خرج لورشته الصغيرة في منطقة الونش المصرية بحي المقطم، لم يكن يسعى إلا الحصول على بضعة جنيهات يجنيها نظير عمل شاق يدوم للعديد من الساعات، وكان الاختفاء مآله، وسرعان ما تسلمته أسرته جثة هامدة، تكتظ بالجروح واللكمات.

وما كان من أهالي الفتى صاحب الاثنين والعشرين عامًا إلا التجمهر أمام قسم الشرطة، حيث لقى نجلهم مصرعه، وكانت الهراوات والاعتقال والتهم الجزافية في الانتظار.

هكذا طوى النسيان محمد عبد الحكيم،الشهير بـ «عفروتو»، بينما استمرت حياة أهالي الونش برتابتها وشظف عيش سكانها، أيديهم مكبلة بالأغلال، وفي القلوب الخوف والضغائن، كمثال مصغر على ثورة وطن أضحت ترويها القصص والحكايات.

‏ومن الشاب السكندري خالد سعيد الذي لقى مصرعه على أيدي رجال الأمن إلى عفروتو، سبع سنوات ولا تزال الداخلية المصرية كما هي، تتعدد الوقائع والنهاية واحدة، يخط فصولها ركام من الألم والدماء، بينما يتسلل «الربيع» كشعاع النور وسط الظلمة.

ومن المفارقة إطلاق كلمة «الربيع» على الثورات العربية، وكانت تشير قبل عقود طويلة من الزلزال العربي إلى «ربيع براغ»، حين حلت ديمقراطية قصيرة الأجل في تشيكوسلوفاكيا سابقًا في عام 1968 بقيادة ألكسندر دوبتشيك، قبل أن تسحقها الدبابات الروسية.

وكانت البداية عندما احترق جسد بوعزيزي في تونس، فاكتوت جلود شباب مصر المفجوع بمقتل خالد سعيد، ثم توزع الألم على امتداد خارطة الجسد العربي، فيما ظل باقي زعماء العرب يتحسسون كراسيهم.

ثورات غير متوقعة، نجحت لأنها استخلصت أفضل وأنبل ما في أعماق الشخصية العربية من قيم إنسانية ومعانٍ أخلاقية، استقرت في ضمير العالم كأجمل لوحات الرقي الحضاري، وأضحى ميدان الثورة مزارًا لكل محبي الحرية في العالم -كما يصف مؤيدوها- بينما خبأ المستقبل في جعبته الكثير من المفاجآت.


في انتظار الخريف

السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2010 كان يومًا فارقًا على الصعيد العربي، عندما أضرم بائع الفاكهة التونسي محمد بوعزيزي النار في نفسه، بعد أن صادرت السلطات بضاعته وضربته، أشعلت الحادثة انتفاضة أطاحت خلال أسبوعين بالاستبداد التونسي، وانتشرت المظاهرات تباعًا، هلّل العالم بأسره، وسرعان ما تهاوت الرءوس الكبرى في الوطن العربي.

رغم الآمال الكبرى التي داعبت مشاعر الوطن العربي، مازال الشرق الأوسط اليوم أقل استقرارًا وتفاؤلًا مما كان قبل حلول الربيع.

ولكن في تونس ومصر، لم يدُم «شهر العسل» طويلًا، وفي المغرب والأردن وعد الملك بإصلاحات، بينما اليمن تفكك إلى أجزاء طائفية، وفي ليبيا كان المشهد مأساويًا بقدر ما كانت ولاية القذافي طويلة ودموية، حيث أصبحت ملعبًا فوضويًا للمُهرِّبين ولداعش، وفي سوريا أدت المظاهرات إلى حرب أهلية وانتشر الموت في أرجاء البلاد، أما في البحرين والسعودية فقد سحقت السلطات المظاهرات في مهدها.

