل دور الطبيب الذي يصف الدواء ليساعد الجسم أن يشفى بنفسه لكنه لا يملك أن يشفيه، ومثل دور الفلاح الذي يسقي الأرض ويحرثها ليساعد البذور على أن تنبت بنفسها لكنه لا يملك أن ينبتها.

دوري كمعلمة هو أن أساعد طفلي ليتعلم بنفسه لكني لا أملك أن أطبع المعلومات في عقله، لذلك بدلاً من التركيز على تلقينه المعلومات التي أود إكسابه لها أصبحت أركز على توفير البيئة المحفزة له على التعلم، وإزالة العقبات التي يمكن أن تعوقه عن ذلك.

التجربة العملية تثبت أن الأدوات التعليمية والأنشطة الجذابة لن تصمد وحدها في مجابهة الشاشات الإلكترونية مثلاً، سيختار طفلي تلك الأخيرة حين تسنح له الفرصة بالتأكيد، لكن بغيابها فأنا أعطي له فرصة ليوجه انتباهه وتفكيره لما يتوفر لديه في بيئته، ليُعمل عقله ويتعلم باستخدامها.

2. كنت أعتقد أن مهمتي الأولى هي تربية أطفالي، لكني اكتشفت أن مهمتي الأولى هي تربية نفسي وتهذيبها فيتربى أطفالي.

الطفل يتعلم أول ما يتعلمه بالتقليد والمحاكاة، قبل حتى أن يستوعب لغة التواصل ويتحدث بها، لذلك لن تجدي توجيهاتنا الكلامية إذا لم نوفر له النموذج الفعلي الذي يمكن أن يقلده. يمكنكم اعتبار أطفالكم بمثابة المرآة التي تريكم انعكاس شخصياتكم وأخلاقكم، تأكدوا أن أي عادة لديه لم تتولد من تلقاء نفسها، لابد وأن هناك نموذجاً أخذها عنه». لذلك بدلاً من التركيز على إصلاح الخلل في شخصية طفلي أصبحت أحاول اكتشاف الخلل في شخصيتي الذي انعكس على طفلي والبدء بإصلاحه.

3. كنت أعتقد أن الأطفال متشابهون.

على الرغم أن هذه القاعدة بها بعض من الصحة، إلا أنه حين يأتي الأمر إلى المقارنة بين الأطفال فتلك القاعدة هي الأسوأ على الإطلاق، فالأطفال بالفعل يتشابهون في حاجاتهم الأساسية، البيولوجية والنفسية، لكن في جانب الصفات الشخصية، معدل النمو، القدرات العقلية، الميول والتفضيلات المزاجية فلا يمكن بأي حال المقارنة بين طفلين حتى بين التوأمين.

الأمر أشبه ببصمة الإصبع التي تميز كل إنسان عمن سواه على وجه الأرض،لذلك بدلاً من التركيز على إعجابي بما هم عليه بعض الأطفال وتمني أن يصبح طفلي مثلهم، أصبحت أركز على تقبل طفلي كما هو بكل عيوبه التي تميزه عن غيره، أتعامل معه كإنسان مستقل وليس كدمية أحاول تشكيلها، أساعده أن يطور من نفسه لكني لا أجعل حبي له ورضاي عنه مشروطًا بهيئة أو إنجاز.

4. كنت أعتقد أن مهمتي هي منع طفلي من الخطأ ليصبح نموذجاً مثالياً يتحرك على قدمين، لكني اكتشفت أني يجب أن أدع طفلي يخطئ ليتعلم، وأنه لا وجود للشخص المثالي في دنيا الواقع.

قراراتنا الغبية وأخطاؤنا غير المتعمدة هي ما صنعت ما نحن عليه الآن، إنها تلك الخبرات التي تحسّن فرص اتخاذنا لقرارات صحيحة مستقبلاً نستطيع أن نتكيف بها مع مجتمعنا المحيط حين لن يكون حولنا من يوجّه تفكيرنا ويقوّم سلوكنا،لذلك بدلاً من التركيز على منع طفلي من الخطأ، أصبحت أركز أن يتعلم من خطئه ويصححه.

سأدع طفلي يسقط مرة ليتعلم الحذر، وسأدعه يفشل مرة ليتعلم الإصرار، وسأدعه يغضب مرة ليتعلم السيطرة، سأدع روحه تنطلق بعفوية وأسعد بآلامه التي ستجعل غده أفضل، بدلاً من أن أقيدها في قفص مُذهب مرصع بأمان يكتشف زيفه مستقبلاً.

5. كنت أعتقد أن مهمتي هي توفير طعام صحي، ملابس نظيفة، وألعاب جميلة تليق بطفولة سعيدة، لكني اكتشفت أن الاستقرار والسواء النفسي يفوق أهميته تلك الماديات بكثير.

كنت أشاهد نماذج لأشخاص مكتئبين وقد امتنعوا عن الطعام أو أكلوا بشراهة حد الضرر، وقد أهملوا مظهرهم وملابسهم، وقد زهدوا مقتنياتهم الثمينة، ذلك أن الذي يفقد استقراره النفسي يفقد معه قيمة ما يحيط به في حياته، لذلك بدلاً من أن أركز على إمداد طفلي بكل الماديات بدافع حبه، أصبحت أركز على أن يدرك أنني بالفعل أحبه، وأن يفهم أن حبي له غير مشروط بأي شيء.

أحبه بنجاحه وبفشله، وأحبه حين يسعدني وحين يغضبني، وأحبه وقت راحتي ووقت تعبي، أحبه وسأكون دعمه وملاذه الآمن بالرغم من أي شيء، وكما أمده بالطعام والملابس فسأغدق عليه قبلات وأحضان وتلامس، فإشباع عاطفته عندي أهم وأولى من إشباع بطنه.

6. كنت أعتقد أن طفلي سيرث مني ديانتي ومعتقدي كما يرث لقبه من أبيه، لكني اكتشفت أن العقيدة لا توَرّث بل تُعتنق.

كتابة الديانة في شهادة الميلاد لا تكفي، لطالما أرعبني أعداد المتحولين إلى الإلحاد والمتحدرين من أسر متدينة في الأصل، وتساءلت في نفسي ما الخطأ الذي ارتكب في هذه الأسرة ليؤدي إلى ذلك. لذلك بدلاً من أن أركز على أن يحفظ طفلي مظاهر الدين، أصبحت أركز أن يكون الحفظ مسبوقاً بفهم وحب وتسليم، وجدت أن في طريقي لاستنبات يقينه من قلبه فإني أغذي جذور يقيني، وأن في طريقي لمساعدته في اكتشاف عقيدته بإرادته فإني أعيد تحرير ميثاق عقيدتي.


في رحلتي مع الأمومة علمني طفلي أن أكتشف عن نفسي كما أكتشف عنه، وأن أراقبه وأتعلم منه، فهو فطرة الله التي لم تتلوث بعد بهوى الأنفس ولا غواية الشيطان، أتقرب إليه وألتمس منه العفو عن زلاتي التي لا يستحقها فيعفو عني ببراءته ونقاء سريرته التي هو أهل لها، أتقرب إلى الله بإحساني إليه ويقربني هو إلى الله حين أتفكر في إعجاز الله فيه.

وصدقاً، أتمنى لكم رحلة ممتعة مع أطفالكم.