هذا المقال يُنشر ضمن مسابقة «إضاءات» وأسبوع العلوم المصري للمقال العلمي/التقني.

دخل في حُلم عن النجوم.. بدأ يعشق النوم لأنه يقربه من السماء، يبدو أن عشق ذلك الطفل للنجوم وللنظر فيها اخترق أحلامه كما اخترق كيانه واحتل عقله منذ فترة بعيدة. أحلامه كانت تأخذه في رحلات نجمية.. يطير بين النجوم، يحادثها وتحادثه. يتجول بين المجموعات النجمية في شغف يفيض منه على العالم تحته. سمع صوت أبيه يتخلل الحلم، فقد دخل معه في الحلم فجأة، ثم أخذ الأب يشرح له ترتيب النجوم. أبوه الذي كان سببًا في ذلك الشغف الكبير بالسماء. لكن صوت أبيه الذي دخل حلمه كان من خارج الحلم، فأدخله عقلُه في سياق الحلم.. العقل ماهر في ذلك كما نعلم. صوت أبيه كان يوقظه من النوم على ما يبدو ليشاهد حدثًا جللًا.

هناك شيء عظيم ظهر في السماء.. لابد أن تراه.
ما الذي أتى به هكذا فجأة؟ نذير شؤم أم فأل حسن؟

خرج الطفل ذو التسعة أعوام مع أبيه، وصعدا تلّة قريبة كانا يتخذانها مرصدًا خارج الغابة، فقد كان تشابك الأشجار يمنع رؤية واضحة لصفحة السماء السوداء الصافية. وصلا إلى التلة وصعدا عليها، وأشار الوالد تجاه السماء، ناحية كوكبة الثور، فإذا بمفاجأة خلبت الطفل الصغير… ما هذا الموجود هناك؟ نجم جديد لامع ومتوهج بشكل مبهر.

لم يستطع الأب للأسف أن يجيب على ابنه، إذ كانت معارفه الفلكية لا تسمح له بذلك. كان لديه شغف السماء هو الآخر، لكن حياته الفقيرة لم تسمح له بأكثر من الاستمتاع بمنظر السماء ومعرفة بروجها.

ولسنتين تاليتين ظل النجم في السماء، لامعًا شامخًا، حتى أنه كان ألمع من كوكب الزهرة في السماء، بل وكان يظهر نهارًا كذلك. وعلى طول السنتين، لم يمر يوم دون أن يخرج الطفل ليشاهد النجم الجديد.. فقد عدّه صديقًا حميمًا.. كم من مرّة باح الطفل لصديقه بأحلامه حول السماء.

لكن الحياة لا تمنح دون أن تأخذ.

فمع مرور الوقت بدأ ضوء الصديق يخبو ويتلاشى رويدًا رويدًا، حتى جاء اليوم الموعود… يوم لا صديق سماويًا فيه. بكى الطفل، ولكنّه بدأ يكتب (فقد تعلّم الكتابة من شهور) مايمكن ترجمته بالآتي:

هنا في الصين، عام 1054 ظهر نجم زائر في السماء، ظل ماكثًا لسنتين ثم اختفى.

طوى لفافته التي كتب بها، وفكّر أنه كان لابد من تخليد ذكرى صديقه بالكتابة عنه. ها وقد فعل، ذهب الطفل إلى منزله، ونام ممنيًا نفسه بحلم يجمعه وصديقه الذي هجره.

سوبر نوفا، فلك، فضاء، سماء
محاكاة لمنظر السماء عندما رآى الطفل ذلك النجم الضيف

قبل ذلك* بسبعين قرنًا أو أكثر، وعلى بعد 6500 سنة ضوئية في الفضاء. ما حدث لنجمنا البعيد الذي نتحدث عنه هنا هو ما يحدث لكل النجوم الضخمة عندما تنتهي حياتها، وكأنها تريد أن تكون جنازتها مهيبة، تليق بتلك الكتلة المهولة. بدأ وقود النجم ينفد من مدة، فعاشت مكوناته فترة عصيبة، الهيليوم والهيدروجين شحّا في قلب النجم، وهو جاهز الآن لنهايته الحتمية.

أتعلمون، كنت أود أن أحكي لكم الحكاية من وجهة نظر فوتون من فوتونات الضوء التي خرجت من النجم في تلك الفترة الحرجة. لكنكم تعرفون، الفوتون هو آخر ما يمكن أن يحكي حكاية. فالنسبية الخاصة تقول إن الزمن بالنسبة له متوقف، لا يمر به زمن، وذلك لسبب بسيط جدًا وهو أنّه يسير بسرعة الضوء. لذلك سأحكي لكم أنا ما تبقى منها.