بدا من المشهد المكتظ بالدماء المهدرة وآلاف المشردين والنازحين، وكأنه الحصيلة المباشرة للربيع العربي، ويتعزز الشعور بالغبن والخوف من المستقبل في المجتمعات العربية بالأوضاع المتأزمة لمختلف دولها، بل إن ظروفها الاقتصادية أضحت أسوأ مما كانت عليه قبل اندلاع الثورات عام 2011، خاصة في اليمن وسوريا وليبيا، وذلك بفعل الحروب المشتعلة هناك منذ سبع سنوات.

يضاف إلى ذلك تعرض اقتصاد دولتين نفطيتين، هما السعودية والجزائر، لهزة كبرى بسبب تراجع أسعار النفط، واشتراك الأولى في حرب لم تضع أوزارها في اليمن منذ ثلاث سنوات.

ويرسم تقرير الأمم المتحدة للتنمية في العالم العربي صورة حالكة عن مستقبل المنطقة، حيث عَزَتْ اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة (إسكوا) التي تغطي 18 بلدًا عربيًا، في تقريرها 2015-2016، مسئولية الخسارة التي قُدِّرَت بنحو 613 مليار دولار في مجال النشاط الاقتصادي، والعجز المالي الكلي بقيمة 243.1 مليار دولار، إلى النزاعات المسلحة المندلعة في ست دول عربية.

ويضيف التقرير أن الدول العربية شبه عاجزة عن تلبية مطالب شعوبها من فئة الشباب، الذين يتجاوز عددهم 100 مليون نسمة، ويتهددهم الفقر والبطالة والتهميش، ويدفع بهم إلى أحضان الفكر الديني المتشدد.

وعلى الرغم من أن الخريف طغى على الربيع العربي، فإن إيمان الشعوب بالحرية والعدالة كان ثابتًا لا يتزعزع، وبدوره حذر باكرًا الكاتب الإيرلندي كولوم ميكان بعد خمسة أشهر فقط من اندلاع الثورة المصرية، من محاولات الانقضاض على تلك الثورات:

إن شعاع الربيع العربي سطع في الأفق عاليًا، والأمل الآن هو ألا يحل الظلام.

عودة الماضي

«كسقوط الفاكهة العفنة» هكذا شبه عالم الاجتماع ابن خلدون تهاوي السلطات، يبدأ الأمر بتناقل الولاية من سلالة إلى أخرى، وبعد مرور أعوام من السلطة، يكون الفساد مصير العائلة الحاكمة، فتضعف وتسيطر عائلة أخرى بعد طول انتظار، وتمسك بزمام السلطة لفترة زمنية معينة، لتعود وتصل بدورها إلى الفساد وتسقط.

وعربيًا، في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، بدا أن رياحًا جديدة تهب على الوطن العربي؛ ففي 1999، خلف الملك محمد السادس والده في المغرب، وحدث الشيء نفسه في الأردن حين تولى عبد الله الثاني، وفي 2000 أصبح بشار الأسد رئيسًا لسوريا، خلفًا لوالده حافظ الأسد. وكان هؤلاء الحكام الجدد من الشباب المتعلمين في الغرب، مقبلين بوعود التحديث.

وفي عام 2002، فاز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات في تركيا، وأصبح رجب طيب أردوغان رئيسًا للوزراء، فيما تطلع الجميع في 2005 بعد انتخاب محمود عباس رئيسًا جديدًا لفلسطين، للتوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل، وعلاوة على ذلك، أجرت مصر في العام نفسه أول انتخابات رئاسية.

ولكن على الرغم من علامات التفاؤل قبل عشر سنوات من الربيع العربي، كانت قلة قليلة من الخبراء تعتقد أن التغيير الحقيقي كان ممكنًا في العالم العربي، وعندما توافدت الحشود المصرية على ميدان التحرير في 25 يناير/كانون الأول 2011 نُقل عن محمد البرادعي قوله: «لعلنا نواجه حاليًا أولى علامات الربيع العربي».

وسرعان ما تحول الحلم إلى مجرد نسج أخيلة عقول متعطشة للحرية والكرامة، بل كابوس لدى البعض لابد من الاستيقاظ منه، وكانت عودة الماضي مآل تلك الثورات، فكيف تحوَّلت الأحلام إلى كوابيس؟

  • أسفرت عقود من الحكم السلطوي في الدول العربية التي تتخبط في لجج الأزمات أو تتأرجح على شفير الانهيار، عن فتح باب على مصراعيه أمام النزاع المسلح وانهيار الدولة وتآكل الحريات وانتهاك الحقوق.
  • الجهل بمتطلبات مراحل الانتقال بعد ثورة، في ظل الصراع الفكري والسياسي بين تيارين أساسيين على الساحة؛ الليبرالي والإسلامي، فضلًا عن غياب السند الدولي الذي يدعم خيارات الانتقال الديمقراطي.
  • مسئولية الإسلاميين ودافعهم الأيديولوجي المتأصِّل، حيث إن العباءات الإسلامية -بحسب معارضين- استخدمت من قبل الأنظمة لإضعاف المعارضة، وبمجرد أن سقط الحُكَّام المستبدون، تعرَّض الليبراليون على الفور للتهميش بينما دخل الإسلاميون في حلبة صراع مع بقايا النظام القديم من أجل الهيمنة.
  • في المقابل، سقطت الليبرالية العربية في هوة الربيع السحيقة، حيث لم يستطع الليبراليون تقديم بديل أيديولوجي متماسك ذا جاذبية واسعة، ودخلوا في سلسلة من المساومات من أجل الوصول إلى الحكم، ما أفقدهم المصداقية وضاع في خضم صراعهم هويتهم الحقيقية التي لم يعد لا الخواص ولا العوام يدركون خطوط بداياتها وتخوم نهاياتها، وفقًا لتحليل المفكر السياسي عمرو حمزاوي.

    فلم يعد مستهجنًا أن يشار إلى العدد الأكبر من الليبراليين التونسيين كمتحالفين مع بقايا حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، دون اعتبار لشبهات التورط في فساد الأمس واليوم، بل انتهجوا عداءً صريحًا للمطالب الديمقراطية المرتبطة بالتخلص من العراقيل أمام تجربة العدالة الانتقالية الرائدة. كما تحالفت شريحة من مُدّعي الليبرالية في مصر مع أنظمة متهمة بالقمع وانتهاك حقوق الإنسان.

وبالرغم من الانتقادات التي توجه إلى واشنطن، بسبب تركها ولادة كيان إرهابي تمدد عبر سوريا ووصل العراق، ظهرت موجة داخلية جديدة من الدراسات الأمريكية المعارضة لتوجهات الولايات المتحدة، والتي يمثلها على الخصوص «ناعوم تشومسكي» و«غور فيدال» و«ريشارد فولك»، و يرى الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث، أن الإسلاميين استخدموا أفكار هؤلاء لشحن الرأي العام أكثر ضد أمريكا على اعتبار أن مصداقية هؤلاء الباحثين أكبر.

في الوقت الذي نظرت فيه إسرائيل للفوضى التي أطلقها الربيع العربي بأعين متشككة، بسبب تنامي قوات حزب الله في على طول الحدود السورية مع إسرائيل، وتزايد العمليات الإرهابية في سيناء، كما قرَّب الربيع العربي بين تل أبيب وبعض دول الخليج سياسيًا وعسكريًا في معارضتها المشتركة لتصاميم الهيمنة الإيرانية على المنطقة، وبطريقة ما ساعدت السنوات السبع الماضية على دمج إسرائيل في مشاكل المنطقة، ولكنها ظلت تتدخل من خارج المشهد.

ووسط كل ذلك الزخم كشفت عمليات التحول عن تفكك النسيج العربي في الوقت هي أحوج ما تكون للوحدة، متمثل في سعي الأنظمة للقيادة الإقليمية، وأصبحت تركيا وإيران فاعلتين على نحو متزايد في العالم العربي، من خلال اعتماد الأخيرة على جهات محلية ومحاولة اللعب على الجوانب الدينية والعرقية.