نعود لنجمنا المُحتضر. إذ انتهى وقوده تمامًا، لم يعد هناك ما يدعم النجم ضد جاذبيته التي تميل إلى سحق مكوناته للداخل، فحدث ما خشاه النجم المسكين، وانهار على نفسه تجاه المركز، ثم حدث أعنف ما يمكن أن يحدث في السماء.

السوبرنوفا، انفجار ضخم..مُطلقًا الإشعاع الكهرومغناطيسي بأشكاله المتعددة، الأشعة فوق البنفسجية، وأشعة جاما، وسيل من النيوترينوات Neutrinos (وهي جسيمات عديمة التفاعل مع المادة تقريبًا، ضع أمامها صلبًا أو سائلًا أو غازًا، ستمر غير عابئة.. منتهى اللامبالاة التي وددت امتلاك نصفها). وهناك طبعًا الضوء المرئي هو الآخر قد انطلق، أليفُنا بفوتوناته التي تضيء لنا الدنيا.

مجموعة من تلك الفوتونات التي انطلقت أثناء تلك الحفلة السماوية (وعندما أقول مجموعة فأنا أقصد مليارات الفوتونات) قادها حظها السعيد نحو نجم يقع على بعد حوالي 25000 سنة ضوئية من مركزه المجرة، ويدور حول ذلك المركز مرّة واحدة كل 250 مليون سنة.

سنعود لتلك الفوتونات وحظهم السعيد لاحقًا.

وانطلق، من ضمن ما انطلق أيضًا، ذرات مشعّة، منها النيكل، ولكنها تحللت في وقت قصير بعد الانفجار (سنتين تقريبًا).

انتشرت مادة النجم الخارجية وضوؤه ليكونا لوحة مهيبة، أطلق عليها البشر بعد ذلك اسم “سديم السرطان” Carb Nebula. أما النجم ذاته فقد تحول لما يسمونه «نجم نابض» Pulsar، وهو كرة ضخمة من النيوترونات (لذلك يطلق عليه أيضًا نجم نيوتروني (Neutron star) وله مجال مغناطيسي قويّ، يجعل الجسيمات المشحونة التي تقع في هذا المجال تنطلق منه كما المنارة التي يظهر ضوؤها ويختفي على بقعة ما من البحر لأن كشّافها يدور، فتصل تلك الجسيمات للأرض على دفعات أو نبضات.

سوبر نوفا، فلك، فضاء، سماء
الأغرب هو أن هذا النجم تفوق كتلته كتلة شمسنا، مع أن قطره يبلغ حوالي 20 كيلومترًا فقط، ويدور حول نفسه ثلاثين مرة في الثانية الواحدة!

ولأنك لم تركز جيدًا في كلامي، فقد نسيت تلك الحفنة الكونية من الفوتونات التي خرجت وقت الانفجار متجهة لنجم ما على بعد 25000 سنة ضوئية. عمومًا سأتغاضى عن إهمالك في تذكر ذلك، وأكمل ما بدأته مع رحلة الفوتونات.

ذلك النجم الذي اتجهت الفوتونات له يسمى الشمس، يدور حوله كوكب غارق في كمية كبيرة من الماء، اسمه الأرض. وكانت الأرض هي وجهة الفوتونات الأخيرة. ولأن المسافة من ذلك النجم البائس إلى الأرض تساوي ما يقارب سبعة آلاف سنة ضوئية، فقد سار شعاع الضوء الذي تكونه تلك الفوتونات زمنًا يُقدّر بسبعة آلاف سنة.. نعم سبعون قرنًا.

اقتربت الفوتونات من الأرض، فاتسعت أمامها المساحة، وظهرت أمامها التفاصيل وكبُرت… حتى ظهرت تلّة صغيرة يقف عليها أب وطفله… دخلت الحفنة المحظوظة عينا الطفل. فلمعت العينان.. وخفق القلب.. وازداد الشغف.. وبدأت الصداقة.. صداقة غريبة بين طفل ونَجم.. استمرت بعد ذلك لأكثر من سنتين.. وانتهت بدموع حارة..


* تم الإشارة بالفعل لظهور ذلك النجم (الذي هو انفجار نجم كما بينّا) في السجلات الصينية القديمة، ولكن قصة الطفل هي من إبداعي بالكامل.