سؤال المستقبل: رياح في أشرعة الربيع

إرث الحقبة الاستبدادية، والصراع السياسي والفكري بدون أدنى حصافة سياسية، ومع غياب السند الدولي، جعل أحلام الشعوب في النصر محض كوابيس.
بعد خمس سنوات من تضحية محمد بوعزيزي بنفسه، ما زال أكثر العرب حريةً هم «عرب 48» من مواطني إسرائيل.

بهذه الجملة صوّر موقع وول ستريت جورنال مآل الربيع العربي، حيث بدت تلك الثورات التي حققت انتصارًا بشق الأنفس أكثر هشاشة من أي وقت مضى، لكن قوبلت تلك النظرة السلبية بطرح آخر يرى المجتمعات العربية التي فشلت في قطف ثمار ثورات 2011 قد تعيد الكرة وتثور ضد ما تراه استمرارًا للظلم والفساد والاستبداد.

ويستند الطرح الأخير في ذلك على عدة إشارات. أبرزها توقع جريدة الجارديان البريطانية تفاقم الأحداث مرة أخرى بسبب الإبقاء على أسباب الغضب التي أدت إلى اندلاع الثورات بالمنطقة.

ولفتت الصحيفة إلى أن الغضب الذي تمخض عنه الربيع العربي عاود الاشتعال مجددًا في تونس، إذ ترتكز حول ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الأجور وزيادة أسعار السلع والخدمات بعد قرار الحكومة تقليص الميزانية وإدخال استقطاعات مالية لتقليل حجم العجز في الميزانية العامة، كما يتراوح عمر الغالبية العظمى من المواطنين حول العشرين عامًا، وهو الأمر الذي يدعم فكرة وقوع ثورات بشكل متكرر.

وتخلص الجريدة إلى مقولة أن النظام الحاكم بشكل ديمقراطي يجب عليه الحفاظ على الطبقة الوسطى؛ لأنها إن ضعفت تتضعضع الديمقراطية نفسها.

ومؤخرًا، وصل هفيف من نسيم الربيع إلى إيران، وكما في كل المظاهرات التي اندلعت بالمنطقة، بدأت تركز على مطالب محددة تتعلق بالاقتصاد والأحوال المعيشية، ومع استمرارها عدة أيام دون حلول جذرية من الحكومات، ارتفع سقف ما يطالب به المحتجون حتى وصل إلى تمزيق صور المرشد الأعلى للثورة الإيرانية -أعلى رمز ديني وسياسي في البلاد- وسط انتقادات عنيفة لنظام الحكم الديني في إيران.

يضاف إلى ذلك ظهور دعوات إلى «ثورة توافقية» تعيدُ إلى ثورات الربيع العربي روحها وتحقق التغيير العميق الذي تطالب به المجتمعات العربية، والتي دعا إليها عالم الاجتماع التونسي، «المنصف ونّاس».

ويمضي وناس في التأسيس لهذه الفكرة بقوله: إن «التوافق حصن سياسي وأخلاقي ضد التطرف، خاصة ضد العنف السياسي الذي تموج به المنطقة».

يعضد من تلك الدعوات دراسة النموذج التونسي، الذي سطر قصة النجاح الوحيد ضمن دول الربيع، حيث أصرّ الجيش التونسي على أن يتولى المدنيون إدارة المرحلة الانتقالية برمتها، كما تبنى دستورًا علمانيًا، واستطاع استكمال عملية التحول الديمقراطي. وفي هذا السياق،صرح راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة الإسلامي في تونس: «لقد ظللنا على جسر التحوُّل الديمقراطي بينما سقط الآخرون من فوقه».

مع قوائم الشهداء ومع كل الرصاصات التي سكبت في الصدور تتوارى أيام الثورة أمام محاولات الاقتناص والتشويه يقودها فريق مضلل من باعة الأكاذيب ولصوص الأجيال. على أن الصورة رغم قتامتها تنبئ بأن جيلًا عربيًا جديدًا ما يزال مؤمنًا بالحلم، فحتى وهو ينزف مازال يتحرك ويقاوم، وهو قادر على استعادة شعلة التغيير المقدسة.